} قد تكون الحكومة المصرية المستفيد الأول من احداث أيلول سبتمبر الماضي في الولاياتالمتحدة، ذلك أن تأثير هذه الأحداث صَرَف الجميع عن الوضع الداخلي الذي يتفاقم في صورة غير طبيعية، وأبقى الحكومة في مكانها من دون تغيير جوهري في أركانها، وبدلاً من الحديث عن النهوض بالاقتصاد القومي سعياً إلى رفع مستوى معيشة الأفراد، بات الحديث منصباً على كيفية تلافي تأثيرات أيلول التي أدت إلى أوضاع غير سوية على الإطلاق. على رغم أن مشاكل البطالة، وأزمة الاسعار، وأزمة الدولار، وفشل سياسة التصدير العام الماضي هي نفسها مشاكل عام 2000، إلا أن الحكومة الحالية قد تكون الأولى على مدى 50 عاماً الماضية التي يعترف رئيسها الدكتور عاطف عبيد بوجود أزمة حقيقية في البلاد، غير أنه مع ذلك اتبع منهج سابقيه بأن هذه المشاكل ستحل قريباً ولا مساس بمحدودي الدخل على الاطلاق. وإذا كانت الحكومة ترى أن الاقتصاد المصري تغير عن السابق فهو بالفعل تراجع في صورة تدعو إلى القلق من امكان الحل، وباتت إجابة رجل الشارع عند سؤاله ما رأيك في اوضاع البلاد؟: "الاوضاع لا ترضي عدواً ولا حبيباً" ما يعني أن هناك خيبة أمل تجاه الحكومة وعدم ثقة في ما تتخذه من قرارات كون هذه القرارات عديمة التنفيذ وبعيدة عن الواقع. والمراقب للاحداث في مصر يرى أن الحكومة رتبت أوضاعها في 8 ايلول الماضي على أساس إنجاز تقرير شامل عن الشهور الثمانية الأولى من السنة لعرضه على الرئيس مبارك، مع تحديدها برنامجين: الاول، توفير اعتمادات احتياطية وموارد جديدة من دون فرض أي رسوم وضرائب، والثاني، زيادة موارد النقد الاجنبي من قطاعات السياحة والنفط والصادرات. وعقب الاحداث مباشرة، جاءت تصريحات الدكتور عبيد بأن موقف النقد الاجنبي في البلاد آمن والفجوة لا تتجاوز 700 مليون دولار، والتأكيد أن الحكومة تتجه نحو خفض الواردات وأن هناك فرصة للاقتراض من الصناديق العربية والاسلامية. وعاد رئيس الوزراء وقال قبل ثلاثة أسابيع إن الفجوة وصلت إلى بليوني دولار، بزيادة مقدارها 3.1 بليون عما ذكره قبل شهرين، وسيتم تغطيتها من الصناديق العربية والاجنبية، هذه التصريحات غير الدقيقة والتي تسعى اساساً الى طمأنة السوق من دون إنجاز حقيقي، أدت الى تزايد فجوة عدم الثقة بين الحكومة والرأي العام ومنظمات الاعمال، ما حدا بأحد كبار الكتاب في البلاد ليسأل رئيس الحكومة: أين يجد الناس حقيقة حالنا ومسار مالنا ورصيد آمالنا إن لم يجدوها في مصر التي تعيش في واقع لا نلمسه، بعيد عن الواقع، فيما ينبه رجل أعمال بارز إلى أن: هناك توتراً عاماً في مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، يمتد إلى المواطن داعياً إلى طمأنة الافراد من أن المجهول لا يحمل أي أعباء إضافية. وتوقع رجل الأعمال نفسه أن تصاب السوق المحلية ب"سكتة اقتصادية"، لو بقي الوضع كما هو حالياً، فالركود قائم وازمة السيولة متفاقمة، وهناك تخبط في القرارات والمواطن في مستوى أقل من المتوسط "مالياً ومعنوياً". ما يمر به الاقتصاد المصري يزيد المخاوف لدى الجميع من أن البلاد قد يمتد علاج وضعها الاقتصادي إلى سنوات ما يؤدي إلى حالة اختناق اقتصادية نادرة الحدوث. وقد يرى البعض أن الوضع ليس بهذه القتامة، فهناك من الاجراءات ما يؤكد جدية الحكومة في تأمين حياة كريمة للمواطنين ويستدل "خطأ" باتفاق المشاركة مع أوروبا، على رغم أن الغالبية لا ترى حتى الآن أي جديد بعد التوقيع عليها في حزيران يونيو الماضي في بروكسيل، في حضور وزير الخارجية باستثناء "بريستيج" و"وجاهة" بأن مصر وقعت اتفاق مشاركة مع أوروبا، فيما الحقيقة تؤكد ضرورة وجود آلية لمتابعة تنفيذ اتفاق الشراكة. ويبدي الخبراء مخاوف مبررة من عدم زيادة الصادرات خلال فترة الانتقال التي ستستمر 12 عاماً، وفي هذه الحال المطلوب أن يتخذ القرار المناسب سواء من خلال وقف التيسيرات الجمركية أو تخفيضها أو غير ذلك من إجراءات. ويرى الخبراء أن التوقيع على اتفاق الشراكة مع أوروبا ليس كافياً لإنجاحها، بل المطلوب كيفية التنفيذ وآليته والمتابعة الصحيحة للاتفاق. وتحقيق ذلك رهن بالرصد الدقيق والمراجعة لتطور المبادلات التجارية بين مصر وأوروبا ونمو قيمة الصادرات المصرية مقارنة بنظيرتها الاوروبية، وكذلك تحديث شامل للصناعة يؤهلها للمنافسة والتصدير والاندماج في الاقتصاد العالمي، وهذا للاسف غير متوقع تحقيقه في ظل الآليات