يختلف أدب ايمري كيرتيش الكاتب اليهودي الهنغاري الفائز بجائزة نوبل لهذا العام، عن مواقفه السياسية. فهو في أعماله الروائية يعلن انتماءه الى زمن الضحايا، سواء كانوا يهوداً أم مواطنين عاديين. ولم تكن تجربة الهولوكوست التي عاشها أسيراً في المعتقلات النازية في الخامسة عشرة من عمره إلا صدمة عمره كلّه إذ جعلته أسيرها الدائم، إنساناً ووجداناً وذاكرة. وتحت وطأة تلك الصدمة القوية لم يستطع كيرتيش أن يكتب عن تجربة أخرى. أما مواقفه السياسية التي شجب من خلالها مثلاً ظاهرة العمليات الاستشهادية في فلسطين من غير أن يدين المجازر التي ترتكبها اسرائيل - على طريقة النازيين - في حق الفلسطينيين الأبرياء، فهي تدلّ على تعصّبه اليهودي. وقد اعترض على وصف الكاتب جوزيه ساراموغو الاسرائيليين بالنازيين. علماً ان الصحافة الاسرائيلية لم تبتهج بحوزه الجائزة ولم تعتبر الثقافة الاسرائيلية نفسها معنية بها. كيف نقرأ إيمري كيرتيش بعيداً من مواقفه السياسية؟ وماذا عن عالمه الروائي الذي لم تتناوله الصحافة العربية مكتفية بالكتابة حوله شخصاً ومواقف؟ هنا قراءتان في رواية كيرتيش الأولى "انسان بلا قدر" وفي مذكراته الأخيرة "آخر". وهذان الكتابان لم يترجما الى العربية مثل كل نتاج كيرتيش القليل أصلاً. ولذلك كان لا بد من اعتماد الترجمة الفرنسية لهما. في الفصل الأخير من رواية إيمري كيرتيش "إنسان بلا قدر"* يلتقي الفتى العائد من جحيم "الهولوكوست" لدى استقلاله القطار، صحافياً يلحّ عليه أن يسرد له ما اختبر وعاش في المخيمات النازية، على أن يكتب هو المقالات في صحيفته الصادرة حديثاً. يرفض الفتى - الذي لا اسم له طوال الرواية - العرض، على رغم حاجته الى المال، وعندما يغادر الصحافي يرمي العنوان الذي أعطاه إياه متخلصاً نهائياً من مشروع مماثل. لم يكن هذا التصرّف مفاجئاً، فهذا الفتى سيصبح كاتباً في الخامسة والعشرين وسيكون اسمه إيمري كيرتيش. وخلال الرواية "الملعونة" بدا الفتى أصلاً منجذباً الى الكتابة ولكن بخفر. فهو يتذكر غداة دخوله معتقل أوشفيتز كتاباً طالما علاه الغبار في بيت أبيه، كان ألّفه أحد السجناء. لكنّه لم يقرأه كلّه لأنّه لم يكن قادراً على متابعة خيط أفكار مؤلّفه. ظلّ الكتاب حاضراً في ذهنه وقد حفظ منه أمراً واحداً هو أنّ الأسير - الكاتب كان يتذكّر أيامه الأولى في الأسر أكثر من الأيام اللاحقة. هذا الأمر سيتخطّاه كيرتيش حين سيجعل من ذاكرة الفتى الذي كان، مرجعاً وثائقياً دقيقاً، ومن عينه البريئة كاميرا تصوّر المشاهد الأليمة واللاإنسانية تصويراً بطيئاً يلمّ بالتفاصيل كلّها. أمّا الميل الأدبي للفتى الأسير فيتبدّى في تذكّره أنّ مدينة "فيمار" الشهيرة التي لم تكن بعيدة من المعتقل النازي الجديد، كانت المدينة التي عاش فيها الأديب الألماني غوته وكتب هنا يردّد الفتى الأسير مطلع إحدى قصائد غوته: "مَن يخيِّل متأخراً في الليل والريح" كأنّه يحاول في لا وعيه أن يفرّق بين ألمانية غوته وألمانية النازيين. لم يكن الفتى حينذاك تخيّل انه سيكتب عن تجربة الاعتقال لكنّه كان قرّر أنه "سيدرس أوشفيتز". لم