Youssef chaitani. Dissension among Allies. فرقة بين حلفاء. Saqi Books, London-Beirut. 2002. 156 pages. كانت مرحلة 1945-47 بالغة الأهمية للقضية الفلسطينية لسبب بديهي هو انها انتهت باعلان التقسيم. لكنها شهدت أيضاً، وللمرة الأولى بعد الحرب الثانية، تبوء قطب عمالي ويساري في حزبه هو ارنست بيفن وزارة الخارجية البريطانية، هو الذي حاول توجيه سياسته بما يخدم مصالح "الكادحين" العرب واليهود، وكذلك الدول العربية الناشئة للتو، فضلاً عن بريطانيا بالطبع. وكان الوجه الآخر لأهمية تلك الحقبة أنها سجّلت كثافة واحتداماً في العلاقة الاميركية - البريطانية حيال الموضوع الفلسطيني مع استهلال عالم جديد. وفي كتابه، وهو بالأصل أطروحة جامعية، يختار يوسف شيطاني مدخلاً له شخصية بيفن ودوره في حزب العمال الذي حقق انتصاره المدوّي في انتخابات 1945. و"العمال" إنما كانوا معروفين بسياستهم المتحمسة لإقامة دولة يهودية، وتشجيع الهجرة اليهودية بالتالي. ولئن تساوى قائدهم كليمنت أتلي مع القائد المحافظ ونستون تشرشل في الحماسة، غير ان قواعد العمال بدوا أشد صلابة وتماسكاً في الوجهة هذه. أما القطب النقابي اليتيم الذي صدر عن بيئة مدقعة وحياة شاقة، ليتشدد لاحقاً ضد ممالأة النازية، فاختير لشغل وزارة الخارجية لسببين قد يبدوان متعارضين، علماً أنهما يفسّران خصوصية بيفن وبعض اليسار الأوروبي آنذاك. فهو، لصلابته، الرجل المطلوب في وجه الروس كما انه، على عكس المرشح "الأرستقراطي" هيو دالتون تولى الخزانة، مؤهل للتعاطي الايجابي مع الصهاينة. وفي الشرق الأوسط تحديداً، اهتم كيساري ب"التحالف مع الفلاحين لا الباشوات"، لكنه أيضاً اعتبر "الشراكة الانغلو-عربية" نافعة للمجموعة الدولية كلها. فالمنطقة ينبغي، عنده، ان ترتبط بلندن بمصالح اقتصادية من دونها تستحيل إقامة أحلاف تصدّ موسكو. بيد ان العرب، مع صعود حركاتهم القومية، رأوا في بيفن امبريالياً اكثر بكثير مما رأوا فيه اشتراكياً متعاطفاً مع شعوبهم، رافضين الأحلاف التي يعرضها عليهم، فكيف وان بريطانيا الراكدة اقتصادياً لا تملك ما تقدمه لهم؟ ذاك ان الحرب جعلتها بلداً مَديناً، بين دائنيها مصر والعراق اللذان بات لهما في ذمتها 400 و70 مليون جنيه. ومما له دلالته انها خسرت، بين ما خسرته، 40 في المئة من أسواقها الخارجية حظيت الولاياتالمتحدة بمعظمها. في وضع سيء كهذا، وعملاً بولائه لتحسين ظروف الفئات العمالية والدنيا، بدت سياسة بيفن الخارجية ميالة الى الانكفاء. إلا ان الانكفاء بدا أصعب ما يكون في فلسطين. فموسكو كانت لا تزال تحتل شمال إيران، ولئن بدأ يُطرح احتمال انسحاب القوات الأميركية من أوروبا كما قررت بريطانيا الانسحاب من مصر والهند، غدا البقاء في فلسطين مُلحاً، خصوصاً أنها بلد بحري وفيها مصفاة حيفا. وفي هذا الحيّز المتزايد ضيقاً، حاول أن يستجيب حقائق ثلاثاً: ان "بلفور مات" كما هتف بصوته في مجلس العموم عام 1947، وان انتفاضة 1936 - 39 