تنحى جيانغ زيمين عن رئاسة الحزب الشيوعي الصيني. خلفه مريده الوفي هو جينتاو. تبديل روتيني في الحراس، والمحروس واحد. فكر ماوتسي تونغ الذي لم يمس، كما لم تمس نظرية "التمثيل الثلاثي" الهادفة الى ادخال الطبقات الصاعدة وبينها الرأسماليون الجدد الى الحزب. قد يبدو للوهلة الاولى لأي مراقب ان "العملاق الاصفر" الذي حرص المجتمع الدولي عموماً والغربي خصوصاً على هدهدته في سباته الطويل، بدأ يتململ. لا بل اكثر من ذلك، ربما بدأ يدخل مرحلة اليقظة. ففي الوقت الذي وصمت فيه انقلابات السلطة السابقة بالتطهير والتأمر واراقة الدماء، بما فيها تعيين جيانغ زيمين اميناً عاماً للحزب اثر احداث ساحة تيانان مين في 4 حزيران يونيو عام 1989، انتقل "هو" من الكواليس الى الاضواء وسط تصفيق "الرفاق" وترحيبهم الشديد بقرار جيانغ ادخال العنصر "الشاب" المجدد الى المواقع القيادية العليا في النظام. وأوحى ذلك كله بأن اكبر حزب في العالم يعد 66 مليون عضو بلغ مرحلة من النضج الفكري سمحت له بانتقاد ذاته والانطلاق من جديد بما يتماشى وروح العصر. كذلك شكل دخول نحو 180 عضواً جديداً دفعة واحدة الى القيادة المركزية، خطوة غطسير مسبوقة وضعت البلاد على مسار التحديث الصحيح. وجاءت القرارات الاخيرة بادخال الرأسماليين الجدد الى النظام واعتماد سياسات اقتصادية اكثر مرونة لتثبت فكرة ان "الاصلاحات" الفعلية بدأت تشق سبيلها الى حزب بدأ الوهن يتسلل الى مفاصله بعد 81 عاماً من الحكم. الا ان الحقيقة تختلف عن هذه الصورة الوردية "التقدمية"، ان جاز التعبير، اختلافاً جذرياً. فعلى المستوى السياسي، تعاني الصين اكثر من اي وقت مضى "ازمة قيادة" فعلية. وهذه الازمة تجلت الآن ولكنها بدأت مع جيانغ زيمين الذي كان حتى المؤتمر التاسع للحزب عام 1992 دمية تحركها مشيئة اسلافه. فهو دأب خلال هذه الفترة على اتباع خط اليسار المتطرف ليجتاز مرحلة الاختبار ويستحق عن جدارة لقب زعيم "الجيل الثالث". ثم بعد ان استتب له الامر، اي بعد مؤتمر 1992، امسك بنفسه بخيوط الدمى الاخرى، وراح يحركها، ولكن من دون اي يصبح يوماً ذلك القائد الذي يحرك الامة الصينية باسرها، مثل ماوتسي تونغ او دينغ هسياوبينغ. ولا يكتسي تنحيه عن السلطة اخيراً اي تجديد في الشكل او المضمون، لانه لا يبتعد قيد انملة عن الصراط الذي رسمه السلف. فالطريقة التي شكل فيها جيانغ القيادة الجديدة عبر وضعه مقربين منه حول هو تظهر انه باق في موقع القرار، تماماً كما وضعه هسياوبينغ على رأس الهرم في السابق، ليرتب شؤون البيت الذي كاد ان يهوي. ولم يكن صعود جينتاو الى رئاسة الحزب مسألة عفوية، او وليد الانتخابات "الشكلية" الاخيرة، التي سورت بسرية تامة كالبلاد نفسها. لقد تم تحضير جينتاو لتبوء هذا المنصب منذ ان بدأ نجمه يلمع وسط كادرات الحزب، عام 1985 عندما عين امين سر في مقاطعة غيزو جنوبي البلاد وهو في الثانية والاربعين من عمره. واوصى به دينغ هسياوبينغ خليفة لجيانغ، فتطبقت مقولة انه هسياوبينغ "يدير البلاد من قبره". واذا كان من داعية حقيقي الى الاصلاح والتحديث فهو هسياوبينغ، لان الفضل يعود له في تسريع الاصلاحات الاقتصادية عام 1992، في حين كان مهندسها الفعلي هو رئيس الوزراء زهو