في طريقه الى لبنان منذ اربع سنوات تقريباً، عرج الرئيس الاميركي السابق جورج بوش على دمشق، كما تقضي الأعراف، وحلّ ضيفاً الى مائدة الرئيس حافظ الاسد. واختار بوش موضوعاً خارجياً تصوّر انه قد يصرف الاهتمام عن مناقشة ازمة الشرق الاوسط، وراح يتحدث بانفعال عن خيبة امله لدى مشاهدته على شاشة التلفزيون امرأة روسية تصفع ميخائيل غورباتشوف على وجهه، وتتهمه بأنه دمّر البلاد وأفقر العباد. وكان ذلك عقب اعلان غورباتشوف خوض معركة الرئاسة ضد يلتسن، وظهوره امام الجمهور كمرشح يقدم برنامجه الانتخابي. وعلّق جورج بوش على هذه الحادثة بقوله انه يأسف ان يُعامل مهندس "البريسترويكا" بهذه الطريقة المُذلة، مُستغرباً ان يُكافأ على انجازاته بالاهانة العلنية. واسترسل الرئيس الاميركي في تعداد خطوات الانفتاح التي حققها، بدءاً بتحرير المواطن من طغيان الديكتاتورية… وانتهاء بتحطيم النظام التوتاليتاري وبناء نظام جديد. وتوقف برهة ليستمع الى مداخلة الرئيس الاسد عبر المترجم. وعقب الرئيس السوري على الحديث بالتركيز على الدور المريب الذي قام به غورباتشوف لتفكيك الاتحاد السوفياتي، وتدمير قدراته، وتحويله خلال عام واحد الى دويلات تحكمها الفوضى، وقد انفصلت عنها روسيا لتصبح دولة من الدرجة الثالثة تابعة ومرتهنة لديون الدول الغربية. يتذكر الذين رافقوا الرئيس الاسد في آخر زيارة قام بها الى موسكو عام 1989 حيث عقد اجتماعاً طويلاً مع غورباتشوف، ان انطباعاته كانت مشوبة بالحذر وعدم الاطمئنان. ذلك انه لمس خلال اللقاء تغييراً جذرياً في موقف موسكو حيال ازمة الشرق الاوسط، سبق لوزير الخارجية ادوارد شيفاردنادزه ان دشنه عبر مبادرة مجحفة مفادها ان اي قرار يتعلق بإنهاء حال النزاع يجب ان يكون مقبولاً من اسرائيل كما هو مقبول من العرب. وبعد لقاءات مكثفة في اسرائيل زار وزير الخارجية دمشق وعمان والقاهرة شباط/ فبراير 1989 ليطرح مبادرته التي قوبلت بالانتقاد والاعتراض لأنها ساوت بين القاتل والقتيل. اضافة الى هذه المبادرة، رصدت دمشق في حينه سلسلة متغيرات في ظل شعار "البيريسترويكا" ظهرت عقب قمة غورباتشوف - ريغان، وأدت الى السماح لمليون يهودي بمغادرة الاتحاد السوفياتي الى اسرائيل مباشرة. وكان من الطبيعي ان يثير الرئيس الاسد هذه المسألة الخطيرة مع غورباتشوف، محذراً من مضاعفاتها المسيئة لانها تؤدي الى طرد مليون عربي من ارضهم وحلول اغراب محلهم في المستعمرات الجديدة. وحاول الرئيس السوفياتي تبرير قراره بالقول ان لليهود حقاً تاريخياً يسمح لهم بالعودة الى الارض التي طردوا منها. وناقشه الرئيس السوري في هذا الطرح مُبيناً له ان يهود روسيا ينتمون الى مملكة "الخزر" تلك التي روى حكايتها الكاتب اليهودي الشهير أرثر كوستلر. واخبره ان ملكها اختار الدين اليهودي 600 ميلادية لكي يتحاشى دعوة المحمديين وكرازة البيزنطيين. ويبدو ان غورباتشوف كان جاهلاً تماماً هذا الموضوع بدليل انه طلب من الوفد السوري تأمين نسخة من كتاب كوستلر. ولكن اطلاعه على هذه الحقائق لم يثنه عن اتباع طريق مختلف عن الطريق الذي سار عليه خروتشوف وبريجنيف، مدعياً ان دعم بلاده الموقف العربي ادى الى تهميش دور موسكو واستبعادها من كل حل يتعلق بأزمة الشرق الاوسط. وعاد الرئيس الاسد من ذلك اللقاء متشائماً، وراح يخطط لمواجهة مرحلة صعبة، خصوصاً بعدما لمس تلكؤ موسكو في تزويد سورية بالاسلحة اللازمة لإقامة "التوازن الاستراتيجي" مع اسرائيل. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وارغام غورباتشوف على الاستقالة مطلع 1992، حاولت سورية تغيير نظرية "التوازن الاستراتيجي" والاستعاضة عن الترسانة السوفياتية بشراء صواريخ مطوّرة من الصين وكوريا الشمالية. ولقد اعانتها على الاحتفاظ بموقعها التفاوضي الصلب عمليات "المقاومة اللبنانية" التي فرضت على اسرائيل تغيير مخططاتها نحو لبنان، واعلان سياسة الانسحاب مقابل توفير الامن. ورأت دمشق في المأزق الاسرائيلي فرصة جديدة لربط مسألة الجولان بموضوع لبنان، الامر الذي أسقط نظرية التفوق العسكري التي اعتمدتها اسرائيل واميركا بهدف ارغام العرب على تقديم تنازلات. بعد مرور عشرين سنة على ابرام معاهدة الصداقة والتعاون 1979… وبعد انقضاء عشر سنوات على الطلاق السياسي بين دمشقوموسكو، زار الرئيس الاسد روسيا وسط تساؤلات مختلفة تتعلق بتوقيت تغيير الحكم في اسرائيل، ومدى تأثير هذه الزيارة على مفاوضات السلام؟! بعض المراقبين يعزو تحريك الزيارة النائمة منذ نيسان ابريل الماضي، الى عوامل كثيرة ابرزها ظهور سياسة روسية جديدة تدعو الى ممارسة دور مستقل عن سياسة الغرب، مع التأكيد على معارضة هيمنة القطب الواحد. ولقد ظهرت هذه الرغبة بالممارسة في حرب كوسوفو، وفي اعمال دول الحلف الاطلسي الهادفة الى تطويق روسيا بدول معادية. وبما ان ازمة الخليج اظهرت اهمية تعاون موسكو مع واشنطن، وفرضت على الشريك الاميركي احترام مصالح الشريك الآخر، فان دمشق تتوقع تفعيل الدور الروسي في ازمة الشرق الاوسط على اعتبار انها تمثل احد راعيي عملية السلام منذ مؤتمر مدريد 1992. وقد شعر يلتسن بالرضا عندما حاوره الأسد وراجع معه مشاكل المنطقة، خصوصاً وان واشنطن تحولت خلال السنوات السبع الماضية الى مركز استقطاب لجميع الزعماء. وكانت زيارة الرئيس السوري مبعثاً لتهليل الصحف الروسية في وقت تستعد العاصمة الاميركية لاستقبال باراك وعرفات بعدما ودعت مبارك والملك عبدالله. ولكي تعرب الحكومة الروسية عن ترحيبها بإحياء مرجعية احد راعيي مؤتمر مدريد، كررت دعوتها الى تحريك عملية السلام وفق مبادئ مدريد، مجددة دعمها لموقف سورية المطالب باستئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها سنة 1996. من ابرز المسائل التي جرى بحثها بإسهاب كانت مسألة مستقبل النظام العراقي، وما يمكن ان يحدثه التحرك الاميركي من استقطاب اوروبي لجر الحلف الاطلسي الى معركة جديدة يحسم فيها مصير العراق. ومع ان البيانات المشتركة التي صدرت مؤخراً عن القمم السورية - الايرانية كانت تحذر من التدخل الخارجي في شؤون العراق، الا ان التحركات الاميركية المشبوهة تشير الى احتمالات تطبيق نظرية حرب كوسوفو على امل الاعداد لتسوية في الشرق الاوسط تكون ضامنة لتأييد كل الانظمة. وبما ان موسكو كانت ترى في حرب كوسوفو حصاراً لخاصرتها الغربية… فهي ترى ان التغيير في العراق وايران على طريقة افغانستان، يمكن ان يؤدي الى تطويق خاصرتها الجنوبية بدول معادية تعمل على ابعاد