هل أدت الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية في العالم خلال السنوات الماضية إلى تغيير في القيم والمفاهيم الاقتصادية؟ لا شك في أن الأحداث الدرامية التي مرت بها الاقتصادات العالمية الرئيسة، مثل اقتصاد الولاياتالمتحدة أو اقتصادات البلدان الأوروبية، ناهيك عن اقتصادات البلدان الناشئة، زلزلت القيم والمفاهيم في صورة غير مسبوقة، ودفعت المسؤولين في الإدارات الاقتصادية وكبار المديرين في الشركات والمؤسسات الخاصة، إلى التمعن في دروس الأزمة. لم يعد مفهوم التحرير الشامل مسألة مسلَّماً بها من دون جدال، كما طرحت إدارة ريغان في مطلع ثمانينات القرن الماضي وإدارة ثاتشر في بريطانيا بعد تسلمها السلطة السياسية أواخر السبعينات. أرادت تلك الإدارات، ومن ورائها منظرون اقتصاديون، مثل ألان غرينسبان، الذي كان حاكماً لمجلس الاحتياط الفيديرالي في الولاياتالمتحدة، أن تمنح القطاع الخاص العمل بحرية مطلقة وتخفيف أعباء الالتزامات القانونية والتنظيمية، بما يعزز الاستثمار الخاص وتعزيز قدرة الاقتصاد على خلق فرص العمل، وكذلك كيَّفت السياسات النقدية بما يوفر التمويلات المواتية وبأسعار فوائد متدنية لدعم أعمال الوحدات الاقتصادية الخاصة. وخففت الإدارات الاقتصادية آنذاك أعباءَ الضرائب على الشركات وكبار رجال الأعمال وأصحاب المداخيل العالية، بحجة تعزيز القدرة على توظيف أموال مهمة في قنوات الاقتصاد المتنوعة. وغني عن البيان أن السياسات الضريبية تلعب دوراً حيوياً في جذب المستثمرين وحفزهم على توظيف الأموال، لكن في مقابل ذلك، وفي ظل عدم القدرة على خفض الإنفاق في شكل فاعل، فقد تزايدت الأعباء الإنفاقية على الحكومات، في الوقت الذي انخفضت إيرادات الضرائب، بما رفع قيمة العجز في الموازنات الحكومية. هناك التزامات مهمة لا يمكن تخفيفها من دون إحداث مشكلات سياسية، منها: الإنفاق العسكري، الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، التزامات التأمينات الاجتماعية وضمانات العاطلين عن العمل، وكذلك الالتزامات الخاصة بتحديث البنية التحتية. ولذلك، فقد جاءت الأزمة الاقتصادية لتكشف عن اختلالات مهمة وتراجعاً في مستويات الخدمة الحيوية. وأدت الأزمة أيضاً، إلى تبني الإدارات الحكومية سياسات تقليص الإنفاق، وأحياناً تبني سياسات تقشفية حادة، بما عزز الاضطرابات الاجتماعية. إن فلسفة التحرير الاقتصادي التي تبنتها الإدارات السياسية في السنوات الثلاثين الماضية، كانت تهدف إلى زيادة الفاعلية والارتقاء بالأداء وتخفيف أعباء الدولة وتقليص دورها الرقابي، لكن الانفلات في التطبيقات دفع إلى تزايد حجم الديون المصرفية التي التزمت بها الحكومات من أجل تمويل عجز الموازنات، وكذلك تلك التي التزمت بها المؤسسات الخاصة في العديد من القطاعات. وإذا كان منظرو الفترة المشار إليها أكدوا أهمية إبعاد الدولة عن التدخل في الأعمال والنشاطات الاقتصادية، فإن الأزمة دفعت الحكومات إلى تبني سياسات تهدف إلى تعويم العديد من المؤسسات المالية وغيرها وإنقاذها وحمايتها من الانهيار. وأدت الأوضاع إلى قيام الحكومات