راهن بعض المحللين السياسيين خصوصاً المهتمين بالحال الإسلامية والباحثين في شؤون الحركات الاسلامية قبل احداث أيلول سبتمبر 2001، وبخاصة بعدها، على فرضية انهيار التيار الاسلامي أو تراجعه او ما سماه الباحث الفرنسي جيل كيبل "أفول التيارات الاسلامية". وتعرضت تلك المقولة لجدل شديد في ظل الحملة الاميركية القائمة ضد الارهاب وبعدما أدرجت واشنطن كثيراً من الحركات الاسلامية في قوائم المنظمات الارهابية من دون تمييز بين الحركات المعتدلة وتلك المتشددة او بين التي تقاوم لتحرير أرض مغتصبة وتؤيدها غالبية كبيرة في البلاد الاسلامية، وتلك التي ترتكب عنفاً أعمى عبثياً، أو التي دخلت في صراع مع انظمة حكم قمعية من أجل رفع الضغوط عنها ولا يؤيدها احد تقريباً أو أقلية غير معتبرة. ويجتهد الباحثون والمحللون والمراقبون للبحث عن مقاييس معتبرة لقياس مدى ما يتمتع به التيار الاسلامي من تأييد في الاوساط الشعبية. وفيما يدّعي كثير من التيارات السياسية الشيء ونقيضه من دون دليل معتبر، مثل القول بأن تطبيق الديموقراطية الكاملة واجراء انتخابات حرة ونزيهة سيؤديان الى اكتساح التيارات الاسلامية لصناديق الاقتراع ما يعني في نظرهم "ديموقراطية المرة الواحدة" حيث لن تسمح تلك التيارات بعد ذلك بأي انتخابات او ديموقراطية او حياة نيابية، وبذلك ينتهي الفرض الى بقاء الاستبداد وترسيخ القهر. في حين يقلّل البعض من حضور هذه التيارات ويذهب الى القول إنها لا تحظى بأي تأييد يُذكر وأن سر نجاحها هو أنها أقلية منظمة ملتزمة فيما الغالبية صامتة أو غائبة أو زاهدة في المشاركة. وفي ظني أن مقياس الانتخابات الحرة النزيهة المتكررة هو أفضل المقاييس التي يمكن الاستناد اليها في قياس قوة حضور التيارات السياسية، مع الاخذ في الاعتبار انه ضمن مقاييس اخرى مهمة لكي تكتمل الصورة مثل الحضور الاجتماعي والتأثير الثقافي وعدد العضوية والحركات المساندة والرموز الحية في المجتمع. وتتعرض الحركات الاسلامية اليوم لقصف اعلامي وسياسي وأمني شديد، ما جعل البعض يتوقع تراجعها الكبير في ظل الحملة المتصاعدة ضدها. وحدث خلط شديد في الاوراق حيث لم تعد هناك دراسة حقيقية للاختلافات الواسعة بين الحركات السلمية التي تحترم الدستور وتعمل في ظل القانون وتسعى الى كسب رضا الشعوب وتستمد سلطتها من تأييد الجماهير لها عبر الانتخابات الحرة، والحركات الرافضة لمجمل الاوضاع ولا تعترف بدساتير وتخرق القوانين ولا تقدم بديلاً مقبولاً، بل يلجأ بعضها الى فرض نفسه بالعنف اللفظي او المعنوي او بالقوة المسلحة. وحدث اثناء الانتخابات الاخيرة في المغرب ما يؤكد هذا الموقف وتبنت اتجاهات يسارية سابقة وعلمانية الترويج لمثل هذا الخلط مع الترويج لحملة تخويف من اكتساح حزب العدالة والتنمية للانتخابات البرلمانية. وفي ظل الانتخابات الاخيرة التي تمت في اكثر من بلد مسلم عربي وغير عربي مثل المغرب والجزائروباكستان، نستطيع بقراءة متأنية ان نستخلص مدى صحة الفرضيات السابقة وصدقيتها. حقق حزب "العدالة والتنمية" الاسلامي في المغرب مفاجأة الانتخابات البرلمانية، وحقق اختراقاً مهماً في الخريطة السياسية والبرلمانية في البلاد، اذ ضاعف مقاعده البرلمانية ثلاث مرات في انتخابين متتاليين واصبح القوة الثالثة او الرابعة في البلاد، واصبح مؤهلاً للاشتراك في الحكومة