يشأ كيرتيش أن يكتب عن السنة التي أمضاها في المعتقلات النازية، وكان له من العمر خمس عشرة، سيرة ذاتية فقط ولا مجرّد عمل روائي. فهو يدمج السيرة الذاتية بالفنّ الروائي محافظاً على "أنا" الراوي الذي لم يكن إلا كيرتيش نفسه ولكن في الخامسة عشرة. هنا ينجح كيرتيش في لعبة الموازنة بين زمن السرد وزمن الكتابة، فلا يسمح لنفسه ككاتب أن يطغى على رؤية الراوي كفتى بل هو يرافقه وكأنّ الواحد منهما ظلّ للآخر. هكذا يبدو الراوي فتى يروي وليس كاتباً يروي على لسان فتى. والسيرة المرويّة لن تتخطّى زمنياً السنة التي أمضاها الفتى - الكاتب في المعتقلات. إنّها سيرة المطهر أو الجحيم من خلال عين طفل هو طفل وكاتب معاً. غير أنّ "عين" الطفل التي كتب كيرتيش عبرها الرواية - السيرة لن تعني أنّ الكتابة ضرب من البراءة حتى وان بدا الفتى نفسه بريئاً جداً. فالكاتب أمضى عشر سنوات في كتابة هذه السيرة مستخدماً تقنيات عدّة كالوصف والتأمل والتداعي والتقطيع الزمني ولعبة الضمائر... ولغة شبه باردة ومتماسكة ومختصرة على رغم افاضتها وإغراقها في التفاصيل. فالكاتب لم يكتب شهادة ذاتية عن تجربة "الهولوكوست" مقدار ما كتب مأساته على هامش الهولوكوست مع ما يشبه اللامبالاة الشديدة في أحيان، وهي ليست إلاّ لامبالاة ذلك الفتى الذي شملت سخريته فكرة الدين اليهودي والوطن والعائلة والمجتمع والقيم... لا يتوانى الراوي عن هتك عائلته أوّلاً، هذه العائلة اليهوديّة التي تقيم في حيّ اليهود في بودابست. فهو كان حائراً بين انتماءين: الأب والأم. يعيش عند أبيه وزوجة أبيه بعد انفصال الأب والأم، لكنّه يحبّ أمّه على رغم زواجها من رجل آخر. تقول له أمّه انّه ينتمي اليها أمّا أبوه فيوصيه بزوجته عندما يذهب الى "مخيم العمل" وهو لن يعود منه مثله مثل زوج زوجته. عائلة مفكّكة وجد الفتى نفسه فيها من غير أن يحسم أمر انتمائه، مع أنه كان يضمر لوالده بعض الكراهية، فعشيّة رحيله مثلاً قال في نفسه: "كنت أشاء ألاّ يبقى والدي هنا" وكان يدرك أنّ هذا الإحساس تجاه الأب سيئ ومضنٍ. لكنّه سيخيب في الختام، عندما يعود من المعتقل فيجد أنّ أباه مات وأنّ زوجة الأب تزوجت مرة أخرى من الموظف الذي جعله الأب أميناً على ثروته المنقولة. يصل الفتى وكان أصبح في السادسة عشرة الى البيت الذي سلم من القصف فيجد ان امرأة غريبة تفتح له الباب. ويعلم من الجيران اليهود ان زوجة الأب أخلت البيت ورحلت مع زوجها. حينذاك يدرك انه لم يبق له سوى أمّه. انها العودة الى الأم أي الى الدم الحقيقي الذي طالما رفض الفتى فكرته مرفقاً اياها بفكرة العِرْق. أصبحت أمه أرملة مرتين: زوجها الأول مات وكذلك الثاني. كان أكثر ما يشغل الفتى كلمة "يهودي" وكذلك الكراهية التي كان يواجهها من مواطنيه غير اليهود. وزادت النجمة الصفراء التي أجبر اليهود الهنغار، على وضعها على صدورهم تمييزاً "عنصرياً" لهم، من حيرته. كان يعتبر تلك النجمة هويته أو ربّما جواز سفره. وكان مسموحاً له أن يخرج بها شرط أن يعود في الثامنة ليلاً. ولم تقنعه حبيبته وجارته الصغيرة آناماريّا باختلافهم كيهود عن الآخرين