مع تنامي النزعة المحافظة المعسكرة في الولاياتالمتحدة، وبعدما أصدر الرئيس جورج بوش وطاقمه السياسي "استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" كسياسة أميركية دولية خاصة!، ازداد الاقتناع بأن الادارة الأميركية لا تمارس شيئاً من السياسة العقلانية منذ 11 ايلول سبتمبر 2001. لا تنوي واشنطن ان تسمح، بحسب تعبير تلك "الاستراتيجية"، لأي قوة أجنبية بردم الهوة الكبيرة بينها وبين الولاياتالمتحدة والتي فتحت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهي استراتيجية خاصة فعلاً لأن مصالح الولاياتالمتحدة بحسب الاتجاه الريغاني الحاكم هناك لها الأولوية على كل السياسات في العالم، اذ ومهما كانت التطمينات من قبيل القول: "لن نستخدم قوتنا للدفع للحصول على مكاسب أحادية، ونحن نسعى بدلاً من ذلك الى خلق توازن قوى لمصلحة الحرية الانسانية"، فإن هذه الاستراتيجية هي لتحقيق المكاسب الأحادية فعلياً. على رغم ان هذه الاشارة موجهة في الدرجة الأولى الى الدول الغربية وفي الدرجة العاشرة الى الدول الاخرى خصوصاً العربية، لأنها تغمز من طرف ان القيم الديموقراطية هي قيم غربية وهي بالنتيجة النهائية لمصلحة الدول الاخرى مهما كانت الوسائل من دون أي اعتبار لأوضاع الدول وبناها وموزاييكاتها ومستوى التقدم الاقتصادي فيها وعلى أي مستوى تقع بُناها السياسية. محاولة واضحة - ولا ريب - لرسم سياسة عالمية ذات طابع واحد سمتها الأساسية القيم؟ الديموقراطية الأميركية أولاً والغربية ثانياً، وهو التحوّل الثاني بعدما أرسى النظام العالمي بعد الحرب العالمية الهوية الأولى وهي الدولة. وإذا كنا نتحدث منذ قرن عن المركزية الأوروبية فإننا سنتحدث لفترة عن المركزية الأميركية. وكنا نتوقع ان سيرورة اقتصادية توافقية دولية هي التي ستتحول تدريجاً نحو الهوية الثانية: أعني سيرورة الديموقراطية، من دون فرضها كقيمة، لكن احداث 11 أيلول وضعتها على حاملات الطائرات، في نذير ان ترتكز هذه الآلية بالدولة والديموقراطية معاً، فتطيح بهذه الحالة بانجاز الأولى ولا تصل الى انجاز الثانية بل تجعله مرذولاً الى حد لفظه وتقيؤه. ولكننا على اقتناع ان كل ما سبق لا يشكل استراتيجية سياسية تغلف مشروع الحرب، بل هو استراتيجية لتبرير نزعة الحرب. وبدلاً من ان تكون الحرب امتداداً للسياسة بحسب كلاوزفيتش فإن السياسة وبل الاستراتيجية هنا هي التي تخدم الحرب، وبدلاً من ان تسير قاعدة كلاوزفيتش على قدميها فإنها تسير على رأسها. والأمر يبلغ حد السخف السياسي بما يذكرنا بذاك الذي وجد زراً فراح يشتري له بدلة. هل ستتحوّل هذه الاستراتيجية الى مادة فعلية للعمل السياسي في المرحلة المقبلة؟ ربما ولكنها لن تتحوّل الى استراتيجية حقيقية، لأنها ستصطدم - فعلياً - بمبدأ كلاوزفيتش الثاني: والذي يقول ان اهداف الحرب إذا لم تخدم اهداف السلم فإنها ستغدو كارثية على أصحابها وعلى من ستقع عليهم. وإذ لا يوجد عاقل في العمل السياسي لا يعتبر الديموقراطية أفضل الأنظمة السياسية المعاصرة، لا يوجد واع لحدود التمايز بين الواقع والمفهوم لا يعتبر ان الديموقراطية ديموقراطيات وان تنوعها ناجم عن تمايز وتفاوت تجارب الشعوب ونضجها السياسي ومدى التطور على مستوياتها المؤسساتية. والسؤال عن الديموقراطية مشروع في العمل والثقافة السياسيين، والتنوع فيه شرعي، فواحد سيجد ان من حقه دفع التساؤلات الى نهاياتها المنطقية والثقافية، ليتساءل أليست الديموقراطية في المآل الأخير عولمة