أتت نسبة ال94 في المئة التي اعطيت ل"التجمع الدستوري الديموقراطي" في الانتخابات البلدية التي أجريت في تونس أخيراً استكمالاً للنسب التسعينية التي "فاز" بها في الاستحقاقات السابقة وآخرها الانتخابات الاشتراعية العامة التي أجريت في الخريف الماضي. وإذا ما تأملنا صيغة القانون الانتخابي المعدل الذي يمنح عشرين في المئة من مقاعد مجلس النواب ومجالس البلديات للأقلية في شكل يكاد يكون آلياً، ندرك ان حزب الأكثرية "يستحق" في الواقع نسبة تقارب مئة في المئة من الأصوات، إلا انه "تنازل" للمعارضات الضعيفة عن قسم من المقاعد التي كانت ستُعطى له ديموقراطياً، تجسيداً لقناعاته التعددية. هناك أمر محير في هذه الظاهرة، اذ ان "حصة" الدستوري لم تتغير تقريباً سواء أجريت الانتخابات في ظل الحزب الواحد أم في ظل التعددية التي انطلقت في العام 1981. اكثر من ذلك، يعتبر "الدستوري" الحزب الوحيد في العالم الذي احتفظ بالحكم منذ الاستقلال الى اليوم، أي على مدى خمسة وأربعين عاماً من دون انقطاع... ولا يزال هو الحزب الأكثري من دون منازع. نظرياً قبل هذا الحزب بالتعددية والمنافسة منذ بواكير الثمانينات، لكنه رفضها عملياً في الاختبار الأول لدى اجراء الانتخابات التعددية الأولى في العام 1981 فاحتكر مرشحوه جميع المقاعد. واعترف اليوم اللاعبون الرئيسيون على الساحة السياسية آنذاك بأن النتائج تعرضت لتزوير شامل لمصلحة مرشحي "الدستوري". واللافت انه صار يبحث عن صيغ قانونية لإنهاء الاحتكار وتأمين حصة دنيا للمعارضين في المؤسسات المنتخبة حتى وان كانت تفوق حجمهم الحقيقي، لأن الآلة الانتخابية المدربة تعطي أكثرية ساحقة للحزب الحاكم دائماً. وتكمن المفارقة في ان جميع الاحزاب الواحدة التي كانت تحكم سابقاً في أوروبا الشرقية وحتى في افريقيا اكتشفت ان شعبيتها تراوح بين عشرين وخمسة وعشرين في المئة لدى خوضها انتخابات تعددية وشفافة مع أحزاب منافسة. وغير بعيد عن تونس حصدت "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية نتائج مشابهة في أول انتخابات خاضتها بعد تكريس التعددية. ويحق للمراقب ان يتساءل عن سرّ القوة الخارقة التي جعلت جميع الاحزاب الوحيدة السابقة تسقط في اختبار التعددية وتعود الى حجمها الحقيقي، فيما "الدستوري" مستمر بتحقيق نجاحات باهرة والفوز على منافسيه بالنسب التسعينية اياها. فهل ان التونسيين يمقتون التعددية ولا يشعرون بالاطمئنان والأمان الا تحت جناح حزب واحد، أم ان لدى "الدستوريين" عصا سحرية تجعل أصوات مرشحيهم هي المرجّحة دائماً؟ المعروف ان للتونسيين تاريخاً حافلاً بالتقاليد التعددية ان على الصعيد السياسي أو على الصعيدين الاعلامي والثقافي وحتى الاجتماعي منذ مطلع القرن عندما تشكلت الاحزاب والنقابات والجمعيات وانتشرت الصحف ذات المشارب المختلفة. وتكثفت الأطياف السياسية والثقافية وتبلورت ملامحها في ظل الحقبة البورقيبية حتى باتت تشكل ما أطلق عليه "السلطة المضادة" لسلطة الحكومة. ومن يعرف النخبة التونسية يستحسن خصوبتها وتنوعها اللذين جعلاها احدى النخب الحيوية في العالم العربي، وبديهي ان مجتمعاً ينتج نخبة كهذه لا يمكن ان يكون عاشقاً للأحادية ومفتوناً بالنسب التسعينية. من هنا فإن العائق لا يكمن في الوعي الجماعي للتونسيين ولا في مستواهم التعليمي وانما في البنى السياسية التي تتغير والقوانين التي لم تدخل عليها تعديلات جوهرية منذ الاستقلال. فالقانون الانتخابي الذي يعتمد نظام اللائحة وليس المقعد في دورة واحدة لا يفرز سوى هيمنة حزب واحد على المؤسسات المنتخبة، ليس فقط في تونس وانما في كل بلاد العالم. وما لم يتغير القانون في اتجاه ادماج أكبر قدر من النسبية سيبقى حزب واحد ممسكاً بمفاتيح الحياة السياسية والباقي مجموعات مقزمة تدور في فلكه. إلا ان تغيير القوانين غير كاف لأن المنافسة في صندوق الاقتراع تحتاج الى مقدمات أساسية هي التي تصنع مناخ المنافسة وتجعل اللاعبين ينطلقون بفرص متكافئة.