وكانت هي تجد في ذلك سبب الكراهية مثلما كانت تجد في هذا الاختلاف حافزاً على المباهاة حيناً وعلى العار حيناً آخر. أما الفتى فلم يكن يتابع اللقاءات الدينية والخطب أو الوعظات التي كان يلقيها أحد أقاربهم، مذكراً الحاضرين ب"العقاب" الذي ينزله الله باليهود تكفيراً عن خطاياهم. وفيما كان الحاضرون يصلّون بالعبريّة كان يشعر هو أنّ هذه اللغة غريبة عنه. يقول الفتى - الراوي: "لم أكن أفهم أيّ كلمة مما كنا نطلبه من الله، نظراً الى أننا كان علينا أن نتوجّه اليه بالعبرية وأنا لم أكن أجيد هذه اللغة". كان أجمل ما في طفولة هذا الفتى حبه لآناماريّا وتلك القبلات الناريّة التي كانا يتبادلانها سراً. لكنّه حبّ لن يلبث أن يختفي خلال تلك السنة التي حوّلته "انساناً بلا قدر". فهو عندما يعود لن يجد آناماريّا ولن يسأل عنها، وكأن الحب لم يبق له مكان في هذا العالم المدمّر. على أن سخريته من اليهود لن تقتصر على جوّ العائلة بل ستشمل الحاخام الذي التقى به في القطار الذي كان يقلّ اليهود الى مخيمات الاعتقال. وسمع منه العظة القديمة نفسها في شأن تخلّي اليهود عن الله. هذا الحاخام سيلتقيه في أحد المخيمات ولكن حليق الرأس والذقن والجسد وشبه عارٍ. ويثير فيه المشهد احساساً متناقضاً بين الشفقة والهزء. وسيعتمر الحاخام قبعة الأسر لاحقاً وسيعمل أيضاً في نقل الأكياس الثقيلة أسوةً بالأسرى الآخرين. لم يكن الفتى اليهودي يشعر بأنّه ينتمي الى وطنه: "علي أن أقول ان حبّ الوطن لم يكن يأسرني حقاً". هذا الشعور سيظلّ يلح عليه حتى بعد عودته من الاعتقال. فهو يتحدث عن "ألم الوطن" وليس عن الحنين اليه. وكان يدرك أنّ هذا "الألم" هو "شعور حادّ، مؤلم وباطل". وعلى غرار هذا الشعور إزاء الوطن كان يعتبر أيضاً ان مقولة "الدم المختلف" هي خرافة وأن كلمة "يهودي" تعني "لا شيء، على الأقل لي أنا..." كما يقول. كلّ هذه الأحاسيس لم تخامره إلا بعدما عاد مدمّراً ومهيضاً، يعرج قليلاً فيما يخفي جسده تراجيديا الألم الوحشي الذي عاناه. كان الفتى ذاهباً الى عمله بعدما ترك المدرسة عشية رحيل والده، حين أوقفت الشرطة الباص طالبة من اليهود أن ينزلوا. وعندما كثر عددهم اقتيدوا الى باحة احدى الثكنات وباتوا الليلة الأولى في الاسطبل "المكان الذي يلائم اليهود" كما عبّر أحد العسكريين. كان الفتى يظن، بحسب ما فهم من أحد الشرطيين، أنّهم ذاهبون للعمل في احدى المناطق ومقابل أجر جيد. وكان فرحاً بعض الفرح على رغم الانتظار والتعب. لكنّه سرعان ما اكتشف خيبته عندما زج به وبأصدقائه وبعض اليهود في حافلة قطار متوجّه الى المانيا. كان رفاقه كلّهم في الحافلة: روزنفيلد أوروزي، موسكوفيتش، جولي كور، المدخن، المدبَّغ وسواهم... لكنهم لن يلبثوا أن يتبعثروا لاحقاً وعبر تبعثرهم يتلاشى زمن الصداقة والمراهقة ويقع كلّ واحد في عزلته "الجماعية" والمرضية. كانت الحافلات المخصصة أصلاً للحيوانات تضيق بالأسرى اليهود، رجالاً ونساء وفتياناً وأطفالاً... وجميعهم جرّدوا ممّا يحملون ويملكون قبل أن ينقلوا الى السفن ثم الى أحد المصانع ثم الى القطار من جديد. رحلة بدأت طويلة ولم تنته إلا في فقدان معنى الزمن. لم يكن من ماء في الحافلات الضيقة والخبز قليل، وعندما يصلون الى أوشفيتز يسمعون العسكري الذي يفتح أبواب الحافلات يقول: "أيّها اليهود القذرون"! وبعد أن ينزلوا يخضعون للفرز القاسي والأليم: الرجال والفتيان السليمون والقادرون على العمل يساقون الى الحمامات ليُطهَّروا بالأدوية ويغتسلوا ويخضعوا للفحص الطبيّ بعد حلق أجسادهم. أما الآخرون غير المنتجين، أطفالاً ونساء وعجزة فسيقوا الى مكان مجهول. لكن الفتى سيعلم جيداً أنهم اقتيدوا الى الأفران المخصصة لحرق الجثث. وحين كان ينظر الى المداخن الضخمة في أوشفيتز، تقذف الحمم والدخان تذكرهم: "في هذه اللحظة، هناك، في الجهة المقابلة، كان يحترق رفاقنا في السفر... أولئك الذي صُنّفوا بأنهم غير كفيين في نظر الطبيب، لسبب عمرهم أو لسبب آخر، وحتى الأولاد الصغار، أمهاتهم، والأمهات الحبالى...". ويسخر الفتى - الراوي بمرارة شديدة حين يقول عن هؤلاء انهم اقتيدوا أيضاً الى الحمامات ولكن عوض أن ينزل الماء عليهم كان هناك الغاز. لم يستطع الفتى أن يستوعب الأمر إلا بشيء من المرح، لم يستطع أن يصدّق ولا أن يبكي. أحد الفتيان اليهود لم يتمالك عن الصراخ: "يسوع مريم". يدرك الفتى انهم كانوا "على عتبة حياة جديدة"، بل على عتبة عالم جديد: أسلاك شائكة، أسلاك مكهربة، حواجز وسدود، وباحات وغرف متلاصقة وأكواخ وخيم... أما هناك، أبعد قليلاً، فكانت المداخن التي تنفث الدخان الأسود. وعندما حلقوا رأسه وجسده وخصوصاً شعر عانته الذي كان طريّاً أحسّ الفتى ان بعضاً من ذكورته سقط مع الشعر. كان الفتى مرهقاً تماماً عندما استسلم للنوم. واستيقظ في الصباح ليجد نفسه ورفاقه ملتمّين بعضاً على بعض: "الصباح بارد في أوشفيتز" والأغطية قليلة مثل الطعام والماء. وكان أسرى آخرون ينضمّون الى المعتقل وبعضهم لم يكونوا أسرى "الدم" كما يعبّر الراوي، بل أسرى الأفكار المختلفة والمعترضة. كانت النهارات التي أمضاها الفتى طويلة جداً ومملّة وعقيمة: "هكذا أدركت، أننا حتى في أوشفيتز يمكننا أن نضجر، شرط أن نكون محظيين". أما الحظوة التي يقصدها الفتى فهي عدم جرّهم هو ورفاقه الى نار الأفران. لم تكد تمضي ثلاثة أيام على الاعتقال في أوشفيتز حتى نقل السجناء الى معتقل آخر هو "بوشنفيلد" وبالقطار أيضاً لكن بلا حقائب. إنه المشهد نفسه كما في أوشفيتز: الحمام، التطهير، الثياب المستعملة... لكنّه هنا، في هذا المعتقل الجبلي بات له رقم: 64921. وكان عليه ان يحفظ الرقم بالألمانية ويلفظه بسرعة حين يناديه العسكريّ. وكان في المعسكر أيضاً فرن لحرق الجثث ولكن واحد فقط. وبعد هذا المعتقل اقتيد السجناء الجدد الى معتقل آخر هو "زيتش" ولم يكن بعيداً من الثاني. معتقل تعيس وبائس شعر فيه الفتى أنّه غريب تماماً. وكان يضمّ زهاء ألفي أسير، اضافة الى المنتحرين الذين كان يزداد عددهم. وفي هذا المخيّم سيكتشف الفتى المسلمين للمرة الأولى وكانوا هم في عداد الأسرى. مسلمون من أقاصي أوروبا الشرقية اقتادهم النازيون الى الاعتقال. في هذا المخيم سيعاني الفتى الكثير وسيمرض: "راحت تتناقص بهجتي وحيويتي كلّ يوم، كنت أشعر بمزيد من الألم عند نهوضي وكنت أشدّ ضنكاً عند النوم. كنت أجوع أكثر، أتألم أكثر عند الحراك، كان كل شيء يزداد صعوبة حتى أصبحت عبئاً على نفسي". وبين الجدران الضيقة كان يستعين بمخيلته ليقتل الوقت والألم: "مخيلتنا، حتى في الأسر، تظلّ حرة". كان يتخيل نفسه أحياناً يقضي نهاراً طويلاً في البيت، من الصبح حتى المساء، هو الذي لم يكن يحب المكوث في البيت. لكن المخيلة لم تستطع ان تنقذه من الجوع، من هاجس الجوع الذي أضناه. يقول الراوي: "لم يكن الاصرار ولا الهروب في أي طريقة ولا الصلاة، قادرة على تحريري من أمر: الجوع". ويضيف: "لقد أصبحت نوعاً من ثقب، من هاوية، وكلّ قواي، كل شواغلي كان لها هدف واحد: أن أزيل، أن أملأ، أن أُسكت هذه الهاوية التي لا قعر لها... لم تكن لي عينان إلا لهذا الأمر، كلّ عقلي كان في خدمة هذا الأمر، هذا الأمر وحده كان يقود تصرفاتي. وإذا لم آكل خشباً ولا حديداً ولا حصى فلأنها فقط، أشياء لا يمكن مضغها ولا هضمها. لكنني حاولت أن آكل الرمل، مثلاً، وعندما كان يتسنى لي أن أرى عشباً، لم أكن أتردّد، ولكن واحسرتاه، لم يكن من عشب أبداً، لا في المصنع ولا في قلب المخيم". لعلّ هذا الوصف الحاد والقاسي للجوع لم يسبق كيرتيش اليه أحد. إنّها حال تجريد الإنسان من انسانيته وتحويله حيواناً يعيش بهاجس واحد: الجوع. غير أن الأمراض التي ستحلّ به ستتيح له فرصة الانتقال الى أكثر من مستشفى: الجرب، الاسهال، التيفوس، الجرح في الركبة، الجرح في الفخذ، القيح، البراغيث، الديدان... وكان رمي به على سطح شاحنة تقلّ الجثث... وفي المستشفيات سيعيش تجربة المرض المرير والعلاج الأشدّ مرارة. وفي المستشفى سيتناهى الى الفتى صخب معركة تقترب وتبتعد من ثم ليرين نوع من الصمت العميق. حينذاك ترتفع أصوات في الخارج: "نحن أحرار"... "أيّها الرفاق الروس"... مشهد العودة سيكون مؤثراً جداً: أنقاض وخرائب وأناس مبتهجون و"وطن سيبنونه من جديد"... أما هو فبعد أن يكتشف موت أبيه ورحيل زوجة أبيه وموت زوج أمّه فسيكتشف أنه "انسان بلا قدر". وعندما يسأله جيرانه اليهود عن المستقبل الذي يودّ صنعه يقول: "بمثل هذا العبء لا نستطيع أن نبدأ حياة جديدة". "إنسان بلا قدر" عاش قدراً مفروضاً عليه: "لم يكن قدري ولكنني أنا الذي عشته حتى النهاية". وعندما يقرّر الذهاب الى بيت أمّه، كئيباً ومفلساً يقول في نفسه: "أريد أن أواصل عيش حياتي التي لا تعاش". كان إيمري كيرتيش أقلّ عنفاً وقسوة من الكاتب اليهودي الايطالي بريموليفي الذي عاش تجربة الهولوكوست وكتب الكثير عنها، لكنّه كان شبيه بطل دوستويفسكي الخارج من "بيت الموتى". أما يأسه من الوطن والمستقبل والماضي ونزعته التشاؤمية وعبثيته أو لنقل عدميته، فكانت كلها وراء الاجحاف الذي لحق به ككاتب طوال فترة الحكم الشيوعي في هنغاريا. فروايته التي أنجزها في العام 1973 لم تجد ناشراً إلا بعد عامين. وكان على كيرتيش أن ينتظر سقوط المعسكر الاشتراكي ليخرج الى الضوء. ولعلّ جائزة نوبل أخرجته الى أضواء العالمية بعد انطواء دام سنوات طويلة.