ولدّت معطيات جديدة، وأخيراً، ان النازية والحرب تسببتا في المعاناة الكبرى ليهود أوروبا. أما الخلاصة التركيبية فكانت دولة فلسطينية تتسع للعرب واليهود. واذا نيط بالأخيرة استقبال اليهود اللاجئين من أوروبا، ظلت الأولوية لدمجهم حيث هم، لا لتشجيعهم على الهجرة أو إقامة دولة. ولأن يسارية بيفن لم تمنعه من اعتبار النفط شرطاً من شروط ازدهار بلاده، تجمّعت الأسباب الكفيلة بتجييش الناشطين القوميين اليهود ضده، وصولاً الى اتهامه باللاسامية. واكتملت محاصرته مع الاضطرار الى أخذ واشنطن في الحساب لدى رسم السياسات الفلسطينية، لا سيما في ظل تعاظم الاعتماد الاقتصادي عليها. وكان ترومان قد شرع يضغط على لندن، منذ 1945، لتسهيل الهجرة اليهودية. وبدوره استرجع بيفن الخطة التي كانت خلّفتها الحكومة الائتلافية عام 1939 والمعروفة ب"الورقة البيضاء". فهذه قضت باستبعاد التقسيم واقامة دولة فلسطينية مستقلة خلال عقد، على أن تُحدد الهجرة ب75 ألفاً على مدى خمس سنوات. لكن الورقة التي عُمل بها بين 1939 و1943 غيّرتها ظروف الحرب لصالح الحركة الصهيونية. وترافق التفكير بالعودة اليها مع تداول أفكار كإقامة مملكة من فلسطين والأردن، أو اقتراح حكمين ذاتيين للمجموعتين. بيد أن الرأي العام الأميركي بدا شديد النقدية لما يجري من "تشدد مع اليهود". وتحت هذا الضغط مال بيفن الى التخلي عن "الورقة البيضاء" مع التمسك بضرورة عدم تنفير العرب. لكن في 1945 تدهور الوضع، في فلسطين، على ايقاع عنف صهيوني واجهه بيفن بصرامة. وبدورها تجددت الضغوط الأميركية لتسهيل هجرة مئة ألف يهودي، ما أملته أسباب انتخابية موشّاة بمشاعر انسانية حيال اللاجئين من ضحايا النازية. ولئن نبّه بيفن الى أن ادخالهم يصعّد المشاعر اللاسامية في فلسطين ويُضعف فرص الاندماج في أوروبا، عززت الحركة الصهيونية هجومها عليه. فترومان تمسك بسياسة "تصريح وعد بلفور" غامزاً من قناة "الامبريالية الانكليزية"، وهذا علماً أن موظفي الخارجية الأميركية كانوا، على عكس البيت الأبيض، أقرب الى الحذر البريطاني خوفاً من انفجار المنطقة وارتفاع وتيرة العداء العربي لهم. ولرأب الصدع، اقترح بيفن تشكيل لجنة أنغلو أميركية تتقصى وضع المئة ألف لاجىء لكن اللجنة شهدت تباين آراء الطرفين. فهي جاءت متفاوتة جداً: أعضاؤها الأميركان الستة عيّنهم البيت الأبيض من دون أن يتمتعوا بخبرة في الموضوع، على عكس أعضائها الستة البريطانيين. وبعد اطلاع على أوضاع اللاجئين في لندن ورحلتين الى مصر وفلسطين، أوصت اللجنة بقبول هجرة المئة ألف واتاحة بيع الأراضي قانونياً، فضلا عن اقامة دولة ثنائية القومية. وهكذا دُفنت "الورقة البيضاء" من غير أن تتراجع حدّة الصدام بالحركة الصهيونية. ذاك أنها، بدل تسليمها السلاح، سعت وراء صفقات جديدة مولّها أثرياء يهود أميركان، فيما أعطت الأولوية في اختيار المهاجرين للاعتبارات العسكرية. كذلك اهتمت لندن باستكشاف الاستعداد الأميركي للمشاركة في تحمّل