في الولاياتالمتحدة والبلدان الأوروبية بالتدخل لحماية مؤسسات مالية مهمة شارفت على الإفلاس، أو على الأقل الإعسار، ووفرت لها أموالاً من حصيلة الضرائب، وكانت تلك الأموال كبيرة ومهمة. ومن أهم الأمثلة ما قامت به الحكومة الأميركية مع شركة «جنرال موتورز» لصناعة السيارات، حيث دفعت ما يزيد عن 30 بليون دولار في بداية الأزمة. ولحسن الحظ، فإن التغيرات الإدارية والتنظيمية في الشركة أدت إلى تحسين الأداء وتمكن الشركة من تسديد ما عليها من التزامات للحكومة. ولا تزال الحكومات في البلدان الأوروبية تقوم بدفع أموال مهمة لتحسين أوضاع المصارف وغيرها من مؤسسات رئيسية، كما حدث أخيراً في إسبانيا، ولكن بعد اقتراض تلك الأموال من مؤسسات مثل البنك المركزي الأوروبي أو الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي. هذه التدخلات عطلت مفاهيم التحرير الاقتصادي المتطرفة، وأوجدت قيماً جديدة لدى الأنظمة الرأسمالية تؤكد دوراً مهماً للدولة في الرقابة ودعم المؤسسات وتعزيز دورها في توفير الأموال للخزينة العامة من خلال الأنظمة الضريبية. وعلى رغم كل ما حدث، فإن هناك من يقاوم المتغيرات المؤدية إلى ترشيد العمل الاقتصادي وحمايته من الشطط، كما يتضح من المداولات في الكونغرس الأميركي. وإذا كانت الاشتراكية فشلت في التطبيق، نتيجة لإصرار المنظرين آنذاك على تطبيقات غير واقعية، فإن تهذيب العمل الاقتصادي في الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية يواجه عناد المنظرين المتبقين من حقبة التحرير الشامل، بما يمكن أن يؤدي إلى تكرار الأزمات الصعبة. إن المفاهيم الجديدة آخذة في التبلور، ولن تتضح في شكل نهائي إلا بعد حين، حيث إن هناك قضايا محورية تتصل بالالتزامات الاجتماعية للحكومات مازالت قيد الجدل المضطرب. ومن أهم الأمثلة ما جرى بشأن الرعاية الصحية التي اعتمدت من قبل إدارة أوباما، والمقاومة لهذا النظام من تيارات يمينية في الحزب الجمهوري، ورفع الأمر إلى المحكمة العليا. ويبدو أن استمرار الركود الاقتصادي سيحتم على الحكومات زيادة الالتزامات، على رغم تراجع الإيرادات الضريبية وارتفاع معدلات العجز في الموازنات، فكيف سيصار إلى التوفيق بين نظام اقتصادي واجتماعي يتسم بالعدالة وبين الحاجة لضبط إيقاع الإنفاق الحكومي؟ لا شك في أن أي نظام رأسمالي كفوء يعتمد على قدرة شرائية مهمة لدى قطاعات واسعة في المجتمع، ولا يمكن النمو والتوسع في النشاط من دون زيادة الاستهلاك لدى أوسع القطاعات الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، لا بد من تعزيز الرقابة على التمويل وإقامة الأعمال والمشاريع وضبطها، كي لا تكون عبئاً اجتماعياً وتستنزف أموال دافعي الضرائب عند وقوع الأزمات. يضاف إلى ذلك أهمية تحصيل الضرائب في شكل عادل، حتى لا تضطر الحكومات إلى تبني سياسة تمويل العجز. لم يعد هناك مكان للاستقطاب في الفكر الاقتصادي، بل المطلوب هو التأكيد على قيم العمل الاقتصادي الرشيد الذي يمكِّن من النمو والتنمية ويؤدي إلى عدالة توزيع الدخل. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت