تشهد الولاياتالمتحدة تبدلاً ملحوظاً في أجواء الشحن والتعبئة للحرب المرتقبة على العراق. ففي حين لا يزال التأييد الشعبي مرتفعاً لأية خطوة يخطوها الرئيس الأميركي، على ما تفصح استطلاعات الرأي العام، فإن الصف المناهض للحرب اكتسب في الآونة الأخيرة زخماً كان يفتقده وتأطيراً كلامياً كان غائباً عنه. والواقع الجديد ليس كافياً بحد ذاته لتبديل السياسة التي يعتزم الرئيس انتهاجها، لكنه يُدخل عوامل محلية انتخابية وفكرية في الاعتبار ويفرض على الرئيس النظر والتروي، لا سيما على مسافة شهر وحسب من الانتخابات النصفية. ويأخذ التبدل ازاء موضوع الحرب مع العراق أشكالاً عدة، فإشهار الخروج عن منطق التعبئة الذي ينادي به مختلف المسؤولين الأميركيين لم يعد من المحرمات، وفيما عاودت الصحافة نشر المواقف والتعليقات الناقدة للخط الرسمي، فإن الملصقات والتظاهرات المعادية لسياسة الرئيس عادت بدورها إلى الظهور. وأعداد المشاركين في هذه الأنشطة تبقى محدودة، لكن صفة الخيانة أو الخروج عن الاجماع الوطني لم تعد تنطبق عليهم، ذلك أن التشكيك بصوابية التوجه الحربي، سواء من حيث المبدأ أو التطبيق، لم يعد حكراً على جانب سياسي واحد، بل هو اليوم يشمل التقدميين كما المحافظين والتحرريين، ويصدر عن محازبين "ديموقراطيين" كما عن آخرين "جمهوريين" أي من حزب الرئيس نفسه. وأسباب تراجع التأييد للحرب عدة، قد يكون أهمها اتضاح الطبيعة العقائدية للمعركة المرتقبة. ذلك أن عموم الجمهور الأميركي كان على استعداد للقبول بمفهوم الحرب الاستباقية أو الوقائية، انطلاقاً من أنه، بعد اعتداء 11 أيلول سبتمبر 2001، لم يعد إمكان تعرض البلاد لاعتداء بالأسلحة الفتاكة مجرد احتمال بعيد، بل أصبح أمراً مرتقباً. وقد نجحت الحكومة الأميركية، عبر الاشارات المتكررة إلى ماضي صدام حسين وعدائيته وتوريطه العراق في الحروب المختلفة واستعماله الأسلحة المحظورة لا في إطار الحرب مع إيران وحسب، بل في داخل العراق نفسه، نجحت في اقناع الجمهور بأن صدام يشكل خطراً محتملاً على المصالح الأميركية وعلى الولاياتالمتحدة نفسها، إلا أن دعوة الحرب تضمنت قدراً من التردد والابهام في محاولة اقناع الجمهور بأن هذا الخطر ليس محتملاً وحسب، بل هو خطر داهم. فقد برز في هذا الصدد طرحان متداخلان أحياناً متضاربان أحياناً أخرى، أحدهما يشير إلى علاقة ما بين تنظيم "القاعدة" والنظام العراقي ويلمح إلى تورط هذا النظام باعتداء أيلول، والآخر يتحدث عن اتساع ترسانة أسلحة الدمار الشامل العراقية واقتراب حصول العراق على القنبلة الذرية. وفي كلا الطرحين فإن الحكومة الأميركية لم تقدم للجمهور المادة الكفيلة بالاقناع، بل حاول مختلف المسؤولين الاعتماد على التفويض الشعبي الذي بدا ممنوحاً للحكومة ورئيسها في أعقاب الاعتداء قبل عام ونيف. إلا أن أجواء الخوف التي أدت إلى هذا التفويض تراجعت اليوم. وازاء الابهام في الموقف الحكومي، تعالت الاتهامات التي ترى أن المسعى في هذا الموقف هو تبرير قرار مسبق بالحرب، فكثرت التساؤلات العلنية حول السبب الفعلي لهذا القرار. ومن التقديرات المتداولة لهذا السبب فشل حكومة الرئيس بوش في وضع اليد على بن لادن وحاجتها إلى انتصار واضح في "حربها" على الإرهاب، وصولاً إلى التفسير الشخصي الذي ساهمت في الترويج له "صراحة" الرئيس بوش الذي تحدث عن عزمه على استهداف "الرجل الشرير الذي حاول قتل والدي". غير أن ما أثار حفيظة العديد في المجتمع الأميركي هو الإفراط في التأطير العقائدي الذي أقدم عليه بعض "المحافظين الجدد". يذكر هنا أن "المحافظين الجدد" هم أصحاب الخط الداعي إلى تدخل أميركي فعّال في السياسة الخارجية لدفع التطور العالمي باتجاه ينسجم شكلاً ومضموناً مع الأسس الأميركية في التنظيم السياسي والاقتصادي، ويضمن بالتالي المصلحة الوطنية للولايات المتحدة، وإذا كان كل "المحافظين الجدد" يشتركون في هذه القناعة، فيبدو أنهم يختلفون من حيث حماسهم لوضعها موضع التنفيذ السريع، إذ في حين يكتفي البعض منهم بدفع الرئيس بوش إلى اتخاذ قرار "تغيير النظام" في الموضوع العراقي، فإن البعض الآخر اطلق العنان لمخيلته وأهوائه، فراح يطالب بحرب عالمية ثالثة تنتهي بغالب هو الولاياتالمتحدة ومغلوب هو "الآخر" المبهم ذو الملامح العربية والإسلامية. والنماذج على هذا