دخلت اسرائيل مجدداً في خضم الازمات والانقسامات التي تراجعت إثر انتخاب آرييل شارون رئيساً للوزراء وتشكيل حكومة ائتلافية برئاسته، وذلك بعدما انتهى شهر العسل الاسرائيلي مع انهيار "حكومة الوحدة الوطنية" إثر خروج وزراء حزب العمل منها، وأدى هذا الخروج الى عودة التذرر السياسي الذي عبّر عن نفسه في التجاذبات وعمليات الابتزاز بين احزاب اليمين، وداخل تكتل ليكود، وانتقال وزراء العمل المستقيلين من الحكومة، الى موقع الهجوم على سياسة شارون، في مشهد لا يخلو من الهزل السياسي. وعلى عكس التوقعات، فشل شارون ايضاً في الحد من التداعيات وتفاقم الأزمة، عندما عجز عن تشكيل حكومة يمينية متطرفة، ما دفعه مكرهاً الى الدعوة لاجراء انتخابات مبكرة في كانون الثاني يناير المقبل. وطرحت هذه التطورات المتسارعة على المسرح السياسي الاسرائىلي جملة من التساؤلات حول العوامل التي أدت الى انفراط عقد الحكومة الائتلافية الاسرائىلية، وأسباب فشل شارون في تشكيل حكومة يمينية خالصة وانعكاسات ذلك على الانتفاضة. تشير كل الوقائع والمعطيات، الى ان حكومة الائتلاف الشارونية انهارت بفعل عوامل عدة في مقدمها فشل سياسة شارون الأمنية في القضاء على الانتفاضة على رغم إطلاق العنان لجيش الاحتلال في شن حرب وحشية ضد الشعب الفلسطيني. فلم تحصد هذه الحرب الا استمراراً للانتفاضة مع تزخيم عملياتها التي باتت تستنزف اسرائيل بصورة لم تعرف مثيلاً لها منذ قيامها على أرض فلسطين، على الصعد البشرية والمادية والاقتصادية، اذ أسفرت عمليات المقاومة عن مقتل أكثر من 650 اسرائىلياً في العامين الماضيين، فيما ادت الانتفاضة اقتصادياً الى تفجير أزمة لم يسبق لها مثيل، مما دفع الصحافة الاسرائىلية الى الحديث عن اهتزاز الاستقرار الاقتصادي بعد اهتزاز الاستقرار الأمني. اذ تضاءلت الاستثمارات وتراجعت معدلات النمو بنسب كبيرة حتى باتت معدلات سلبية، وتراجعت السياحة بنسبة 35 في المئة، وتراجع مستوى المعيشة منذ اندلاع الانتفاضة بنسبة ستة في المئة، وتآكلت الأجور بنسبة أربعة في المئة. وتجلت هذه الأزمة في اقدام الحكومة الاسرائىلية على تقليص موازنة التقديمات الاجتماعية، وزيادة الموازنات الأمنية والاستيطانية لمواجهة تصاعد عمليات المقاومة، مما أدى الى نشوب خلافات داخل الحكومة. ومن جهة أخرى، أدت المقاومة والانتفاضة الى زيادة منسوب الهجرة المعاكسة من فلسطين الى الخارج، فبلغت أرقام المهاجرين بحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت" الاسرائىلية ما يناهز 2،1 مليون، وهو ما يتجاوز عدد المستوطنين الذين استقدموا في السنوات التي تلت توقيع اتفاق أوسلو، والذين بلغوا المليون. ومن بين العوامل التي أدت الى انهيار الحكومة، الصراعات الداخلية، والمنافسة المحتدمة بين المسؤولين الاسرائىليين سواء في تكتل ليكود أو في حزب العمل، حيث لا يخفى ان وزير الدفاع المستقيل بنيامين بن اليعيزر، يحاول ترميم شعبيته في مواجهة منافسيه على زعامة حزب العمل حاييم رامون، ورئيس بلدية حيفا عميرام متسناع. وفي المقابل، يواجه شارون خصماً قوياً في الليكود هو بنيامين نتانياهو الذي يزايد عليه يمينياً، ما دفع شارون الى رفض مطلب وزراء حزب العمل خفض مخصصات المستوطنات. أما لماذا فشل شارون في تشكيل حكومة أكثر تطرفاً، فمن المعروف ان الانتخابات الاسرائىلية العامة والاخيرة أدت الى مجيء رئيس وزراء قوي، لكن في المقابل عكست تشكيلة الكنيست الانقسامات في المجتمع الاسرائيلي، مما أضعف الاحزاب الكبيرة الليكود والعمل، لمصلحة تنامي احزاب صغيرة باتت تملك بيضة القبان في لعبة تشكيل