كان انهيار جدار برلين عام 1989 ايذاناً ببدء مرحلة جديدة في العلاقات الدولية. وقد توجت تلك المرحلة بالاعلان عن طي صفحة "الحرب الباردة" واقامة أوروبا "المسالمة والمستقرة" كما ورد في ميثاق باريس لأوروبا "الجديدة" وجاء مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي 1990 انعكاساً للمشهد الجديد في العلاقات بين الغرب والشرق، وبعد مرور ما يزيد عن خمسة عشر عاماً من التوقيع على وثيقة هلسنكي الختامية في آب اغسطس 1975. وقبل ولادة ميثاق باريس الذي وقعته 33 دولة أوروبية اضافة الى الولاياتالمتحدة الاميركية وكندا اختتم الرئيسان الاميركي جورج بوش والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف قمتهما في 3 حزيران يونيو 1990 التي انعقدت في واشنطن وكانت محطة استقرار جديدة بعد رحلة شاقة وطويلة لبناء الثقة وتطبيع العلاقات، خصوصاً وان قمة مالطا عام 1989 قد وضعت اللبنات الرئيسية لها معلنة الانتقال بالعلاقات الدولية من المجابهة الى الحوار فالتعاون. وكانت تتويجاً لرحلة التطبيع المضنية والقلقة التي التأمت خلال أربعة مؤتمرات قمة اميركية - سوفياتية 1985 - 1989. وبعدما كان الاتحاد السوفياتي يبدي حسن نيته ازاء تنقية الاجواء في العلاقات الدولية بالاعلان عن تجميد تجاربه النووية عام 1985 من طرف واحد، أخذ تدريجاً يقدم التنازلات تلو التنازلات على أمل ان يلين الموقف الاميركي. ولكن الولاياتالمتحدة كانت تواصل مساعيها لإرغام الاتحاد السوفياتي على الرضوخ، اذ شعرت بتعاظم مأزقه وانحسار دوره على المستوى العالمي واستمرار تورطه في افغانستان، والأهم من ذلك عدم قدرته على اللحاق بها في سباق التسلح. ويضاف الى ذلك مصاعبه ومشكلاته المتفاقمة الاقتصادية والسياسية والقومية والاجتماعية والانسانية التي أدت الى نكوص وارتكاس أوضاعه الداخلية، واختناق حال حقوق الانسان وارتفاع نسبة التذمر والتمرد والانشقاق. فبعد ان كان الاتحاد السوفياتي يربط موضوع الحد من الأسلحة النووية بموضوع "حرب النجوم" بدأ بقبول "الخيار صفر" ثم خيار "صفر المزدوج" وبتخفيض عدد الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في أوروبا SS 21 و SS 20 بنسبة تزيد 3 مرات تقريباً عن تخفيض الولاياتالمتحدة صواريخها في أوروبا. وكان يعتقد ان تلك الاجراءات مقدمات ضرورية لإثبات حسن النية لنهج "الوفاق الدولي" ولتأسيس قواعد النظام الدولي الجديد الذي راح ينتقل من الحرب الباردة وسباق التسلح واحتدام بؤر التوتر الى الوفاق، فالتعاون وخصوصاً لدرء الفناء النووي والتقليل من مخاطر تلوث البيئة والإفادة من نتائج الثورة العلمية - التقنية، وهو ما دعا اليه غورباتشوف في كتابه "بريسترويكا والتفكير الجديد في بلادنا والعالم" الصادر عام 1987. لكن الأمر سرعان ما أخذ يفرض هيمنة جديدة للولايات المتحدة مستغلة المصاعب والاشكالات الداخلية الخطيرة من جهة، اضافة الى عدم قدرة الاتحاد السوفياتي على اللحاق بتخصيصات الولاياتالمتحدة للتسلح وخصوصاً في حرب النجوم، حيث خصصت لها تريليوني دولار، فلم يكن بالإمكان منافستها على هذا الصعيد. وإذا أردنا ان نحدد أبرز ملامح النظام الدولي الجديد منذ مطلع التسعينات وقبيل غزو القوات العراقية للكويت فيمكن الإشارة الى ما يأتي: - أولاً: