} رواية "الخيميائي" للبرازيلي باولو كويلو صدرت في ثلاث ترجمات عربية، الأولى عن الدار الجماهيرية في ليبيا، والثانية عن دار الهلال المصرية بترجمة الروائي المصري بهاء طاهر، والثالثة عن "شركة المطبوعات" في بيروت، وهذه الأخيرة حصلت على حقوق ترجمة روايات كويلو منه، فخصها بمقدمة عربية لرواياته الآتية: "فيرونيكا تقرر ان تموت"، "الجبل الخامس"، "حاجّ كومبوستيلا"، "على نهر بييدرا هُناك جلست فبكيت"، "الفالكيريز"، "الشيطان والآنسة بريم" و"الخيميائي". والمفارقة ان رواية "الخيميائي" تنطلق من حكاية وردت في "ألف ليلة وليلة". هنا مقاربة من الكاتب العراقي صاحب "الكنز والتأويل" و"ملحمة الحدود القصوى". منذ مفتتحها تضعنا رواية "الخيميائي وحجر الفلاسفة" أمام موضوعة التناص، إذ يشير المفتتح الى أن أوسكار وايلد تصرف بأسطورة نرجس. فبعد موت نرجس بكت عليه البحيرة، وتساءلت أورياد، إلهة الغابات، فيم تبكين؟ أعلى جمال نرجس المفقود؟ قالت البحيرة: وهل كان نرجس جميلاً؟ قالت إلهة الغابات: مَن يستطيع أن يقول ذلك أكثر منك؟ قالت البحيرة: لستُ أدري، ولكنني أبكي لأنني كنت أتأمل في أعماق عينيه، كلّما انحنى عليّ، فتنة جمالي أنا. ما الذي يعنيه هذا المفتتح؟ هل أراد "باولو كويلو" أن يكتب رواية جديدة عن نرجس، كما كتب عنه أوسكار وايلد في قصائده النثرية القليلة؟ هل أراد أن يستشهد بأوسكار وايلد ليقول إن نرجس نفسه لم يكن سوى وهم من أوهام نرجسية البحيرة نفسها؟ وهكذا تكون البحيرة أعطت نرجس نرجسيته... ولماذا التشديد على نرجس وأوسكار وايلد، مع أن الرواية لا علاقة لها بعلم النفس والتحليل النفسي؟ لنتأمل أولاً كيف وصل إلينا نرجس. لقد وصلت هذه الأفكار من خلال كتاب تعرّف إليه الخيميائي، وهو شخصية من شخصيات الرواية، تظهر بعد منتصفها تماماً. ولذلك فهي أفكار تركت مكانها في الرواية وخرجت الى مفتتحها. أفلا يعني ذلك أن هذا المفتتح ليس بمفتتح، بل هو جزء من الرواية؟ لكننا لم نعرف دلالته حتى الآن. شخصية من شخصيات الرواية تهرّب أفعالها وأفكارها الى المفتتح، لتتحدث عن اقتباس نص والتصرف به. ألا يوحي ذلك بأن بناء الرواية نفسها قائم على التناص، أي التصرف بنص سابق ما؟ ولكن أي نص؟ لنعرض في البداية أحداث الرواية، ثم نعود الى استكشاف النص المقصود. كان سانتياغو الراعي يقضي لياليه مع خرافه في كنيسة مهجورة في اسبانيا حين دهمه الحلم مرات عدة بأنه سيذهب الى أهرام مصر، وسيجد هناك كنزاً. يتردد بمطاوعة الحلم، لكن العجوز الغجرية تحثه على الذهاب ، ويعطيه رجل عجوز، يعرف في ما بعد أنه ملك اسطوري، وان اسمه ملكي صادق، قطعتي حجر أوريم وتوميم. يبيع خرافه ويعبر البحر الى المغرب. في المغرب يعمل بعد سلسلة من المغامرات التي يتعرض لها، لدى بائع بلور. ويبقى شهوراً. ومن هناك يتوجه الى مصر، في قافلة تقطع الطريق الصحراوي، وفيها يلتقي الخيميائي الانكليزي، الذي يقوده عند وصول القافلة الى مصر، الى لقاء الخيميائي المصري، وريث ذنون الاخميمي، والى خوض تجربة الحب، الفتاة البدوية المصرية. لكن كيف يمكن من يبحث عن ذاته أن يعثر على الآخرين؟ يستمر سانتياغو في رحلته صوب الأهرام، بعد أن يتخطى عقبة القبائل المتقاتلة، واختبارات المتشككين واللصوص. وفي نهاية المطاف يصل الى المشهد الذي وعده به الحلم في العثور على الكنز تحت الأهرام. يحفر بحثاً عن الذهب، لكن حفنة من اللصوص تهاجمه، وتنتزع منه ما استطاع اصطحابه معه من ذهب الخيميائي المصري، وما ادخره من عمله لدى بائع البلور المغربي. وحين يسأله زعيم اللصوص عن سبب مجيئه، يقول له: لقد جاء في الحلم، وأخبرني أن كنزاً في هذا المكان بانتظاري. يأمر الزعيم رفاقه بالكفّ عنه، ويقول له: سوف تعيش وتتعلم ألاّ تكون غبياً لتصديق أباطيل الأحلام. لقد حلمت مثلك، مرات عدة، بكنز في اسبانيا في الريف في كنيسة مهدمة يؤمها الرعاة غالباً، وفيها توجد شجرة جميز، تحتها الكنز. لكنني لست غبياً لاجتياز الصحراء طمعاً في كنز وهمي. عاد سانتياغو الى اسبانيا، الى الكنيسة التي وعده بها حلم زعيم اللصوص المصريين، فقد كانت الكنيسة التي ينام فيها نفسها. وهناك وجد الكنز، ووجد فاطمة، وذاته، والخيميائي، وكل شيء، لأن الحياة كريمة مع مَن يعيش اسطورته الشخصية. في الرواية إذاً قصتان: قصة البحث عن الكنز، وهي القصة التي تستغرق الفصول الأولى والفصل الأخير، وتتخللها القصة الثانية، وهي قصة البحث عن الذات، في رحلة البطل الى الشرق بغية استكشاف معارفه الشرقية/ الاشراقية/ المشرقية. ولا يشعر القارئ في أثناء قراءته الرواية بوجود هاتين القصتين حتى يصل الى الفصل الأخير. ففي هذا الفصل يتضح توازي القصتين الى حد كبير، خصوصاً حين يكون القارئ على معرفة بالحكاية "الأصلية" التي تستمد قصة البحث عن الكنز وجودها منها. ولا تختلف قصة الرحلة كثيراً عن كتب الرحلات الى الشرق، من أمثال أعمال هرمان هسه، ولا سيما "سدهارتا" و"الرحلة الى الشرق". ما هي إذاً الحكاية الأصلية لقصة البحث عن الكنز؟ هي بإيجاز حكاية مستمدة من "ألف ليلة وليلة". ففي الليلة الحادية والخمسين بعد الثلاثمئة ترد "حكاية الحالمين" الآتية: يهاجم الفقر رجلاً ثرياً يعيش في بغداد حتى يلتهم كل ما يملك. وقبل أن يفكّر بالاستجداء من الآخرين، يرى في المنام مَن يقول له: اذهب الى مصر، وستجد هناك كنزاً. يذهب الى مصر، لكنه لا يجد مكاناً لإيوائه سوى المسجد الذي يقضي فيه ليلته. غير أن سوء الحظ يلاحقه بجماعة من اللصوص تعبر من المسجد الى بيت مجاور. تطاردهم الشرطة، غير أنها لا تقبض عليهم، بل تتهم الحالم البغدادي بأنه منهم. يأمر ضابط العسس بجلده أسواطاً عدة، ويستفهم منه عن سبب مبيته في المسجد. فيرد عليه بأنه قدم لتوّه من بغداد. يسأله الضابط: ولماذا جئت؟ يقول: لأنني حلمت أن كنزاً بانتظاري في مصر، لكن يبدو أن الكنز الذي وعدني به الحلم هو هذه السياط التي نلتُها منك. يضحك الشرطي المصري، ويقول له: يا قليل العقل، كيف تصدق ما تقوله الأحلام؟ لقد حلمت مثلك بكنز في بغداد في المحلة الفلانية والشارع الفلاني، تحت سدرة في بيت فلان، لكنني لم أكن غبياً مثلك لأذهب. والآن خذ هذه القروش وعد الى بغداد. يعود الرجل البغدادي الى بغداد، فقد كانت المحلة التي سماها الحالم المصري محلته، والبيت بيته، والاسم الذي ذكره اسمه. ومن تحت السدرة التي وصفها الحالم المصري في مصر، يستخرج الكنز الذي وعده به الحلم في بغداد. نسختان عربيتان من الحكاية لدينا نسختان عربيتان من هذه الحكاية: النسخة الأولى هي الليلة 351 من "ألف ليلة وليلة".، طبعة بولاق. والثانية نسخة يرويها ابن عاصم الأندلسي في كتابه "حدائق الأزاهر". واستناداً الى هاتين النسختين، سبق أن حللت هذه الحكاية بالتفصيل في كتابي "الكنز والتأويل". ولكن هل توجد ترجمة لها الى الاسبانية، لغة الرواية ومدار أحداثها؟ هناك نسخة ثالثة ينقلها الكاتب الارجنتيني خورخي لويس بورخيس في كتابه "تاريخ عالمي للعار" عن الليلة نفسها من "ألف ليلة وليلة"، ينقلها عن ترجمة انطوان غالان الفرنسية، أو عن ترجمة بيرتون الانكليزية. لكنها تختلف في بعض التفصيلات عن الروايتين العربيتين، كما تختلف في الأماكن والسند، إذ تنتهي بالمؤرخ الاسحاقي الذي يروي انها حصلت في عهد المأمون، فضلاً عن أن اتجاه الحكاية يتغير من الغرب الى الشرق، أي من بغداد الى أصفهان، بدلاً من مصر. إذاً، فالتناص الذي بشّر به المفتتح هو مع "حكاية الحالمين" من "ألف ليلة وليلة". لكن المفتتح وعد بتعديل الحكاية كما عدّل أوسكار وايلد حكاية نرجس، وأضاف اليها. فهل وفى بوعده؟ في الواقع ان الرواية لم تغير من بنية "حكاية الحالمين" سوى أسماء الشخصيات والأماكن، وهذا شيء غير مهم في ذاته. واكتفت بأن وسعتها بإضافة قصة الرحلة الى المغرب ومصر، والبحث عن الذات في أثناء هذه الرحلة. وهذا يعني أن التناص لدى كاتب الرواية هو التوسيع فقط، لا التفاعل الذي يعدّل النصين معاً. ولكن هل تأتلف قصة البحث عن كنز مع قصة البحث عن الذات؟ في تقديري ان القصتين متعارضتان. فالأولى ذات دلالة شرقية اشراقية. أما الثانية فاستشراقية، أي هي تصور غربي من انتاج الغرب عن الشرق، تعتمد دغدغة الخيال الغربي الهارب من الحضارة التكنولوجية الى الشرق الوهمي الطافح بالأسرار الذاتية الغامضة. في القصة الأولى تتعلق المسألة بأهمية "الرؤيا" من حيث كونها صادقة أو كاذبة. أما الثانية فتتعلق بالبحث عن الذات. في الأولى تتراجع أهمية الشخصية باستسلامها الى بنية الحدث الذي يعمل عمل الدلالة، في حين تتراجع البنية تماماً في القصة الثانية لتبرز أهمية الشخصية المفعمة بالقصدية الواضحة. وهذا هو سرّ التناقض الذي لا يمكن ردمه بين القصتين. في القصة الأولى، المهم هو الكنز الذي يظهر بصفته دالاً يتغير معناه بتغير الشخصية. وفي القصة الثانية، المهم هو الشخصية، ما دامت معنية بالبحث عن تحقيق الذات. البحث عن الذات بحث عن الشخصية. والبحث عن الكنز نكران للشخصية وتخلٍّ عنها. ولذلك فالقصتان تسيران في اتجاهين معاكسين على رغم توازيهما. يضع المؤلف "باولو كويلو" على الغلاف عنوان "رواية فلسفية"، وبهذا التصنيف يفرض على القارئ أن يؤوّل الرواية تأويلاً فلسفياً. أفليس للرواية، أو الحكاية، تأويل نفسي أو اجتماعي أو حتى سردي آخر؟ حين تناولت تحليل "حكاية الحالمين" وجدتها تؤكد أهمية الرؤيا، وتصرّ على إمكان أن تجتمع رؤيتان كاذبتان لتؤديا الى رؤيا صادقة. كما وجدت جميع مفاصيلها تصرّ على اعتبار الكنز كنزاً لغوياً أو حكائياً. بعبارة اخرى، كان الكنز الذي تعد به الحكاية هو الحكاية نفسها، وقدرة السرد على تحويل الممتنع الى ممكن. وأستطيع الآن أن أمضي الى أبعدَ من ذلك في التأويل، فأُشير الى الشبه الكبير، في البنية، بين هذه الحكاية وقصة "الرسالة المسروقة" لإدغار ألان بو، التي شغلت عدداً من المنظرين بينهم: جاك لاكان، وجاك ديريدا، وبربارا