رونجي. وقد لا يكون من باب المبالغة القول ان هسياوبينغ نفسه لم يناد بالاصلاح حباً به، بل حفاظاً على استمرارية الحزب وسلطته. وهو ما تحقق على مرحلتين. اولهما قمع حركات المعارضة والتحرر من اجل ابقاء الحزب في الحكم، ثم اطلاق شعارات حملة الاصلاح الاقتصادي لاقناع الجمهور بان استمرار الحزب في الحكم هو خيار لا بديل عنه. وهذا ما فات جيانغ في خضم نضاله ضد ما يسمى بال "تطور السلمي" نظرية مفادها ان القوى الغربية تسعى الى ابعاد الصين عن الشيوعية. ولم يتنبه الى الوضع الا عندما لوح هسياوبينغ بعصاه قائلاً "من ليس مع الاصلاح فليترك المكان لغيره". ومن دون تأخير بدل جيانغ هندامه وركب موجة الاصلاح. اما على المستوى الاجتماعي، فاصبحت الاحتجاجات العمالية وحركات المعارضة بين صفوف الفلاحين، وان كانت ممنوعة من حيث المبدأ، ظاهرة شائعة في حياة الصينيين الذين ما عادوا قانعين بجدوى هذا الانعزال. وتفاقم الوضع لدرجة ما عاد باستطاعة النخبة الحاكمة تجاهله، فاصبح التغيير شراً لا بد منه، اقدمت عليه القيادة الحزبية مكرهة لا مخيرة. واذا كان جيانغ تمسك بالاصلاحات في السنوات الاخيرة وشق الباب امام متعهدي القطاع الخاص، فلانه يسعى الى امتصاص هذه القوة الفاعلة في البلاد وضمها تحت عباءته خوفاً من ان تفلت من سيطرته. ومثل هذا التصرف يهدد بقطع اخر الروابط بين قيادة الحزب وما بقي من فلاحيه وعماله بدل ان يوسع قاعدته كما هو مرجو. اضافة الى ذلك، لم يبد احد من الطاقم الجديد رغبة في تطوير الامور الجوهرية، كالانفتاح السياسي، واعتماد مقاربة جديدة في التعامل مع المعارضة، وارساء اسس دولة حديثة في صميمها، او حتى تطوير "البطاقة الفلاحية"! واذا كان جيانغ الرجل المناسب لاستلام مقاليد الحكم في وقت من الاوقات، يبقى ان الوضع اليوم في الصين يختلف عما كان عليه. وقد تكون الصورة المصغرة عنه والمتمثلة في "هو" غير كافية لاقناع الصينيين بهذه الخلافة ما لم تقدم لهم جديداً فعلياً. وفي هذا الاطار، يجد "الجيل الرابع" نفسه امام تحديات ابرزها قيادة الصين الى دخول منظمة التجارة العالمية، وتنظيم القطاع العام، واعادة ترسيخ شرعية حكم الحزب الشيوعي الصيني الذي فقد صدقيته في مجتمع لا يخفي تذمره من حالة الفساد المستشرية داخل النخبة الحاكمة. وقيل ان "هو" يدرك هذه التحديات كلها ويعي الاخفاقات التي مر بها الحزب لذلك سيسعى الى مواجهة المشكلات المترتبة عنها وحلها. ولكنه في المقابل مقتنع كل الاقتناع بانه قادر على استيعاب المعارضة واقناعها بمبادئ الحزب او في اسوأ الاحوال قمعها. واذا تمكن من تحقيق هذا الهدف، اي مجاراة التغييرات الداخلية والخارجية ضمن اطار مفاهيم الحزب، فيكون هو قد حمل بلاده الى مرحلة "ما بعد الايديولوجيا". مرحلة الصين فيها مدعوة الى اداء دور اكبر على الساحة الدولية. خصوصاً ان العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة على وجه التحديد تقودها قضية تايوان الشائكة. ولكن "الجيل الرابع" كما الثالث والثاني والاول، مقتنع بان الطريق المؤدية الى ذلك تمر اولاً بالازدهار الاقتصادي، ولكن هل من خطة واضحة لبلوغه؟ ليس ما يبشر بذلك حتى الان والاكيد ان الديموقراطية غير واردة على الاطلاق.