الناصرة تستقبل بدايات الخريف صاحية على غير عادة على أيام فلسطينية متلبدة. لكن الشاعر الفلسطيني سميح القاسم استقبلنا بابتسامته المعهودة التي تخفي الكثير من الألم وكان لنا معه حديث حول قضايا الإبداع والفكر والسجن والمرحلة الراهنة والعالم العربي. وشاعر مثل سميح القاسم غنيّ عن التعريف، فقصائده منتشرة في العالم العربي ومواقفة الصدامية التي يعلنها حيناً تلو حين تثير سجالاً كبيراً. أود أن أبدأ بسؤال ملح: كيف تعيش في هذا المناخ الدموي الذي تشهده فلسطين منذ عامين تقريباً؟ - المناخ الدموي عمره أكثر من قرن، أما ما يحدث في العامين الأخيرين فيوضع في إطار الإنتفاضة الثانية من عمر شعب يرفض حتى هذه التسمية لأنها قد تكون الإنتفاضة الخمسين. أما الميل لإجتزاء التاريخ وبعثرة التجربة فهو الذي يورطنا في تسميات من هذا النوع. على إية حال فالتصعيد الذي شهدناه في العامين الأخيرين يعود إلى ثلاثة عوامل أراها أساسية: أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر التي سهلت على المؤسسة الإسرائيلية تمرير الذريعة لضرب الشعب الفلسطيني بعنف من وراء قناع محاربة الإرهاب. كان الحجر والكلمة أقنومي الإنتفاضة الأولى بينما أصبح السلاح والمتفجرات العنصر الأكثر فعلاً في الإنتفاضة الثانية. حظيت الإنتفاضة "الأولى" بكل الدعم الشعبي والرسمي عربياً ودولياً واستطاعت إختراق المجتمع الإسرائيلي وزعزعته من الداخل، الأمر الذي لم يتحقق لأختها. فشاهدنا القمع الرسمي للجماهير الغاضبة ولمسنا الإرتباك في الرأي العام العالمي إزاء الإدعاء الإسرائيلي بأنها حرب حقيقية على رغم انعدام أي تكافؤ في موازين القوى العسكرية وعلى رغم استمرار الحقيقة الواضحة أن الإحتلال أساس كل الشرور. في هذا المشهد كان على قصيدتي أن تكون أقل حدة ووضوحاً وأكثر طرحاً للأسئلة الذاتية والوطنية والقومية. فلسطين بعد خمس حروب وانتفاضتين... ما الذي فعلته هذه البقعة الحزينة من العالم بوجدانك وشخصيتك؟ وإلى أي مدى كنت رمزاً لمن لا يغادر وطنه على رغم الظروف القاسية والعصيبة؟ - تعلم انني لست إقليمياً، وفلسطين كانت وستظل في وجداني وفي رؤياي ورؤيتي السياسية والإجتماعية والثقافية جزءاً من كل. لم أتعامل مع الهم الفلسطيني بمعزل عن الهم العربي العام. وأعلم أن كثيرين جداً في الوطن العربي أولئك الذين يعتبرون مقولات الوحدة العربية والحلم العربي والمشروع القومي موضة قديمة. بالنسبة إليّ لم تكن هذه المسائل موضة جديدة حتى تصبح موضة قديمة. والقليلو الإيمان أو المهتزو الوعي ليسوا نموذجاً جديراً بالإهتمام، ولذلك تظل قناعتي باتجاه مزيد من التعمق بأن القضية الفلسطينية لن تجد حلاً إلا في إطار الحل العربي الشامل. وما دام عدد الأميين العرب أكبر من عدد سكان ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا وما دام عدد الأولاد العرب الذين لا يذهبون إلى المدارس ضعف عدد اليهود في فلسطين فإن كل الكلام الرسمي والإعلامي العربي يظل عندي في خانة الهراء والكذب على الذات وخداع الجماهير. سميح القاسم من طليعيي أدباء فلسطين ومثقفيها الذين أودعوا السجون الإسرائيلية بسبب ميولهم القومية واعتقاداتهم السياسية، اليوم بعد أربعين سنة وبعدما ترجمت قصائدك إلى بعض لغات العالم إذا صادفت أحد سجانيك القدامى ماذا تقول له؟ - لم يكن في وقت من الأوقات حسابي مع السجان شخصياً فالحساب ينبغي أن يكون مع المؤسسة التي حولت الإنسان إلى سوط. وبالفعل التقيت قبل أعوام بسجان سابق اسمه زاكاي. دخلت حانوتاً للأحذية في حيفا بحثاً عن حذاء شتوي وإذا بالبائع الطويل وضخم الجثة ليس إلا زكاي نفسه الذي كان إعتقلني أكثر من مرة وأودعني السجن. فوجئ بي بمثل ما لم أفاجأ به، فمن الطبيعي أن يتحول السجانون إلى مدنيين يبيعون الخضار أو الأحذية أو القمصان. الذي فاجأني هو إصرار زكاي على بيعي حذاء بسعر الكلفة. أقسم أنه لن يربح مني لأنه يريد تبرئة ذمته ولن أنسى استعطافه: أنا شرقي مضروب مثلك نفذت الأوامر فحسب، لكنني في أعماقي كنت أشعر بالخجل كلما جئت لاعتقالك لأنك لم تقترف جناية بل كافحت في سبيل قضايا شعبك. وأذكر سجاناً آخر أصبح في ما بعد قائداً لشرطة القدس والتقيت به في حفلة السفارة المصرية في ذكرى ثورة الضباط الأحرار. سلّم علي بمبادرته قائلاً: ذات يوم أدخلوا إليك في السجن علبتي سجائر لم يقولوا لك من المرسل، وهأنذا لا أطالبك بثمن السجائر. ولكن ينبغي ألا يساء الفهم، فليس جميع السجّانين من هذا الطراز. ولن أنسى الكثيرين الذين أهانوني واستفزوني ولا أخفي أنني لم أحزن عندما سمعت بمصرع أحدهم في إسبانيا وحتى لو كان جميع السجانين في العالم بشراً بسطاء طيبين، فإن السجن يظل بالنسبة للإنسان الحر عقاباً أقسى من الموت أحياناً... كوّنت مع صديقك الشاعر محمود درويش ثنائياً ثقافياً يندر عادة بين الأدباء العرب، ولعله ذكرنا بصداقة جبران ونعيمه. هل هذه العلاقة نتيجة كونك أنت ودرويش رفيقي نضال أم أنها علاقة وجدانية أو أدبية؟ وأين اصبحت الآن؟ - ما من شاعر يحب أن يقرن اسمه باسم شاعر آخر، فالشاعر كائن فردي وذاتي ومغرق في الإهتمام بخصوصيته، أما ثنائيتنا التي تتحدث عنها فهي نتاج تفاهم فكري وشعري واجتماعي، مركز ثقله خارج الشعر. وحين نلتقي فإن الشعر يأخذ المساحة الأقل من حديثنا. لمحمود عمارته الشعرية بصفاتها الخاصة ولي عمارتي بطرازها الشخصي والخاص وحتى لا أترك طاقة للتقوّلات التي يتمتع بها الوسط "الثقافي" فإنني أؤكد أننا نتكامل ولا نتناقض وسنظل صديقين حتى أيامنا الأخيرة. الإبداع والالتزام... هل هما متناقضان؟ وهل يتناقض الفن مع الواقعية السياسية؟ وكيف يوازن المبدع بينهما؟ - بادئ ذي بدء يجب أن نتفق على مقولة الإلتزام، فهنالك خلط كبير في تعريف هذه الكلمة. البعض يعتقد أن الإلتزام هو أشبه بالإنخراط في صفوف حزب وتدبيج القصائد على مقاس برنامج هذا الحزب وأفكاره وقيادته. وهو تفسير مرفوض جملة وتفصيلاً، فالالتزام عندي حال نفسية وفكرية ذاتية تنبع من الداخل ولا تفرض من الخارج. من هنا فأنا أشك في إنسانية غير الملتزمين لأن الشاعر هو نتاج بيئة ومجتمع ولا يتحرك خارج الجاذبية الأرضية الا إذا كان مصاباً بعاهة روحية أو فكرية. وكم يعجبني أن أكرر قول فيكتور هيغو في حينه: من قال أن الشعب قافية رديئة؟ أو بتعبير ماركس كما أعتقد بقوله: ليس لي قفا ثور لأديره لهموم الجماهير... والتيارات التي تتحدث عن الفن الصافي أو الفن للفن والذاتية المنسلخة عن الكون هي تيارات مناسبة جداً لمقاهي الأرصفة في باريس وفيينا لكنها لا تليق بإنسان يدافع عن ذاته وعن حياته وعن بيته وشجرته ومقبرة إجداده، وينتمي الى شعب مهدد كياناً ووجوداً ومستقبلاً. وبهذا المعنى فإن السياسة لا تفسد الفن بل تزيده ألقاً وحيوية إذا صدرت عن تجربة معيشة ولم تقتصر على الموقف الفكري البارد. أما إذا نظمنا برنامج الحزب والخطة الخمسية للحكومة على غرار ألفية ابن مالك فإننا نقدم نظماً ميتاً ولا نقدم شعراً حياً. من عواقب الصراع العربي - الإسرائيلي أن نجمت مقاطعة ثقافية مع العرب في الداخل لأسباب سياسية وكذلك مقاطعة المطبوعات العربية التي تصدر في فلسطين لاقتناعات خاطئة بأن الحكومة الإسرائيلية تشرف عليها! فما رأيك؟ - الثقافة العربية هي ثقافة انفتاح وأخذ وعطاء وتوليد واكتساب وتجديد، وهذا هو سر عبقريتها وعظمتها. أما الإنطواء والإنغلاق والتقوقع وارتعاد الركب في مواجهة أي آخر فهي من عادات عصور الإنحطاط الثقافي، عصور الأنظمة الشعوبية، أنظمة المماليك والعثمانيين والفرس. ومن هنا فإنني أحذر من أي مظهر من مظاهر الإنغلاق والتحجر في الثقافة العربية لأننا بذلك نكون تخلينا عن جوهر ثقافتنا ونكون كمن يقطع الغصن الذي يجلس عليه. ولست فقط أدين العقليات اليابسة في الوطن العربي التي تزج بالفلسطينيين في مقولة التطبيع بل أطالب بترجمة الأدب العبري إلى اللغة العربية مثلما يفعل الإسرائيليون بالأدب العربي، فالمواجهة مع المجهول أشد خطورة بكثير من مواجهة المعلوم، والذين يتحدثون عن القلق من أن يكون بذلك إعتراف بالدولة العبرية، فإنني أصارحهم بقلقي المضاد من أن هؤلاء سيكونون أول المهرولين للتعاطي مع هذه الدولة لأن الأساس السيكولوجي للعزل المطلق هو نفسه الأساس السيكولوجي للإستسلام المطلق. أنا لست خائفاً مما يسمى بالغزو الثقافي العبري فثقافتنا ليست من الهشاشة بالقدر الذي يتوهمه الذين لا يعرفون هذه الثقافة حق المعرفة وفي الوقت نفسه فهم يسقطون القوة العسكرية الإسرائيلية على الثقافة وهذا خطأ كبير. لست خائفاً على المتنبي من حاييم نحمان بياليك ولست خائفاً على نجيب محفوظ من عاموس عوز ولست خائفاً على أسمهان وفيروز وأم كلثوم من عوفرا حازا وزهافا بن. مددت يد المساندة والتشجيع للأدباء الشباب كيف تعلل الإدعاء الذي يرفعه الكثير من المبدعين في الوطن العربي أن الأدباء الكبار يعتّمون على الشباب؟ - لماذا تذهب إلى الوطن العربي الكبير ما دام هذا الطرح متوافراً لدينا بغزارة، وبالطبع فأنا أرفض هذا الإدعاء جملة وتفصيلاً. فما من قوة في العالم تستطيع التعتيم على موهبة حقيقية. قال أحدهم أعطني مسرحاً أعطك ثورة وأنا أقول أعطني موهبة أعطك شهرة. ما هي العلاقات بين الأدباء الفلسطينيين والكتّاب والفنانين الإسرائيليين التقدميين؟ - طوال نصف قرن لم يتخلّ الأدباء والمبدعون العرب هنا عن شعار الحوار من أجل الحقيقة والنقاش من أجل العدالة، لكن هذا الحوار ظل خاضعاً للتطورات السياسية ولم نسقط في الوهم بأننا قادرون على قلب الواقع السياسي رأسا على عقب. لكننا حرصنا على تأكيد إنسانيّتنا وحرصنا على إيصال الصوت العربي إلى الساحة اليهودية بوضوح ونقاء وعنفوان وكبرياء وأصالة ورقي، ولم تخل هذه الحوارات من حالات صدامية لكنها لم تنقطع أبداً وقبل أيام فقط وجّه عدد من المثقفين العرب نداء مستعجلاً إلى المثقفين اليهود بدعوة ملحة لوقف أعمال الحكومة الإسرائيلية التدميرية في فلسطين. وللأسف الشديد رفضت وسائل الإعلام العبرية نشر هذا النداء. وبالأمس فقط اتصل بي هاتفياً كاتب عبري كبير هو أ.ب.يهوشوع ليقول لي أن هذا النداء يصلح لخمس سنوات خلت، أما الآن فإن المواجهة العسكرية تفرض علينا التوجه للفلسطينيين قبل التوجه إلى الإسرائيليين. وهذا يكفي للتدليل على أزمة الثقة وحال الإحباط التي يتخبّط فيها الإسرائيليون. الغد العربي المشرق بالحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية هل ممكن أن يتحقق يوماً ما أم أنه حلم من أحلام المراهقين...؟ - قبل قليل كلمتك عن الموضة الجديدة والموضة القديمة، والآن تسألني عن أحلام المراهقين. ولا بأس في التكرار، مأساة العرب هي الإستكانة لمشروع سايكس-بيكو الإستعماري التجزيئي. ولم تقتصر تبعات هذا المشروع على تجزئة الوطن العربي فهذه التجزئة جرّت على الحياة العربية كارثة الإقليمية والتعصب الديني والمذهبي والطائفي والقبلي كما جرّت علينا حال التفاوت الإقتصادي والثقافي والإجتماعي بين قطر وآخر. ونستطيع القول أيضاً أن حظائر سايكس-بيكو "إستعملت" القضية الفلسطينية ذاتها لترسيخ مشاريعها في حراسة سايكس-بيكو. هنالك من يقول بفشل المشروع القومي وضرورة استبداله بالمشروع الديني. وينبغي التأكيد أن المشروع القومي لم يفشل لأنه لم يأخذ فرصته الحقيقية. ولا يجوز حصر المشروع القومي في أنظمة الإنقلابات العسكرية التي شهدها الوطن العربي لأن هذه الأنظمة لعبت بالفكر الديني تارة وبالفكر القومي تارة أخرى وبالأممية ثالثة ورقصت في جميع الأعراس ومشت على كل الحبال لتأمين بقائها لا أكثر ولا أقل. وفي رأيي فلا خلاص للعرب الا بالوحدة والديمقراطية والثقافة وحقوق الإنسان الفرد، ولا يجوز الخوف من أن الغرب يردد هذه الشعارات فالخائفون منها هم المتشبثون بنقيضها. ولن أتخلى عن تفاؤلي المزمن بأن لهذه الأمة يوماً في زمن قادم.