شكّل الروائي البرازيلي باولو كويلو منذ انطلاقته في أواخر الثمانينات ظاهرة لافتة في عالم الكتابة والنشر. فهذا الرجل الخمسيني الذي بدأ حياته كاتباً مسرحياً عادياً ومؤلفاً للأغاني الشعبية استطاع خلال سنوات محدودة ان يتجاوز حدود بلاده ولغته ليصبح أحد أكثر الكتّاب العالميين رواجاً ونجومية في مجال الكتابة الروائية، اذ نشرت مؤلفاته، كما جاء على غلاف الطبعات العربية المترجمة من شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، في أكثر من مئة وخمسين دولة وترجمت الى احدى وخمسين لغة من لغات العالم الحية وبيع منها أكثر من ثلاثين مليون نسخة. وحتى لو أخذنا في الاعتبار الرواج المطرد الذي يلاقيه فن الرواية في عالم اليوم فإن الارقام التي بين أيدينا تفوق كل تقدير وتدفع بإلحاح الى التساؤل عن السبب الذي يضع كاتباً مثل باولو كويلو، وفي فترة قياسية، في مصافي النجوم المعدودين. لا يكفي بالطبع ان يشير أحدهم الى براعة كاتب "الخيميائي" و"فيرونيكا تقرر ان تموت" في الترويج لمؤلفاته وفي التحوّل الى مؤسسة كاملة يسهر على خدمتها العديد من المساعدين والمترجمين والناشرين النشطين. فثمة من فعل الشيء نفسه ولم يفلح على الاطلاق في التحوّل الى ظاهرة يتلقفها الملايين من القراء المختلفي اللغات والأوطان والأمزجة. ولا يكفي من جهة ثانية الاحتجاج بالسهولة التي يكتب من خلالها كويلو رواياته لأن السهولة وحدها، وان شكلت أحد مداخل الرواج، ليست كافية لتفسير هذه الظاهرة وتلقفها من الملايين. صحيح ان الرواج ليس قريناً للجودة في جميع الحالات ولكنه في المقابل ليس نقيضها المطلق والا كان علينا ان نسقط من حساب التقدير العالي شعراء وكتاباً كثيرين من أمثال غابرييل غارسيا ماركيز أو نجيب محفوظ أو نزار قباني، وهو أمر لا يجوز الأخذ به أو تبنيه. واذا كان علينا ألا نسقط من الحساب مهارة بابلو كويلو في الترويج لأعماله أو اللغة الرشيقة والبسيطة التي كتبت بها هذه الاعمال فإن علينا بالقدر ذاته ان نبحث لهذه الظاهرة عن أسباب اخرى تتعلق بالفضاء الروائي الذي خلقه كويلو بمهارة نادرة وبالتقنيات والأدوات الفنية التي استخدمها ببراعة لجعل هذا الفضاء قريباً من المتخيل الجمعي وموائماً له. ان استعراضاً سريعاً ودقيقاً لأعمال كويلو الروائية يجعلنا نقف على العديد من المفاتيح المعرفية والفنية التي تفضي جميعها الى ما يوحد البشر ويؤالفهم داخل الشرط الانساني المشترك. ثمة في رواياته ما يمس كل قارئ ويثير في داخله شغف البحث عن المعنى القابع في زاوية ما من زوايا النفس الانسانية، سواء تعلق هذا المعنى بالحب أو الموت، بالسفر أو الفقدان، بفتنة المرئيات أو بالتطلع الى الدفين والغامض وغير المرئي. ففي "حاج كومبوستيلا"، باكورة أعماله، يسعى المؤلف / الراوي الى استعادة السيف الذي أضاعه في مسقط رأسه البرازيل من طريق الحج الى مار يعقوب في اسبانيا. وفي رحلة البحث تلك يتعرّض الراوي لمكابدات وأهوال كثيرة لا تلبث ان تجد نهايتها في العثور على بغيته. كأن كويلا يريد ان يثبت للجميع بأن الكشف والاشراق ليسا من نصيب النخبة بل هما ملك لكل من يسير على طريقه الخاصة ويجاهد "الجهاد الحسن" وفق تعبيره الحرفي. كما يريد الاثبات بأن السيف الحقيقي هو ما نتقلده داخلنا من صلابة وايمان وتصميم. "في الخيميائي"، روايته الثانية، يحلم الراعي الأندلسي سانتياغو بكنز مدفون قرب أهرامات مصر فيترك أرضه وعمله ويسافر بحثاً عن الكنز قاطعاً بلداناً كثيرة وممتهناً العديد من المهن ومعرضاً نفسه للأهوال الناجمة من حروب القبائل. وعلى الطريق ايضاً يلتقي بالخيميائي الذي يكمل حلم البشرية القديم في تحويل المعادن الى ذهب، وبفاطمة التي يعيش معها قصة حب خاطف وصراعاً مريراً بين قلبه وحلمه. وفي مصر يكتشف سانتياغو ان الكنز الذي يبحث عنه موجود في فناء بيته بالذات. الرسالة التي أراد باولو كويلو ايصالها الى العالم هي ان لكل منا أسطورة شخصية ينبغي ان يصنعها بنفسه، كما يصنع بنفسه قدره ومصيره ومبتغاه. فضلاً عن تمجيد الحب واعلائه باعتباره ملاذ البشر ومخلصهم من اليأس والعزلة وانعدام المعنى. في "الشيطان والآنسة بريم" يدخل رجل غريب وبالغ الثراء الى احدى القرى الصغيرة المأهولة بسكان وادعين وخيرين مدفوعاً برغبة الانتقام من الناس بعد فقدان عائلته في جريمة مروعة. أما وسيلته لتحقيق انتقامه فهي مقايضة المال بالجريمة والوقوف على مدى صمود أهل القرية الفقراء في وجه الشيطان الجديد. وكما ينتصر الحب والفضيلة بعد صراع مرير في "الشيطان والآنسة بريم" ينتصر الحب والفضيلة ايضاً في سائر الروايات الاخرى. ففي "على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت" تلتقي بيلار، الفتاة العشرينية الجميلة والقانطة من الحب، بصديق طفولتها الذي أضاعته منذ زمن. وتكتشف الفتاة اذذاك ان المراهق الذي شاركها أحلام الطفولة بات يمتلك بفضل ايمانه قدرة روحية هائلة تمكنه من شفاء المرضى ومخاطبة النفوس وإزالة الآلام. وعلى امتداد الرواية يدور صراع مضن بين الحب الالهي والحب الأرضي لا يلبث ان ينتهي، كما انتهت سائر الروايات، بانتصار الاثنين في وقت واحد. تشعر الفتاة الجميلة فيرونيكا في رواية كويلو المميزة "فيرونيكا تقرر ان تموت"، وفي شكل مباغت، بأن الحياة لا تستحق ان تعاش وبأن الفراغ المخيف الذي يلتهم عقلها وروحها لا يمكن ان يجد نهاية له بغير الانتحار. واذ تفشل الفتاة في محاولتها تلك تلقي بها الشرطة في مصح عقلي لئلا تكرر المحاولة. في ذلك المصح يبلغها الطبيب أنها لن تعيش لأكثر من اسبوع واحد بسبب الضرر المميت الذي لحق بقلبها من جراء محاولة الانتحار. تدور الاحداث برمتها داخل المصح وتقع فيرونيكا في حب شاب مصاب بنوع من الفصام الذي لا شفاء منه. ومع ذلك فهما يهربان معاً من المصح منتصرين للحب في وجه الجنون والموت ومتشبثين بالحياة أكثر من أي وقت آخر. أما رواية "الجبل الخامس" فهي تروي في صيغة جديدة قصة إيليا النبي الذي يهيم على وجهه بعد انصراف بني اسرائيل عن عبادة الله الواحد ليلتقي في مدينة صرفت، لعلها الصرفند، اللبنانية أرملة فينيقية تمكنه من تحقيق أولى معجزاته قبل ان يدمّر الأشوريون المدينة بالكامل ويتسببوا بموت الأرملة ومعها الآلاف من الأبرياء. كانت وصية المرأة الاخيرة لإيليا بأن يطلق عليها هي الاخرى اسم "صرفت" وبأن يعمل على احياء حبها في قلبه عبر اعادة الحياة الى المدينة التي تهدمت. وهكذا كان لأن المدن، وفق المؤلف، "لا تموت بل سكانها وحدهم يموتون". ليس علينا ان نبذل كبير جهد لنكتشف القواسم المشتركة بين هذه الروايات الست والتي توفر لها بالتالي عناصر الشعبية والرواج. فهناك العنصر الديني المتصل بأعمق ما يتحلق حوله البشر منذ قرون طويلة وما يلهب مخيلاتهم ومشاعرهم ويحل بالنسبة اليهم لغز الوجود وغايته ومعناه. وليس من قبيل المصادفة ان يستهل كويلو كل رواية من رواياته بنص ديني مقتطف من العهدين القديم أو الجديد اضافة الى الاستشهاد ببعض آيات القرآن الكريم أو بما يدخل في صلب الديانات المشرقية المختلفة كالبوذية والهندوسية. والواضح في هذا السياق ان المؤلف البرازيلي يتجاوز الفروق والتمايزات بين الأديان مركزاً على ما يؤالف بين البشر من قيم الخير والفضيلة والتضحية، وهو ما يلاقي بالطبع صدىً واسعاً لدى الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة. وليس من قبيل الصدفة ايضاً ألا تكون البرازيل، مسقط رأس المؤلف، مسرحاً لرواياته المختلفة. بل إن أحداث الروايات برمتها تدور في الشرق وحوض المتوسط حيث الينبوع اكثر للأديان