تلوح بداية النقد الفلسطيني للانتفاضة، والمتأخر جداً للأسف، واعدة وجديرة بكل تشجيع حتى تتجاوز نقد الأعراض إلى نقد الخطأ المؤسس الذي هو الانتفاضة ذاتها. "عدم انضباطها"، "فوضويتها"، "عنفها الذي لا ضرورة له"، "عسكرتها" و"مهاجمتها للمدنيين الإسرائيليين" التي يؤاخذها عليها وزراء السلطة الفلسطينية، ليست كما يظن بعض نقادها دمامل سرطانية على جسم سليم. الجسم الذي ينتج أوراماً خبيثة هو جسم دبّ منه العطب في الصميم. نقطة الانطلاق لأي نقد مثمر هي الحفر عميقاً في القرار السياسي - العسكري الذي انتجها وحشد ديماغوجياً احباطات الجماهير الفلسطينية المتألمة وراءها وحمّلها رسالة خلاصية فلسطينية، عربية، إسلامية وعالمية ليست بإطلاق مؤهلة لها. الانتفاضة لم تتحول إلى فوضى دامية بخطأ لم يكن في الحسبان، بل وُلدت فوضوية ودموية. جمهورها من شظايا القنبلة السكانية الذين لا مأوى لهم والعاجزون عن التحكم في غرائزهم العدوانية. اعطوا باسم الانتفاضة معنى لهيامهم في الشوارع على غير هُدى ليلاً ونهاراً ووجدوا فيها غطاء نبيلاً لتنفيس عنفهم الذي راكمته احباطاتهم تحت الفقر والحرمان العاطفي والاحتلال. نقطة العطب في القرار الذي فجرها هي ذاتها التي لازمت القرار السياسي - العسكري العربي الإسلامي منذ اللقاء الصدامي بالغرب الحديث: تجاهل قراءة موازين القوى باسم "التدخل الرباني في التاريخ"، كما قال أحد الخمينيين العرب رداً على من اخذوا على الخميني قرار مواصلة الحرب على العراق بعد انسحاب الجيش العراقي من الأراضي التي احتلها في إيران. والحال أن ميزان القوة لم يكن لمصلحة هذه الأخيرة. وبما أن هذه القناعة عميقة في الذهنية الإسلامية كررها صدام حسين نفسه في المقابلة الشهيرة مع "سي ان ان" رداً على سؤال: كيف ستنتصر على بوش وحلفائه؟ "سأنتصر لأن الله معي وسيُهزم بوش لأن الشيطان معه". همّ صانع وصاحب القرار - وهما عادة شخص واحد - كان دائماً التطابق مع متطلبات النص الفقهي وليس مع متطلبات ميزان القوة. كل احتلال في جميع الأزمنة والأمكنة يحول الجهاد إلى فرض عين على الجميع دونما تفكير في احتمالات الهزيمة والنصر. كأنما المطلوب لاشعورياً ليس الانتصار بل الجهاد في ذاته ولو كانت الهزيمة احتمالية عالية. لا شك أن خطأ تحويل الحرب من الحقل الاستراتيجي إلى الحقل اللاهوتي ينتهك قوانينها ويجعل المواجهة بين المخططات الاستراتيجية والقناعات الدينية غير متكافئة. وهكذا منذ قرنين ظل الباعث الجهادي يكبت الاعتبارات الاستراتيجية ويغذي سياسة الأسوأ الانتحارية التي ساهمت في النزول بالعالم العربي إلى الحضيض الذي شخّصه بموضوعية تقرير برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة. الخطاب الجهادي الغوغائي الذي واكب الانتفاضة ردع الجميع عن التفكير النقدي في وسائلها وأهدافها وفي مبرر وجودها ذاته حتى كاد التساؤل عن جدواها يغدو من نواقض الوطنية أو الدين، هذا منتظر ومفهوم من جمهور ونخبة مكتئبين يتحرقان إلى "مخلّص" ولكنه سياسياً غير مبرر. فقد آن لنا بعد كل الهزائم التي كابدناها أن لا تسكت عن المسكوت عنه في السياسة على الأقل. جدراة وجدية القيادة السياسية تقاس بقدرتها على صنع القرار المناسب في الوقت المناسب، توقع الحدث وعواقبه للحؤول دون وقوعه أو الحد من أضراره. الأحكام المسبقة الغيبية، الأهواء السياسية، كفكرة الجهاد الثابتة، الانفراد بالقرار والعمى السياسي أعاقتها عن التفكير الجدير بهذا الاسم كما أعاقت قبلها القادة الجهاديين من عبدالقادر الجزائري إلى مفتي فلسطين من توقع مآل الحروب الكارثية التي خاضوها لا بأفق استراتيجي يتوخى كسب الحرب، بل بأفق الجهاد والاستشهاد تبرئة للذمة الدينية ليس إلا. هل كان الوضع الاقليمي والدولي لحظة اتخاذ قرار إعلان الانتفاضة من التعقيد والالتباس بحيث يحتمل مداليل وقراءات عدة مختلفة أو متناقضة مما يجعل هامش الخطأ كبيراً؟ كلا. بل كان ممكن التوقع بهامش ضئيل من الخطأ لن يؤثر على المجرى العام للأحداث. أضف إلى ذلك وجود ثلاثة مخاطر: العدول عن التفاوض إلى العنف، محاولة محاكاة تجربة حزب الله الشديدة الخصوصية واسقاط باراك في الانتخابات لمصلحة أي زعيم ليكودي تطبيقاً لسياسة الأسوأ التي هي اختصاصنا لا ينافسنا فيه منافس... ومع ذلك وقع المحذور! وقعت القيادة الفلسطينية في خمس قراءات خاطئة أدت إلى الكارثة التي نعرف. أخطأت في قراءة انتخاب بوش الذي ادخلها في نشوة صوفية افقدت عرفات اتزانه فضمّن تهنئة الرئيس الجديد شماتة بسقوط منافسه الديموقراطي وشتائم في كلينتون اسخطت بوش الذي رأى فيها، حسب ادوارد جورجيان، تدخلاً في غير محله في الشأن الأميركي وتطاولاً على سلفه يشكل اهانة شخصية له. هذه الرسالة الرعناء تكشف مدى جهل قيادة عرفات بالعالم وبالدول الكبرى التي تتعامل معها يومياً تقريباً! فقد قاست حالة التداول الانقلابي في العالم العربي حيث لا شيء يطرب له الخَلف كهجاء سلفه على حالة التداول الديموقراطي حيث يتمتع الرئيس السابق بكل حقوقه بما فيها الاحترام. وبما أن الأخطاء لا تأتي فرادى فقد توقع عرفات أن تتطابق سياسة إدارة بوش الابن مع سياسة بوش الأب كشاهد دامغ على غياب التحليل العيني للحدث، بل حتى انعدام الحدس السياسي الذي يسعف السياسي أحياناً في اللحظة الحرجة. أخطأت أيضاً في قراءة انتخاب شارون مراهنة على سياسة الأسوأ ومتوقعة، على غرار قيادات الإسلاميين ومثقفيهم، ان فظاظة شارون ستعزل إسرائيل في العالم وستعبئ الفلسطينيين للجهاد وتحرض العرب على الانتفاضة على قياداتهم التي تخلت عن "الفريضة الغائبة" فحالت بينهم وبين الجهاد في فلسطين، جهلاً منها ببسيكولوجيا يهود إسرائيل الذين يتحدون وراء قيادتهم كلما استشعروا خطراً وجودياً، وكل عنف على حدودهم أو داخلها يوقظ فيه هذا الخوف شبه الوراثي كرد فعل تلقائي. وهكذا رأى الإسرائيليون، عكساً لتوقعات القيادة الفلسطينية، في شارون رجل اللحظات الفاصلة والخطر المحدق حقيقة أو تخييلاً. موقف أحد المؤرخين الجدد المناصر للمصالحة بين الشعبين، توم سيغيف، دلاّل بهذا الصدد. فقد أعلن بعد قيام الانتفاضة أن "الفلسطينيين يدفعوننا ثانية إلى الاتحاد القبلي القديم، إلى أحضان الصهيونية". أخطأت في قراءة ما بعد أوسلو حيث توقع العالم أن القيادة الفلسطينية ودّعت العنف إلى السياسة لتحقيق أهدافها. إعلان الانتفاضة شكك العالم في جديتها، بل حتى في جدواها. وأخيراً أخطأت في قراءة ما بعد 11/9 عندما غدا واضحاً أن العنف المبرمج ضد المدنيين لأهداف سياسية تعرّى من كل شرعية أخلاقية أو دولية. القرار المنطقي الوحيد بالنسبة لها كان وضع حد للانتفاضة التي تخصصت في هذا النوع من العنف. بدلاً من ذلك لجأت إلى قراءة فصامية لما بعد 11/9: استنكار العمليات الانتحارية ضد المدنيين الأميركيين وتبريرها ضد المدنيين الإسرائيليين باسم لاهوت سياسي سكولاستيكي لم يعد ينطلي على أحد: "العنف الفلسطيني مشروع لأنه ضد الاحتلال" حتى داخل إسرائيل نفسها وداخل الباصات والجامعات والمراقص والمطعام...! لم يكن في وسع قائد يصنع قراره بوحي من تقلبات مزاجه وهواجسه الدينية، وليس بناء على المعطيات الموضوعية والاحصائية التي تجمعها وتدرسها مؤسسة متخصصة، إلا أن يرتكب مثل هذه الأخطاء القاتلة. فما هما الدرسان اللذان يحسن بالقادة والمثقفين والإعلاميين الفلسطينيين والعرب، الذين استيقظوا فجأة من كابوس برك على صدورهم طوال عامين ليوجهوا سبابة الاتهام إلى الانتفاضة، ان يستخلصوهما؟ 1- استبعاد العنف باطلاق والالتزام الحصري بالسياسة ولا شيء غير السياسة كما لو كانت حكم قيمة اخلاقيا مطلقا: "لا بديل دائماً عن ارغام العدو على التفاوض بالعصيان المدني، الذي سماه الصادق المهدي "الجهاد المدني"، وبالضغط عليه بالرأي العام العالمي وتقديم القيادات التي ما زالت مصرة على مواصلة الانتفاضة للشارعين الفلسطيني والعربي كحليفة للاحتلال. 2- إقامة الحداد على مطاردة وهم الانتصار العسكري على إسرائيل وأميركا وأوروبا لشفاء جروح الهزائم التي لم يُؤخذ بثارها. لماذا؟ لأن مثل هذا الانتصار تمنعه موازين القوى إلى أجل غير مسمى. فما العمل؟ الاصغاء جيداً إلى نصيحة ثمينة قدمها لنا الفرنسي جان بيار شوفينمان: "لن تغسل الشعوب العربية إذلالها الذي عمره قرنان هزيمة المماليك أمام نابليون الا إذا تداركت تخلفها" الشامل. ولمثل ذلك فليعمل العاملون.