المقبلة بعد اسناد تشكيلها الى السيد ادريس جطو وزير الداخلية السابق الذي اجرى الانتخابات التي وصفت بأنها اكثر الانتخابات نزاهة في المغرب بعد استقلاله، والمستقل عن كل الاحزاب، وقد ينتقل الاتحاد الاشتراكي الى المعارضة او يبقى شريكاً مثل بقية الشركاء. وفي الجزائر المجاورة حافظت كتلة الاحزاب الاسلامية مجتمعة الاصلاح، حركة مجتمع السلم، النهضة على وضعيتها كقوة ثانية او ثالثة في الانتخابات الولائية والبلديات التي جرت اخيراً مع تقدم حزب الاصلاح بقيادة عبدالله جاب الله كما حدث اثناء الانتخابات البرلمانية وهو يسير في اتجاه المعارضة للأوضاع القائمة. وتأخرت حركة "مجتمع السلم" حمى للعامل نفسه اذ شاركت في تكريس الاوضاع القائمة المفروضة. وتكاد تتبخر حركة النهضة للعامل نفسه ايضاً بسبب انقلاب البعض فيها على مؤسسها الشيخ جاب الله الذي اسس حزباً جديداً اصبح مؤهلاً لقيادة التيار الاسلامي اذا تحقق التحالف المرجو بين تلك الاطراف جميعاً لأن ما يجمعها ويؤلف بينها اكثر بكثير مما تختلف حوله. وفي ظل الانسداد السياسي وتأزم الموقف في البلاد اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً ومع تجربة المغرب الحيوية، فإن مراجعة الموقف في الجزائر من كل الاطراف هي فريضة الوقت لإعادة فرز التيارات الاسلامية وحصار تيار العنف الاعمى العبثي وقطع الطريق عليه واعادة الاعتبار الى "الجبهة الاسلامية للانقاذ" في صورة جديدة. ويكفي العسكر ومؤيديهم ما جروه على البلاد من كوارث كان يمكن تجنبها لو كان هناك قليل من الحكمة، لكن الظاهر ان اللعبة كانت اكبر من الجميع والهدف لم يكن مجرد الجزائر بل كان مجمل التيارات الاسلامية وأكثر من ذلك تشويه صورة الاسلام. ومن دروس الجزائر أن المشاركة في الحكم من دون برنامج واضح واستراتيجية محددة تضر بالأحزاب الاسلامية، وقد يعتذر البعض بأن انقاذ الوطن والحفاظ على الدولة والهوية الاسلامية ضرورة فرضت التلوث بأوزار المشاركة مع من تلوثت ايديهم بالدماء، الا أن الضرورة تقدر بقدرها ولا يصح التمادي فيها من دون مراجعة. والوضع في المغرب يختلف، وعلى الاخوان في حزب العدالة والتنمية دراسة المشاركة بتأن وعدم الاندفاع فيها، وها هي تجربة حزب المعارضة الرئيسي "الاتحاد الاشتراكي" توضح الدرس نفسه، اذ يجب تحديد الاستراتيجية في هذه المرحلة بوضوح، كما يجب رسم الاهداف بدقة، من فوائد المشاركة، وتحمل عبء المسؤولية والتمرن على دولاب العمل، وتقليل حجم الخوف لدى الآخرين والإفادة من الاحتكاك الاقليمي والدولي، وتراكم الخبرات، والانتقال من الأحلام والمثاليات الى أرض الواقع الصعب. إلا أن ذلك يمكن تحقيق معظمه من دون تحمل أوزار فشل الحكومات المتتالية لأن دور الوزراء في بلادنا اصبح محدداً جداً، وقدرتهم على رسم السياسات التنموية والاجتماعية باتت ضئيلة، وهناك اجهزة غير مرئية هي التي تتحكم وهناك مؤسسة الفساد والإفساد التي تخشى من فضحها وكشف اوراقها أمام الشعب وستقاتل بمرارة للحفاظ على مكاسبها او التستر خلف الحكومات، لذلك لعل من الافضل للحركة الاسلامية أن تعمل على ترسيخ دولة العدل والقانون، دولة المؤسسات والشفافية، والاصلاح الشامل الذي يفتح الملفات بهدوء ويعمل على علاج الخلل الذي نعيش فيه منذ الاستقلال الوهمي برحيل القوات الاجنبية والتي عادت تطأ بأحذيتها