المسؤولية، المالية كما السياسية والأمنية، عن نقل المئة ألف. ولما لم تظهر اشارات ايجابية تعاظم الخوف من ان تسمّم المسألة الفلسطينية العلاقة بواشنطن فيما الحاجة على أشدها للتعاون في أوروبا. وتركزت نقاط الخلاف الأبرز على تأييد اميركا للبنود المحابية لليهود دون سواها من توصيات التقرير، فضلاً عن عدم اكتراثها بالعرب. فحين القى بيفن "خطاب بورنماوث" متناولاً أعمال العنف في فلسطين وما تثيره من مشاعر لاسامية، خصوصاً "أنهم لا يريدون يهوداً في نيويورك" اندفعت الأمور الى الهاوية. وإذ فشلت كل المحاولات لانقاذ التقرير، تجلّت المعضلة في أن الطرف الأضعف بريطانيا هو الأكثر ادراكاً لاستراتيجية أشمل وأوسع تمثيلاً، تريد صيانة عموم المصالح الغربية والتوفيق بين حق الفلسطينيين ومعاناة يهود أوروبا. وبحصول عملية فندق الملك داوود الارهابية دفعت لندن مجدداً باتجاه عقد مؤتمر عربي-يهودي حول فلسطين، ولاحت فكرة الحكم الذاتي الموقّت حلا معقولا يحظى بتأييد حاييم وايزمن. فهي تلغي إمكان قيام دولة عربية على كل فلسطين، وتمهّد لاحتمال قيام دولة يهودية على مساحة واعدة اقتصادياً هي ثلاثة أضعاف ما حددته "الورقة البيضاء"، كما تضمن ادخال المئة ألف وتوقف عمليات الدهم البريطاني. وفيما رأى بيفن الى هذه الصيغة كجزء من حل اقليمي لا يستبعد الصلة الفيدرالية بالأردن ولا إقامة ترتيبات دفاعية عربية مع بريطانيا، تغلّب صهيونياً خط بن غوريون الطالب للتقسيم الفوري. وبدورهم تصلّب العرب ضد أي كيان لليهود، فأُجّل مؤتمر لندن. وعشية انتخابات 1946 الأميركية، قرر الرئيس الأميركي أن يعلن، في عيد الفصح اليهودي، تأييده الصريح للتقسيم، متجاهلاً البريطانيين بصورة مهينة. وبالنتيجة انتعش الموقف الصهيوني وغدا عصياً على أية تسوية، كما تحالف اليسار واليمين الأميركيان والحركة الصهيونية ضد ما تبقى من نفوذ كولونيالي لبريطانيا. فعندما زار بيفن نيويورك أواخر 1946 واجهته مظاهرات شبّهته بهتلر كما تعرّض لعدد من الاهانات. ومع إصراره على أن الأطراف الثلاثة التي يتعامل معها، أي أميركا والعرب والصهاينة، أطراف "صعبة"، لم يتزحزح عن رفضه الإقرار العلني بالتقسيم: إذ أي تصريح بوجود استعداد "لدينا" سيجعل الصهاينة يطالبون بفلسطين كلها. وعلى العموم اقتنع الوزير العمالي، بعد الرحلة الأميركية، بضرورة تسليم الأمر للأمم المتحدة إذ يستحيل البقاء في فلسطين وحل مشكلتها غصباً عن الطرفين ومعهما الرأي العام الأميركي. وفي محاولة أخيرة لتذليل العقد، وكي لا "نبدو" مسؤولين أمام العرب عن تقسيم فلسطين، تمكن بيفن من عقد آخر دورات مؤتمر لندن. وهنا أيضاً ضغط لمصلحة حكم ذاتي موقّت رفضه الطرفان، وكان المأزق الكبير الذي ردّه، هو، الى عدم تعاون واشنطن، حاسماً لمصلحة وضع المسألة في عهدة الأممالمتحدة. وهكذا حلّ التقسيم الذي توقّفت قبله هذه الرسالة الجامعية الممتازة التي كان ينقصها بعض الإسهاب التحليلي كي تصبح كتاباً ممتازاً.