نفوذها والحاق الضرر بمصالحها. لذلك لامس البيان المشترك هذه الناحية بوضوح عندما ذكر ان الرئيسين متمسكان بالحفاظ على وحدة الاراضي العراقية وسلامتها، كتعبير عن قناعتهما بأن مصير العراق يجب ان يقرره الشعب العراقي بنفسه. في الرد على اعلان الادارة الاميركية قلقها ازاء مسألة بيع اسلحة روسية لسورية، اكدت دمشق حقها المشروع في امتلاك وسائل الدفاع عن النفس ازاء الاسلحة المتطورة التي تهديها الولاياتالمتحدة لاسرائيل، مؤمنة لها التفوق العسكري. وسبق لسورية ان سجلت سلسلة اعتراضات على هذه المعاملة الاستثنائية التي تشجع اسرائيل على رفض مشاريع السلام وتحول دون قبولها تنفيذ القرارات الدولية. والمعروف ان روسيا كانت قد طالبت الولاياتالمتحدة بضرورة التوصل الى خفض عام لصادرات السلاح الى المنطقة على اساس اتفاق جماعي بين المصدرين الرئيسيين تحكمه رقابة دولية. وايدت مصر والدول العربية هذا الموقف في وقت رفضته اسرائيل المالكة لجميع انواع الاسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية والصاروخية. ويستفاد من عملية شراء اسلحة روسية متطورة في هذا الوقت بالذات، ان سورية تفاوض على السلام من دون ان تسقط من حسابها قرار الاستعداد للحرب، خصوصاً وان باراك سيطرح اوراقه الحربية على مائدة المفاوضات، متذرعاً بالعقيدة الامنية التي تقول بأن التفوق العسكري الاسرائيلي هو الضمانة الوحيدة لبقاء اسرائيل، وليس السلام مع العرب. ومن هذه الزاوية يمكن النظر الى اهداف التحرك السوري باتجاه الحليف القديم لأن يلتسن مضطر الى حماية سلاحه كما كان يفعل بريجنيف، خصوصاً وان الاتفاق الجديد سيجعل النزاع على جبهتي الجولان ولبنان نزاعاً اقليمياً ودولياً ستسعى الدولتان الى احتوائه خوفاً على النفط والغاز وحرية الملاحة. ومن المؤكد ان دمشق ستطلب مشاركة القوات الروسية في قوات الفصل على الجولان، كما طالبت اسرائيل بوجود قوات اميركية وافق كلينتون على ارسالها الى المرتفعات كمؤشر على استعداده للتعاون في حفظ السلام. تبقى مسألة بالغة الاهمية يمكن ان تطرحها سورية في المستقبل بعد تثبيت اسس التعاون الجديد. انها مسألة استقدام مليون يهودي تدعي اسرائيل انها بحاجة اليهم في اطار تعزيز قدراتها السكانية واجتذاب مهاجرين من بلدان اخرى. ويبدو ان اختيار السجين السوفياتي السابق ناتان شارانسكي كوزير للداخلية، سيقوي مفاتيح الهجرة الوافدة من روسيا، وينمي ظروف الكارثة الديموغرافية في الضفة الغربية والجولان. ومعنى هذا ان ما فشلت دمشق في تنفيذه مع غورباتشوف يمكن ان تنجح في تحقيقه مع يلتسن اذا اقتنع بأن الهجرة اليهودية تؤدي الى تهجير العرب. يقول المعلقون ان زيارة الاسد لموسكو ذكرت الدولة الروسية بأهمية دورها، وبالقدرة النووية التي تمتلكها في حال قررت ان تلعب دور الشريك في ازمات العالم. لكن ضخامة دورها السياسي لا يمكن ان ينسيها ضآلة دورها الاقتصادي الخاضع للوصاية الاميركية والرقابة الدولية. ولهذا وصل الى واشنطن مبعوث روسي قبل وصول الأسد الى دمشق لكي يبلغ ادارة كلينتون ان الديون المكدسة ستظل مرتهنة لمبدأ التعاون، وان التسوية المقترنة بتوقيع موسكو ستضمن أمن جميع الدول بما فيها اسرائيل. * كاتب وصحافي لبناني.