والأبجديات والقيم الروحية العميقة. كأن كويلو بذلك يعلن رفضه الواضح لعالم الجشع والاستبداد وهيمنة القوة والمال وانحيازه التام الى القيم الروحية والأخلاقية التي تألقت حضاراتها على ضفاف المتوسط. لا أثر في روايات كويلو للسيرة الذاتية أو المذكرات الخاصة، باستثناء تجربته الشخصية في "حاج كومبوستيلا". أما ما عدا ذلك فإن شخوصاً رمزيين يحتلون واجهة السرد والقص ويمثلون على اختلاف أعمارهم وأجناسهم وثقافاتهم سعي الانسان من أجل العثور على الاحتياط الذهب الذي يقبع في أعمال روحه. ولتحقيق ذلك لا بد من رحلة مضنية يقطعها أبطال الروايات جميعاً للوصول الى غاياتهم، ولا بد من استشراء الصراع الضاري بين الخيارات ليدفع السالكون ثمن حصولهم على الجائزة في نهاية الطريق. في كل رواية من الروايات تتكرر التجربة نفسها وان في شكل مختلف. منهم من يريد الحصول على الكنز كما في "الخيميائي" وعلى السيف كما في حاج "كومبوستيلا" وعلى معنى الحياة كما في "فيرونيكا تقرر ان تموت" وعلى نعمة الطمأنينة والحب كما في "على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت" وعلى استحقاق المعجزة كما في "الجبل الخامس". وفي كل واحدة من هذه الروايات ثمة عبرة معرفية عميقة يمكن استخلاصها. "لكل منا أسطورته الشخصية" التي ينبغي ان ينجزها بنفسه، يشير كويلو غير مرة في رواية "الخيميائي". اما الذهب الحقيقي فهو موجود في داخلنا بحسب ما يذهب اليه في غير عمل من اعماله. وفي مكان آخر يريد ان يثبت الامر نفسه حين يشير الى ان السيف الحقيقي هو ما تتقلده الروح وما يكون في حوزتنا وليس في الخارج. وفي الجبل الخامس يخلع أهل "صرفت" أسماءهم المعطاة بعد خراب المدينة ثم يختار كل منهم لنفسه اسماً مختلفاً ليولد من خلاله. ومهما تنوعت موضوعات الروايات فلا بد ان يكون الحب ظهيراً صلباً لكل يأس وخلاصاً لكل مشرف على الغرق. عشرات الاسئلة المختلفة يطرحها باولو كويلو حول معنى الاختيار والحرية والجنون والعقل والدين وغيرها من المعاني. وفي كل مرة يكون الحل بانتصار الخير على الشر والحياة على الموت والحب على البغضاء. لا شك في أن للنهايات السعيدة في الروايات دوراً بارزاً في تحقيق شعبية كويلو. اذ ان هذه النهايات تتطابق دائماً، الا في ما ندر، مع رغبة القارئ ومشاعره. وباستثناء موت الأرملة في رواية "الجبل الخامس" فإن الابطال جميعهم يصلون الى بر الأمان بعد ان يلامسوا الموت أو يقفوا على تخومه. واذا كانت بعض هذه النهايات تشي على المستوى الأدبي البحت بشيء من التعسف أو التبسيط أو التفاؤلية المفتعلة فانها تتواطأ الى حد بعيد مع حاجة القراء الى الأمل والخلاص وتحقيق الاهداف. لا نستطيع من زاوية اخرى ان نغفل عناصر التشويق الاخرى التي يستخدمها كويلو بخفة الحرفي الحاذق لاجتذاب قرائه وامتاعهم. ففي رواياته المختلفة مواءمة دائمة بين الواقعي والغرائبي واحلال للامعقول محل المعقول والقابل للتصديق، والعكس بالعكس. فالوجود عنده متّحد كلي يتداخل فيه البشر والحيوانات والنباتات والجمادات ويكتسب كل منها روحاً ولغة خاصتين به. لا مسافة واضحة عند كويلو بين الحقيقة والخيال أو بين الواقع والخرافة ولا بين ما يتصل بأدنى الغرائز أو يتصل بأسمى القيم. ذلك لأن الحياة نفسها تتجلى في غير وجه ورغبة وتعبير. كل ذلك يقدمه المؤلف بأسلوب رشيق وسهل وبلغة شفافة وموحية وبتقطيع ذكي ومريح لفصول الرواية وأجزائها، ما يجعل أدبه مستساغاً من الجميع وبخاصة من الفتيان والأطفال الذين يوليهم الكاتب الكبير العناية والاهتمام. لعل هذه العناصر مجتمعة، وغيرها بالطبع، هي التي تقف وراء نجومية باولو كويلو وشهرته الواسعة ورواج رواياته على رغم النظرة الحذرة والمتوجسة التي يرى بها العديد من النقاد الى هذه التجربة وصاحبها.