جونسن... وتتألف قصة "الرسالة المسروقة" من حدثين: في الحدث الأول يعلم الوزير ان الملكة متلهفة لمعرفة مصير رسالة تركتها مكشوفة على منضدتها، لعلمها أن أفضل مكان لإخفائها هو وضعها تحت الأعين حتى لا يشك أحد في أهميتها، ولا ينتبه اليها الملك الذي دخل اليها على غير توقع. فيستبدل الوزير الرسالة برسالة أخرى مشابهة لها. لا تعترض الملك خشية اثارة ارتياب الملك. وفي الحدث الثاني يتابع المفتش دوبان اخفاق مدير الشرطة في العثور على الرسالة، في بيت الوزير، ثمّ يراها بعد ذلك مرمية في مجموعة أوراق على رفّ موقد الوزير. يعود الى بيت الوزير ويلهيه ثم يستبدل الرسالة بأخرى شبيهة لها. يشير لاكان الى أن محتويات الرسالة لن تعرف أبداً. ولا تتركز أهمية القصة في الشخصيات، بل في موقع الرسالة عند ثلاثة أشخاص في كل حدث. وتتحدد هذه العلاقات بالرسالة استناداً الى ثلاثة أنواع من النظرات: الأولى لا ترى شيئاً نظرة الملك ومدير الشرطة والثانية ترى أن النظرة الأولى لا ترى، ولكنها تظن أن سرّها في منجاة من الافتضاح نظرة الملكة ونظرة الوزير في الحدث الثاني والثالثة ترى أن النظرتين الأوليين تتركان الرسالة الخفية معروضة نظرة الوزير ودوبان. يرى لاكان اننا لن نعرف محتويات الرسالة لأنها تتصرف تصرف الدال عند جميع شخصيات القصة. فالنظام الرمزي في نظرية التحليل النفسي هو مكوّن الذات. واذا كانت هذه القصة نموذجاً للتحليل النفسي، فإن التحليل النفسي ذاته يتكشف فيها بصيغة سردية حكائية. في "حكاية الحالمين" في "ألف ليلة وليلة" أو في "حدائق الأزاهر" أو لدى بورخيس، أو في "الخيميائي وحجر الفلاسفة" تدور القضية حول "رؤيا"، لا نظرة. كانت رؤيا الحالم البغدادي، أو سانتياغو كاذبة اضطرته الى أن يترك بيته في المكانين: بغداد أو اسبانيا ويرحل الى مصر. وكانت رؤيا الحالم المصري كاذبة أيضاً، حين كذّب رؤياه سلفاً وقصّ حلمه بالتفصيل الدقيق على الحالم البغدادي أو سانتياغو. ولا تتحول هاتان الرؤيتان الكاذبتان الى رؤية صادقة إلا بعد عودة الحالم البغدادي الى بغداد، أو سانتياغو الى اسبانيا. حينئذ يتولد من مجموع رؤيتين كاذبتين رؤيا صادقة. واذا اتفقنا مع جاك لاكان في تأويله "الرسالة المسروقة"، أن الشخصيات فيها ذات أهمية ثانوية، وأن المهم هو تصرف الرسالة، أو الحلم هنا، دليلاً، فلن يكون التوسع الذي تعرضت له الحكاية بالأمر الكبير. لقد بقيت بنية "حكاية الحالمين" في "الخيميائي" كما هي في "ألف ليلة وليلة" بالتمام والكمال من دون تغيير يُذكر، إلا في حدود التغييرات الاسلوبية، كما فعل بورخيس. إذاً فما من تناص، كما وعد المفتتح، بل توسع فقط بإضافة قصة الرحلة. وغني عن البيان أن كتاب السرد الخالد "ألف ليلة وليلة" يقوم في الأصل على رغبته في النمو المطرد باستمرار، تعديلاً وتحويراً واقتباساً وتوسيعاً. إن كل قراءة لألف ليلة وليلة هي قراءة جديدة، ولا حصر لعدد النصوص التي تحاورت معه. وبالتالي فرواية "الخيميائي" هي جزء من أجزاء كثيرة تمردت على "ألف ليلة وليلة" بالتوسع والعنوان المستقل. ترد في غلاف الكتاب معلومة عن أن الرواية نشرت في 45 لغة، ولقيت نجاحاً كبيراً في كل مكان. أفلا يحق لنا أخيراً القول إن هذه الرواية هي حكايتنا العائدة إلينا بعد أن تجولت في 45 لغة؟