حين اختارت المطربة جاهده وهبه أن تغني موال "عالبال يا عصفورة النهرين" على "المسرح الكبير" في دار الأوبرا المصرية، في مهرجان الموسيقى العربية الحادي عشر، لا شك في انّها ارادت الإيحاء ان هناك لمسة لبنانية عميقة في عالم الطرب العربي، وأن هناك خامة صوت من النوع الذي بات نادراً يأتي من بلاد الرحابنة ووديع الصافي ليبرع في اداء قوالب الغناء العربي، وكما حددتها عبقريات لحنية: عبدالوهاب والسنباطي، وصوتية كما ام كلثوم حين غنت لها وهبه "عودت عيني". "الفرقة القومية العربية" التي قادها المايسترو سليم سحاب وفرت عبر سلاسة العزف، مرافقة موسيقية بدت في اتقانها الألحان الأصلية، متناسبة مع حضور قوي في صوت جاهده الذي قابله الجمهور بحفاوة يستحقها. دخلت جاهدة المسرح يرافقها سحاب الذي كان بذل جهداً لافتاً في تدريبات فرقته مع المطربة اللبنانية، وكانت نظرتها الواثقة الهادئة علامة، سيكتشف الجمهور انها تستند الى عمق خبرة صوتية وروحية في مقاربة الأشكال النغمية الأصيلة. وبعد موال "عالبال يا عصفورة النهرين" غنت "ما دام تحب بتنكر ليه" احد الألحان الدالة على عبقرية محمد القصبجي في صوغ موسيقى، ما انفكت تمتلك حضورها على رغم عشرات العقود. وما فعلته وهبه في ادائها الأغنية، اكد انها ليست مولعة بتقليد النسخ الأصلية للأغاني، انما هي تعمل على طبع لمسة شخصية في الأداء، بحيث تبدو روحيتها حاضرة في الأصل. هذا الاسلوب "الشخصي" بدأ يتضح ويتكرس كلما امضت جاهدة وقتاً اضافياً في الغناء، كأنها تشير الى انها من الأصوات المجيدة التي كلما غنت أكثر رق صوتها وأبدع. وتلوينات الأداء عند المطربة اللبنانية برزت في انتقالات صوتها ما بين قوالب غنائية تنوعت من "آمنت بالله" التي كانت انشدتها المطربة لور دكاش كانت حاضرة في الحفلة، تستمع الى جوهرتها الغنائية، وهى تلمع في صوت جاهدة اعتماداً على لحن من فريد غصن، الى اداء عميق ومؤثر لقصيدة "يا جارة الوادي" التي كانت حفلت بغناء اصوات فيروز ونور الهدى وصوت مبدع لحنها محمد عبدالوهاب. رافق وهبه في عزف لحن القصيدة على العود، العازف المصري الشاب حازم شاهين الذي كانت موهبته لمعت في "بيت العود العربي" بتدريب واشراف العازف المتمرس والمجدد نصير شمه. تجليات الأداء في صوت جاهدة تأكدت مع غناء لافت لقالب الدور الذي مثله لحن محمد عبدالوهاب "احب اشوفك"، في نغم يزاوج بين السلطنة والبوح الشفيف. هنا غنت باتقان وتمكن، فانتقل صوتها من "القرار" العريض المشبع بالهدوء الى تحليق الصوت في "الجواب" المرهف الذي من النادر ان يجد حدة في خامة وهبه. رخامة الصوت ورهافته ظهرتا مع غناء وهبة "عودت عيني"، حين اجادت في التنويع على المسار اللحني لرياض السنباطي، حتى انها زادت في التلوين بطريقة بدت فيها تنزاح بمسافة عن الأثر الأصلي، كما حفره صوت ام كلثوم، وأبدعت في إبراز رقة المسارات الصوتية ورهافتها.