للنمط في السياسة الغربية وهي بالتالي جزء من المركزية الأوروبية، ولا تصلح لشعوبنا، وعندئذ سيرد عليه من يعتبر الديموقراطية فرصته للترقي أو فرصة لمزيد من الحرية وبالمناسبة هنالك مشكلة حقيقية في الوعي للفارق بين الحرية والديموقراطية كنظام سياسي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ازاء ما يُدعى باستراتيجية الحرب التي تحاول الولاياتالمتحدة ان تفرضها عبر مقولات من نوع: ان واشنطن ستستخدم نفوذها لنشر القيم الديموقراطية وفتح مجتمعات العالم أمام قيمها، ولنلاحظ ان الرئيس الأميركي لم يستدرك أو يناور حول مسألة أنها "قيم الولاياتالمتحدة" التي ليست ولن تكون ولن تتقاطع مع قيم غيرها. وكل ذلك تحت ذريعة ان ذلك سيؤدي الى خلق توازن قوى لمصلحة الحرية الانسانية. ولكن من دون ان ينسى بوش في تلك "الاستراتيجية" القول ان أميركا ستصرّ على الحفاظ على قوتها الفريدة وسلطتها العالمية وأنها ستكون قوية الى درجة انها ستمنع خصومها المحتملين من السعي الى بناء قواتهم العسكرية بأمل تخطي أو "مساواة" الولاياتالمتحدة. اذاً فهي ديموقراطية لا تسمح بقوة اخرى غير الولاياتالمتحدة، بمعنى ان الديموقراطية ونشر القيم الاميركية سيخدم بوضوح أحادية ومركزية أميركية، فإذا كان الجدال الثقافي مسموحاً بخصوص شرعية المركزية الأوروبية فهل هو مقبول لمصلحة المركزية الأميركية؟ وإذ تركّز الاستراتيجية الجديدة التي خرجت على قاعدة عدم التدخل الخارجي، وطوت عقدة فيتنام على كيفية استخدام المساعدات الخارجية، والديبلوماسية العامة، والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها للانتصار في التنازع الدائر في العالم الآن بين مختلف القيم والأفكار، بما في ذلك المعركة من أجل مستقبل العالم الاسلامي؟ بل انها تقول باختصار شديد وايجاز واضح ان قيمها هي التي يجب ان تزيل التنازع السالف الذكر، والمسألة واضحة ان لا مستقبل للعالم الاسلامي بقيمه. إذاً في هذه الاستراتيجية الجديدة ثمة مسائل لا مجال لبحثها وهي رزمة واحدة: كالديموقراطية على الحاملة العسكرية، وفرض القيم الأميركي، وتجاوز المجتمع الدولي والركوب فوقه، والانقضاض على مبدأ السيادة لمصلحة الاستباق الذي يعمل على النيات وليس على القرائن والبراهين حيث تقول الاستراتيجية الجديدة أنه "وكمسألة طبيعية، طبيعية فقط بالنسبة الى الولاياتالمتحدة وبالتالي طبيعية بالنسبة الى العالم العربي والاسلامي رغماً عنه، ستتحرك أميركا ضد الاخطار البارزة الجديدة قبل ان تتحوّل الى أخطار كاملة. وهنا ينبع فجأة مفهوم السيادة الذي يعني بنسخته البوشية "إقناع أو إرغام الدول على تحمّل مسؤولياتها السيادية بعدم مساعدة الارهاب". أي سيادة وأي ديموقراطية وأي علاقات توازن دولي وأي محاربة للارهاب في استراتيجية أعدت للحرب وليست حرباً من أجل خدمة الاستراتيجية. لقد غدا كلاوزفيتش يسير على رأسه وأصبحت عربته الاستراتيجية أمام حصان الحرب، فتيار التعصب الحاكم والمسيطر في الولاياتالمتحدة من ريتشارد بيرل وولفوويتز وديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكوندوليزا رايس يريدون الحرب وعلى الاستراتيجية ان تخدم هذا الغرض. ولسنا على قناعة بأن هذه الحرب تفيد استراتيجية اخرى اقتصادية مثلاً. وكل الاجواء تذكرنا بحماقات ولا عقلانيات ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ونخشى ان تكون أرضنا وشعوبنا وقوداً للتحوّل من نظام عالمي الى أقل وآخر لم يتبلور بعد. * كاتب سوري.