التوجه عديدة، ومن اكثرها صراحة ما كتبه نورمن بودهورتز في المجلة الشهرية النافذة الصادرة عن اللجنة الاميركية اليهودية، ودعا فيها الى توسيع وجوب تطبيق مبدأ تغيير النظام بما يتعدى دول "محور الشر" ليشمل كحد ادنى سورية ولبنان وليبيا، على ان يجري العمل في ما بعد على انزال هذا التغيير بالمملكة العربية السعودية ومصر والسلطة الفلسطينية، فالمطلوب هو انزال الهزيمة بما يسميه بودهورتز مجازاً "الشرق الاوسط" وفرض نظام جديد يرتقي به الى المستوى الحضاري الذي يرضى عنه بودهورتز واقرانه من "المحافظين الجدد". فالمبالغة في الحماسة لدى صقور "المحافظين الجدد" لزج البلاد في معركة وجودية مع خصم هو في نهاية المطاف العالم الاسلامي برمته ادت الى نتيجة عكسية باثارتها قدراً من القلق لدى العديد من الاوساط الشعبية، مما اتاح الفرصة أمام المعارضين للحرب المرتقبة للتقدم بطرحهم والاقدام على خطوات كانت ممنوعة شعبياً الى امس قريب. وتختلف بطبيعة الحال دوافع معارضة الحرب. فالموقف الحزبي الديموقراطي يتضمن سعياً واضحاً الى "التايمز" عن خط الرئيس الاميركي. ويشكك الجمهوريون تلقائياً بالدافع الحقيقي وراء هذا السعي. فحين يعلن آل غور نائب الرئيس السابق والمرشح الديموقراطي السابق وربما اللاحق للرئاسة، انه يتوجب على الرئيس التركيز على مطاردة تنظيم القاعدة والعمل على النهوض بالاقتصاد بدلاً من فتح ابواب معركة جديدة، يرى الجمهوريون ان الامر لا يتعدى محاولة الظهور الاعلامي تحضيراً لمبارزة انتخابية مقبلة. وكذلك حين يقاوم توم داشل، زعيم الاكثرية الديموقراطية في مجلس الشيوخ منح الرئيس بوش حق استعمال القوة إزاء العراق، فأن الداعي، من وجهة نظر جمهورية هو البروز في المنافسة ضمن الحزب الديموقراطي بين داشل وكل من ريتشارد غيبهارت، زعيم الاقلية الديموقراطية في مجلس النواب وجوزف ليبرمان عضو مجلس الشيوخ والمرشح السابق لمنصب نائب الرئيس، للاضطلاع بالدور الطليعي الذي يخوله الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة. والواقع ان الاعتبارات الانتخابية لا تغيب أبداً عن أية خطوة يقدم عليها السياسيون الاميركيون، لكنها وحدها غير كافية لتفسير توجهاتهم، إذ لا شك ان ثمة ثمناً سياسياً باهظاً لا بد ان يدفعه كل من أعضاء مجلس النواب جيم ماكدرموت وديفيد بونيور ومايك تومسون، نتيجة للرحلة التي قاموا بها أخيراً الى بغداد. والاتهامات بالخيانة تتوالى لتوها. غير ان إقدام النواب الثلاثة على رحلتهم يبقى دليلاً على التغيير في الموقف الشعبي وتعزيزاً لهذا التغيير. ومن جهة اخرى، فإنه لا بد من إدراج التجاذب المعتاد بين السلطتين التنفيذية المتمثلة بحكومة الرئيس بوش، والتشريعية المتمثلة بالكونغرس، في الاعتبار عند تقويم موقف توم داش المقاوم لمطالب الرئيس، ولا شك ان الطابع الحزبي والاعتبارات الانتخابية قد تعزز التجاذب، لكن هذا التجاذب يبقى عنصراً اساسياً في النظام السياسي واحد اعمدة توازن السلطات في الولاياتالمتحدة. وعلى رغم بروز التنافس الحزبي والتجاذب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية كعناصر اساسية في تنامي المعارضة للحرب، إلا انه لا يمكن اختزال هذه المعارضة بالصراع بين الجمهوريين والديموقراطيين. إذ بالاضافة الى الاصوات الجمهورية والمحافظة العديدة التي وقفت موقفاً معادياً للحرب، سواء منها التي تم استرضاؤها وإن جزئياً مثل ديك آرمي، أو التي مازالت على موقفها مثل الجمهوري السابق والشعبوي الدائم باتريك بوكانان والمعلقة المحافظة آريانا هافنغتون، فإن الاعتراض بلغ مرابض التأييد السابق لسياسة بوش. ومن ابرز النماذج المواقف الصادرة يوم الاثنين الماضي، في اطار ندوة اعدها معهد القيم الاميركية، بما فيها اعتبار مايكل والتزر، أحد أبرز الفلاسفة السياسيين في الولاياتالمتحدة، وأحد اهم المنظرين لمفهوم "الحرب العادلة"، ان الحرب على العراق لا تدخل في اطار هذا المفهوم. فبغضّ النظر عمّا قد تقدم عليه الحكومة الاميركية، يبدو ان هذه المرحلة تشهد انحساراً للتسليم شبه الكامل الذي حظي به بوش في اعقاب اعتداء ايلول. وهذا الانحسار دليل على سير الولاياتالمتحدة باتجاه تخطي مخلفات الاعتداء، لكنه ايضاً دليل على جشع وتسرع في اوساط "المحافظين الجدد" في سعيهم لوضع افكارهم موضع التنفيذ.