انتقال العالم من نظام القطبية الثنائية الى نظام متعدد الأقطاب حسبما يبدو، لكن في النهاية يتحكم فيه لاعب أساسي وتدور في فلكه دول اخرى. فالنظام الدولي القديم الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية وخصوصاً في أواسط الخمسينات عندما راح النظام الكولونيالي ينهار، ويتعزز دور حركة التحرر الوطني بتحالفاتها مع دول "المنظومة الاشتراكية" بدأ بعض أركانه بالتصدع، حتى تم تفكيك وانحلال قوته الأساسية وأعني بها الاتحاد السوفياتي. - ثانياً: تراجع النظام الاشتراكي من ان يكون نظاماً عالمياً وافتقاره الى نقطة الجذب الضرورية لحركة التحرر الوطني التي امتاز بها، ومن ثم انهيار انظمة أوروبا الشرقية وانكشاف هشاشة التراكيب السياسية والاجتماعية وحقيقة الممارسات الاستبدادية التي اتخذت طابع القهر السياسي والقومي وخرق حقوق الانسان. - ثالثاً: لم تستطع البريسترويكا والغلاسنوست "إعادة البناء والشفافية" من انقاذ الاتحاد السوفياتي من مشكلاته المتراكمة، بل أدت الى انفجار المزيد منها سواء القومية أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، تلك التي نجم عنها انخفاض هائل في وتائر الانتاج وتعاظم الديون، وغطت مرحلة كاملة حال من الركود حتى وصل الاتحاد السوفياتي الى مشارف الانهيار الشامل وانهار بالفعل بعد مكابرات وتحديات دفع ثمنها أكثر من جيلين على أقل تقدير. بل وأخذ يتقدم بطلب المساعدات من مختلف دول العالم. - رابعاً: لم يكن التوسع والتطور في القوة العسكرية السوفياتية متساوقاً مع تطور القوة الاقتصادية، فهذه الأخيرة وصلت الى حافة الانهيار وبسبب عدم قدرة الاتحاد السوفياتي على مواكبة الولاياتالمتحدة في سباق التسلح وانهياره الاقتصادي، اضطر الى الانكفاء قومياً وتخلى عن الامتداد أممياً. - خامساً: ظهور مراكز جذب جديدة، فمع انهيار نظام القطبية الثنائية وبداية عهد القطبية المتعددة الاطراف مع بروز قطب اساسي، فإن القطبية الجديدة التي بدأت تتشكل وتتكامل مع نمو القوة الاقتصادية اخذت تؤسس عناصر جذب جديدة كاليابان والمانيا الموحدة وأوروبا الموحدة، فيما بعد ودول جنوب شرقي آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، فقد استطاعت هذه البلدان ان تشق طريقها بصمت احياناً ودون ضجيج واثبتت قدرتها على التعايش مع التوازن الدولي، على رغم محاولات الولاياتالمتحدة التأثير عليها. - سادساً: ان النظام الدولي الجديد كرس الولاياتالمتحدة القوة العالمية الأولى وبلا منازع. وسيكون أحد شروط الانتماء للنادي الدولي الجديد مراعاة مصالحها وخطب ودها، ان لم يكن السير في فلكها اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً. فالنظام الدولي الجديد جاء عبر صراع عنيف ايديولوجي وسياسي واقتصادي ونفسي وعسكري، كانت أسسه ترسم على نحو واضح منذ عهد كارتر الذي رفع يافطة "حقوق الانسان" ثم تعمق في عهد ريغان الذي شن حملة ضد ما سماه ب"الارهاب الدولي" مبرراً ارسال قواتها الى خارج حدودها وتشكيل قوات القيادة المركزية "سنتكوم" عام 1983 بدلاً من قوات "الانتشار السريع". ويمكنني القول ان مناورات النجم الساطع عام 1983 كانت اختباراً لقوة الانتشار السريع في ظروف الشرق الأوسط والخليج، خصوصاً الأراضي الصحراوية، ويبدو