لم يمض شهر على الإنتخابات العامة في المغرب والتي أعطت معنى للاقتراع للمرة الأولى في تاريخ شمال أفريقيا، حتى سن مجلس النواب التونسي قانوناً تضمن شروطاً تنال من حرية المنافسة في الانتخابات الرئاسية المقررة للسنة الألفين وأربعة. في الأصل ما زال الترشيح للرئاسة، طبقا للدستور الحالي، خاضعاً لقيود يصعب ان يتغلب عليها أي مسؤول سياسي من خارج الحزب الحاكم، ناهيك عن المواطن العادي، وعليه جاء القانون الجديد للإلتفاف على تلك القيود وقتياً حتى لا تقتصر الانتخابات المقبلة على مرشح وحيد. لكن القانون سمّى مقدماً المنافسين والفائز، إذ حصر اللعبة بالأحزاب البرلمانية وبعناصر محددة داخل قياداتها. صحيح أن الإستقرار ضروري ومهم، إلا أنه لا يتأسس على تعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع. واضح أن القانون الجديد ألغى المنافسة من اللعبة الانتخابية بسبب اختلال التوازن المتفاقم بين الادارة التي تعتمد عليها اجهزة الحزب الحاكم والمعارضين المخول لهم الجلوس على مقاعد المنافسين. ودللت الارقام الهزيلة التي أعطيت لاثنين من هؤلاء "المنافسين" في الإنتخابات الماضية الى مستوى هذا الإختلال. بهذا المعنى تحولت الإنتخابات إلى معادلة محسوبة بدقة ومعلومة النتائج سلفاً، وأقفلت الزوايا الأربع أمام ظهور "مفاجآت" أو هبوب رياح التغيير. وبكلام آخر سدّ القانون الجديد المنافذ أمام احتمال إفراز المجتمع مرشحين يعكسون المشهد السياسي الحقيقي بأطيافه المختلفة، واستطراداً قطع الطريق أمام التداول السلمي على الحكم بعد نصف قرن من السيطرة الكاملة ل"الدستوري"، الذي هو بالمناسبة أقدم حزب حاكم في العالم. في البدء إنطلقت التعددية في السنة 1994 بمبادرة من فوق كانت أقرب ما تكون إلى تسمية تسعة عشر نائباً معارضاً في مجلس النواب، فهم لم يأتوا من حلبة المنافسة الإنتخابية، وإنما أُعد لهم قانون على المقاس، وبُررت العملية بكونها صيغة استثنائية وانتقالية تمهيداً لمنافسة حقيقية في المرحلة اللاحقة بين الحزب الحاكم ومعارضيه. لكن "الوقتي" و"الإستثنائي" باتا هما القاعدة، وشكلا المنطلق الذي تأسس عليه القانون الجديد الخاص بتعدد الترشيحات للرئاسة. وأتى القانون بدوره استكمالاً للتعديل الجوهري الذي أدخل على الدستور في الربيع الماضي والذي أجاز للرئيس بن علي الترشيح لولايتين إضافيتين. اللافت أن الدستور في تونس التي فيها أبصر النور أول دستور في العالم العربي تعرض للتعديل أربع عشرة مرة منذ الإستقلال 1956، وهذا كثير بالنسبة الى مرجع أساسي يعتبر أب القوانين، وهو يدلل إلى أن النص الدستوري أخضع للملابسات والمتغيرات السياسية وليس العكس. من هنا يمكن القول إن القانون الجديد يسير عكس التيار السائد مغاربياً وأفريقيا ودولياً، وهو أجهض فرصة رد الإعتبار الى صندوق الإقتراع وإقناع الناخبين المحبطين بجدوى الذهاب الى مراكز التصويت، إذ أن النتائج معروفة مقدما ولعبة الإنتخابات الرئاسية مطوقة في ملعب البرلمان بعد استبعاد أطياف وتيارات عدة يسارية وإسلامية وقومية من الذين لا ينسجمون في مربع "المعارضة الموالية" فلم يتم انتقاؤهم للتعايش مع العهد. والأرجح أن تونس ستخسر فرصة تاريخية أخرى للإنطلاق على سكة الديموقراطية والتداول، فالتعددية لا تتأسس بمجرد إيجاد ألوان مختلفة في مجلس النواب وبعض المجالس البلدية، وإنما بمنح الجميع فرصا متكافئة للعمل الجماهيري والإحتكام للمنافسة الإنتخابية النزيهة في إطار حياد الإدارة حتى لو أسفرت عن عودة الحزب الحاكم إلى السلطة بنسب "معقولة" مثلما حدث في الجزائر.