الثقيلة ارض الوطن من جديد لتحمي الاستثمارات الاجنبية ولتعطل مسيرة الديموقراطية. كانت النتائج في انتخابات باكستان مفاجأة اخرى، اذ قد نجح تحالف الحركات الاسلامية المعتدلة بقيادة الجماعة الاسلامية التي يتزعمها القاضي حسين اسسها المودودي منذ عقود وتنتشر في شبه القارة الهندية في تحقيق المركز الثالث باسم مجلس العمل الموحد، وهو يعارض سياسات برويز مشرف، كما يعارض الوجود الاميركي في باكستان والاحتلال الاميركي لافغانستان، واصبح من شبه المؤكد ان يحكم في المناطق المجاورة لأفغانستان مع وجود قوي في بقية الولايات كما في البرلمان المركزي وهذه افضل نتيجة تحققها الاحزاب الاسلامية في تاريخ باكستان، وهناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء ذلك: الأول: وحدة الحركات الاسلامية والاتفاق على برنامج عمل موحد وخوض الانتخابات بقوائم مشتركة، وهذا لو تحقق في البلاد الاسلامية لأصبحت القوى الاسلامية القوة الثانية بلا منازع ولحققت حضوراً اقوى وتأثيراً متزايداً، لذلك تحرص الجهات المناوئة على تفتيت الجبهة الاسلامية وشرذمتها وزرع الخصومات في ما بينها، وتنجر بعض الفصائل الاسلامية في هذا الطريق الوعر. الثاني: الاستفزاز الاميركي للمشاعر الاسلامية، اذ فقدت السياسات الاميركية اي صدقية بعد شن الحملة على الاسلام باسم الحملة على الارهاب، وتحولت مشاعر الشعوب الاسلامية ضد اميركا بقوة ما يعيد المواقف السابقة نفسها ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي. وكان للدور الاميركي في باكستان بلا شك أثر في التأييد الذي حظيت به الحركات الاسلامية مما قفز بها الى الموقع الثالث. الثالث: المعارضة المتصاعدة لسياسات مشرف للطلبات الاميركية. وعلى رغم وجود معارضة ممثلة في حزب الشعب وحزب الرابطة الاسلامية نواز شريف الا ان مشرف استطاع شق حزب الرابطة وحاول تحييد حزب الشعب لكنه فشل امام الحركات الاسلامية التي اصبحت قوة المعارضة الرئيسية لسياسات مشرف. وأهم دروس باكستان ان توحيد صفوف الحركة الاسلامية في حال الخطر، يجعل قوتها تتزايد ويؤهلها لاحتلال موقع سياسي يزيد من تأثيرها. يظهر من القراءة السريعة لمجمل الانتخابات في هذه البلدان الثلاثة ان تأثير احداث أيلول سيظل محصوراً في جماعات العنف التي يمكن أن ينبهر بأسلوبها بعض الشباب، خصوصاً في اطراف العالم الاسلامي لكنها سرعان ما تنتهي، اما الجماعات المعتدلة، خصوصاً التي تنشط سياسياً فستظل مؤثرة وسيتصاعد تأثيرها مع كل انتخابات حرة، وفي ظل البحث عن قياس لمدى قوتها فإن الانتخابات الاخيرة توضح انها تشغل الموقع الثاني او الثالث مما يعني انها تشكل بديلاً محتملاً، خصوصاً في ظل فشل الحكومات المتعاقبة على حل المشكلات المزمنة، والافضل للجميع ان تكون هناك مصالحة وطنية وقومية واسلامية تتفق على برنامج عمل مشترك للخروج من المأزق الحالي الذي تواجهه الامة الاسلامية بديلاً من حال الاحتراب الداخلي، برنامج يعترف بالحق في الوجود والتنظيم والعمل والدعوة لكل التيارات من اجل بناء وطن حر مستقل يعمل الجميع من اجل مصالحه كل وفق رأيه الخاص في ظل ديموقراطية حقيقية من أكبر تجلياتها الانتخابات الدورية الحرة والنزيهة والشفافة التي تبين حجم كل تيار وقوته ولا تقصي احداً. * نائب سابق في البرلمان المصري عن "الاخوان المسلمين".