انها كانت بمثابة تدريب لحرب الخليج الثانية عام 1991. وقد استخدم جورج بوش أزمة الخليج التي نجمت عقب احتلال القوات العراقية للكويت في 2 آب اغسطس 1990 ليبدأ باختبار فاعلية النظام الدولي الجديد الذي كان العرب أول ضحاياه فتوجه الى ضرب العراق وتحطيم بنيانه التحتي وهياكله الارتكازية ومرافقه الحيوية، جالباً الدمار والهلاك والهيمنة لعموم المنطقة. وما زالت آثار تلك الحرب العدوانية ماثلة الى العيان باستمرار الحصار الدولي الجائر الذي دخل عامه العاشر. - سابعاً: أما الوجه الآخر، أو ما هو معلن من ملامح النظام الدولي الجديد منذ ان تكرس في ميثاق باريس، فقد أكد على ان الديموقراطية نظام وحيد ولا يمكن انجازها من دون الحرية الاقتصادية واحترام حقوق الانسان، وقد أصبح الحديث عن هذه الخيارات "ممكناً" بعد الطوفان الذي حل بالكتلة الاشتراكية والزلزال الذي حطم أنظمتها التوتاليتيارية التي تهاوت الواحدة بعد الأخرى معلنة عن توجه قائم على الانفتاح الاقتصادي والتعددية السياسية والفكرية والخيار الديموقراطي. وقبل الدخول في مناقشة بعض الاطروحات الفكرية التي روجت للنظام الدولي الجديد لا بد من ذكر بعض ما شخصه ميثاق باريس من آليات لمراقبة تنفيذ الخيارات المذكورة، حيث تقرر اعتبار مدينة براغ مقراً للأمانة العامة وتقوم بالتنسيق والإشراف والتوجيه، ومدينة فيينا مركزاً للفصل في النزاعات، وذلك بهدف حسم بعض القضايا الخلافية، ومدينة وارسو مكتباً للاشراف على الانتخابات الحرة بغرض تعميم مبدأ المراقبة والشفافية للانتخابات العامة. وعلى رغم اهمية المبادئ التي جاء بها ميثاق باريس، حيث أكد بعض القواعد التي تحكم العلاقات بين الدول كاحترام السيادة والتعاون وعدم اللجوء الى استخدام القوة أو التهديد بها وتسوية الخلافات بالطرق السلمية والتي تعتبر جميعها من المبادئ الآمرة في القانون الدولي Jus Cogens، الا ان التوازن الدولي الجديد كرس الولاياتالمتحدة ممثلاً للقطب الأول والاساس في النظام الدولي. وهذه كانت تتصرف بهذه المعايير "الانسانية" و"القانونية" بشكل انتقائي ووفقاً لمعايير ازدواجية. - ثامناً: الإزدواجية والانتقائية في المعايير Double Standard جاءت مخاوف البلدان النامية ومنها البلدان العربية من مقدمات النظام الدولي الجديد والترتيبات التي قام عليها ومن العولمة وتوابعها بانعكاس اختلال التوازن الدولي بشكل سلبي عليهم، مما جعل للدور الاميركي وهو غير ايجابي، بل معادٍ لهم، ويقف مع عدوهم اسرائيل والصهيونية العالمية في اغتصاب حقوقهم اليد الطولى والمتحكمة في المسار العالمي بما فيها الاممالمتحدة. وهذا ما ضاعف من خشيتهم وعزز لديهم الشعور بأنهم أول ضحايا النظام الدولي الجديد خصوصاً بعدما حصل للعراق وليبيا والسودان ولبنان وسورية ومصر ناهيكم عن ما وصلت اليه القضية الفلسطينية من تدهور وتراجع، يضاف الى ذلك محاولة الغرب وتحت حجة "التهديد العراقي" المستمر ابتياع كميات هائلة من السلاح الى دول المنطقة والتأثير على سوق النفط. فالنظام الدولي السابق "نظام القطبية الثنائية" رغم كل ما عليه من ملاحظات وسلبيات، فقد كان يتيح للعرب قدراً أكبر للاستفادة من الصراع الدولي وفي اطار أوفر حظاً من المناورة والاستقلالية ناهيكم عن وجود صديق يمكن الاعتماد عليه وقت الضرورة رغم كل ما عليه من تحفظات. وقد كان الرئيس جمال عبدالناصر من أوائل الذين أدركوا وتصرفوا بحكمة وبُعد نظر إزاء موضوع الصراع الدولي وانقسام العالم الى معسكرين وذلك من خلال سعيه والرئيسين تيتو ونهرو وغيرهما، لتأسيس كتلة عدم الانحياز التي باشرت تحركها في قمة دور الحياد الايجابي عام 1955 والتي تطورت في الستينات لتشكل كتلة ضاغطة ويحسب لها حسابها. أما النظام الدولي الجديد فقد وضع على عاتقهم أعباء ثقيلة تتمثل في البحث عن موقع لهم في ظل اختلال توازن القوى والبحث عن هوية تميزهم لتحقيق التنمية والتقدم واللحاق بالعالم المتحضر. خصوصاً في ظل كيانات كبيرة ونمور شرسة وكارتيلات عملاقة وشركات فوق القومية ضخمة، بينما هم يعانون التمزق والاحتراب والصراعات الجانبية العربية - العربية. وقد شهد عقد التسعينات بكامله تقريباً حالاً من التناقض والعداء، فحتى القمم العربية ذات المهمات الشكلية والشعاراتية في الغالب لم يكن ممكناً التئامها خصوصاً بعد الذي أحدثه الغزو العراقي للكويت من جراحات يبدو انها لم تندمل لحد الآن رغم جروح الشعب العراقي تحت الحصار. - تاسعاً: اذا كانت الحرب الباردة قد طبعت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والصراع الايديولوجي بين الكتلتين، خصوصاً وان الغرب قد حدد له هدفاً واضحاً وهو القضاء على "امبراطورية الشر" والمقصود هنا الكتلة الاشتراكية وحركات التحرر في البلدان النامية، فإن النظام الدولي الجديد وفي ظل العولمة، قد استبدل الإسلام بالشيوعية بما فيه المنطقة العربية في محاولة لفرض الهيمنة، وقد تصدرت اطروحات وكتابات غربية المشهد السائد في السنوات الأخيرة مثل كتاب "نهاية التاريخ" The End of History لمؤلفه الباحث الأميركي فوكوياما الذي دعا فيه الى التسليم بالنموذج الغربي الليبرالي، معتبراً ما حصل هو نهاية التاريخ وما على العالم الا الدخول في المرحلة الجديدة باستحقاقاتها الحالية وضمن معادلة مستحدثة للرضوخ وقبول الهيمنة. وكتاب صدام الحضارات Clash of Civilizations لمؤلفه البروفسور الاميركي صموئيل هنغتون الذي اعتبر كسابقه الإسلام عدواً أول بعد انهيار الشيوعية داعياً الى شحذ جميع الأسلحة لمحاربته باعتباره الخطر الداهم أمام الحضارة الغربية والعالمية. باختصار أقول ان ذلك عودة الى مفاهيم قديمة للهيمنة وخصوصاً في الستينات، فقد عمل جون كينيدي على تجميع تروست الأدمغة لحماية "العالم الحر" ومقاومة الخطر الشيوعي، وساهم كيسنجر في الدعوة الى ذلك عبر "نظرية بناء الجسور" التي قال عنها جونسون "انها جسور ستعبرها البضائع والسلع والسياح والأفكار لإحداث التغيير المنشود في الكتلة الشرقية"، وهو ما استكمله بريجنسكي في كتابه "أميركا والعصر التكنوتروني" حين دعا الى نبذ الايديولوجيا باعتبارها عائقاً للتقدم خصوصاً بالنسبة للطرف الآخر. لقد كان الصراع الايديولوجي بما فيه في ميدان حقوق الانسان قائماً على التنافس لإلحاق الهزيمة بالخصم. فالغرب كان يركز على الحقوق المدنية والسياسية، في حين كان الشرق يضع في اعتباره ولو بالحد الأدنى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع اهمال أو تجاهل اتساع الدعوة لاحترام حقوق الانسان المدنية والسياسية. * مستشار قانوني وباحث