الحكومات، عندما يكون من الصعب تشكيل حكومة ليكودية - عمالية، أو عندما تنهار حكومة من هذا النوع، وهو ما حصل بالفعل بعد انفراط عقد حكومة شارون الائتلافية، التي عاشت وقتاً أكبر مما هو متوقع لها. وحاول شارون تشكيل حكومة يمينية خالصة، واقترح لذلك منصب وزارة الدفاع على شاؤول موفاز، والخارجية على بنيامين نتانياهو، والبنى التحتية على أفيغدور ليبرمان، واذا كان موفاز قبل سريعاً المنصب، الا ان نتانياهو مارس الابتزاز السياسي عندما طرح شروطاً لقبول المنصب، في مقدمها التعهد باجراء انتخابات مبكرة. أما ليبرمان فاشترط شطب اتفاقات أوسلو. وفسّر المراقبون تمنع ليبرمان بأنه ناجم عن واحد من أمرين: اما انه يريد ان يرفع سعره الشخصي ليفوز بوزارة كبيرة مثل الخارجية، أو انه يريد الاسراع في انهاء عمر هذه الحكومة لخدمة حليفه بنيامين نتانياهو. غير ان شارون الذي استغل ضغوط الليكود من اجل ان يشترط على نتانياهو تولي حقيبة الخارجية بالموافقة على اجراء الانتخابات العامة في تشرين الاول أكتوبر المقبل، كان يهدف الى محاولة البقاء عاماً كاملاً في الحكم من دون المجازفة بانتخابات مبكرة، وجلب اليمين الأقصى الى داخل الحكومة من دون الاضطرار الى تغيير الخطوط الأساسية للحكومة كما تعهد بذلك للإدارة الاميركية. لكن شارون فشل في تحقيق هدفه هذا، عندما أصر ليبرمان زعيم الاتحاد القومي، "اسرائيل بيتنا"، على موقفه القريب من رغبة نتانياهو الذي له تأثير كبير على ليبرمان، مما أجبر شارون على المسارعة الى حل الكنيست والتقدم بطلب تقديم موعد الانتخابات العامة الى كانون الثاني المقبل في محاولة منه للحد من هزيمته، وعدم ترك المبادرة في يد خصومه، واستجابة لرأي مستشاريه الذين شاروا عليه بتقديم موعد الانتخابات لتجنب الاذلال الذي يلقاه في مساوماته مع الكتل الائتلافية. واستهدف تحديد موعد الانتخابات بهذا الشكل أمرين: الأول: عدم اعطاء الفرصة لخصوم شارون لخوض معركة انتخابية بسبب الوقت القصير واضطرارهم الى خوض معارك انتخابية داخل احزابهم تمهيداً للدخول في الانتخابات العامة. والثاني: اجراء الانتخابات قبل حصول اي هجوم اميركي متوقع على العراق، اذ لا يريد ان تجرى الانتخابات بعد الحرب اذا وقعت، لأن الظروف في حينها قد لا تكون لمصلحته. ومما لا شك فيه ان هذه التطورات تدلل على عودة اسرائيل الى حال التذرر والانقسام وعدم قدرة الحكومات الاسرائىلية على الاستمرار لفترة طويلة اذ حاول شارون احتواء الازمة المتفجرة، وحاول لملمة اليمين لكنه فشل في ذلك. وهذا يؤشر الى ان الظروف التي عملت لمصلحة شارون على مدى عامين ونيف تبدلت، فهو جاء في البداية الى السلطة بقوة سمحت له بتشكيل ائتلاف واسع، في ظل اجماع اسرائىلي، اما اليوم فانه استهلك رصيده وقوته في وجه الانتفاضة وفشل في تحقيق اي نتائج، على رغم الظروف الدولية النموذجية التي توافرت له، وتبدت في الموقف الأميركي بعد 11 أيلول سبتمبر الذي أطلق يده لقمقع الانتفاضة، في ظل صمت دولي. من هذا المنطلق فان العوامل التي وفرت الفرصة لتماسك اسرائيلي تلاشت وسط ازمات تجتاج الكيان الاسرائيلي بفعل حرب الاستنزاف التي تخوضها المقاومة والانتفاضة ضده. لذلك فان انعكاسات ما يحصل اسرائيلياً على صعيد الانتفاضة ستكون ايجابية على عكس ما يعتقد البعض، من ان الحكومة اليمينية الانتقالية الحالية قد تندفع قبيل حصول الانتخابات المبكرة نحو تنفيذ اعمال عدوانية ضد الشعب الفلسطيني، وهذا ما يحصل كل يوم. لكن ماذا في جعبة اليمين المتطرف ليقوم به، بعدما استخدم شارون كل ما في جعبة هذا اليمين. * كاتب فلسطيني.