القائمة. والغريب أن البيان الذي ألقاه رئيس الوزراء أمام البرلمان في 22 كانون الثاني يناير الماضي بما يعرف ب "بيان الحكومة"، يعطي الوعود نفسها التي سيحملها بيان الحكومة الذي يلقيه رئيس الحكومة الاسبوع الجاري مع اختلاف الزمن بين عامي 2001 و 2002. إذ أنه يطرح التعهدات نفسها المتضمنة إجراء إصلاح نقدي وتحقيق الاستقرار لسعر الصرف، وزيادة القدرة التصديرية وجذب الاستثمارات لتخفيف هذه البطالة. وكان حادث أيلول ولّد وضعاً جديداً طارئاً أدى إلى تقلص حجم تدفق النقد الاجنبي من المصادر الرئيسية من سياحة وتصدير وقناة السويس، ونظراً إلى عزوف الرأي العام مسؤولين وأفراد عن هذا الحديث باتت المطالبة حتمية بضرورة التعاطي مع المشاكل القائمة بعد أحداث أيلول واعتماد وقفة مع النفس لاعادة تقويم الاوضاع الاقتصادية في ضوء عولمة إقتصادية كشفت في تطبيقاتها العملية عن اتجاهات احتكارية، وأصبحت مقاليد الانتاج والتجارة العالمية فيها في يد قلة محدودة تضع مصالحها في المقام الاول من دون النظر إلى مصالح الاخرين. ويأتي عرض الحكومة لبيانها الجديد لتؤكد ما أكدته سابقاً وتعد ما وعدت به في بياناتها السابقة. واللافت أن غالبية كُتاب المقال في الصحف القومية والمعارضة حتى كُتاب الكاريكاتير قللوا من اهتمامهم بالقضايا السياسية لتكون الاوضاع الاقتصادية في الاولوية سعياً للمشاركة في عملية الاصلاح. وينتقد البعض عدم الدقة في تصريحات المعنيين في الحكومة، فعندما سُئل رئيس الحكومة عاطف عبيد كم عدد عملاء المصارف المعقود الامل في سداد ديونهم أجاب "ما بين ستة أو سبعة عملاء". فكيف لرئيس الحكومة الاستعانة بلفظ "ما بين" ما يعني غياب الدقة، وإذا كان الامر غير دقيق فلمَ لا يتم ذكر ستة عملاء أو 12 أو 25. ويستطرد احد الخبراء: الامور المصرفية والمتعلقة بالاستقرار الاقتصادي لا تحتمل لغة ما بين، ويرى الخبراء أن تصريحات الوزراء عموماً عندما تتعامل مع قضايا أساسية تخص الاستقرار في المجتمع مثل البطالة والبطالة المقنعة وتكدس العمالة لا تصبّ إجاباتهم في بلورة سياسات طويلة المدى بل تعكس سياسة ترقيع لا جدوى منها، ومن ثم يكون حكم المراقب أن الحكومة اصابها العطب في تعاملها مع الوضع الداخلي ولن تستطيع مسايرة رؤية رئيس الدولة، ومن ثم نجد فجوة بين أداء مؤسسة الرئاسة وأداء الحكومة. فالرئيس يحظى بقيمة كبيرة عالمياً ومحلياً والحكومة عاجزة عن ترجمة هذا الوضع ولن تبرز الصورة الحقيقية لمؤسسة الرئاسة، ومن ثم يضيف الرئيس الى أعبائه عبئاً جديداً بسبب تقصير الحكومة في أدائها، ويمتثل ذلك في عرض وجهة نظر الاقتصاد المحلي والحلول المرجوة للنهوض به. تأثير الأحداث على أي حال، ومن خلال رصد الأوضاع في البلاد سنة 2001 نجد أن خفض العجز في الميزان التجاري الذي بلغ في العام المالي 2000/2001 نحو 4،9 بليون دولار، بات هاجساً ملحاً لدى الحكومة في اطار جهودها لتوفير النقد الاجنبي، لا سيما بعد الآثار السالبة التي خلفتها احداث ايلول على الاقتصاد القومي. واحدثت هذه الاثار، طبقاً لتقديرات المؤسسات المتخصصة العالمية والمحلية، فجوة بين العرض والطلب في النقد الاجنبي تقدر بنحو بليوني دولار حتى آخر حزيران يونيو المقبل. وجاءت هذه الفجوة نتيجة انحسار السياحة العالمية بعد الاحداث اذ يبلغ دخل مصر منها نحو 3200 مليون دولار، وكذلك انحسار حجم موارد النقل الجوي والبحري والشحن والتفريغ والتأمين وعائدات قناة السويس وغيرها من المجالات. وانخفض حجم الصادرات الى عدد من الدول بسبب ترقب العالم لما يمكن ان يحدث في الاسواق العالمية. واذا كان التصدير يعتبر توجها مجتمعياً متكاملاً ينبغي تحقيقه، فإنه في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة يكون ترشيد الانفاق على الواردات بوقف التنويع الاستيرادي غير المبرر، وتشجيع المنتج المحلي من جانب المواطنين وزيادة قدرته التنافسية من جانب المنتجين هو ايضاً توجهاً مجتمعياً متكاملاً ينبغي العمل به من أجل دعم الاقتصاد القومي. فليس من المعقول انه في الوقت الذي تواجه البلاد فجوة في حاجتها من النقد الاجنبي ان ننفق على استيراد سلع لها مثيل من المنتج الوطني على السفه الاستيرادي لسلع كمالية وأخرى ضارة بالصحة مثل التبغ، بلايين الدولارات. صحيح أنه سيتم سد الفجوة، كما وعدت الحكومة من المؤسسات المالية الدولية والعربية ومن الدول الصديقة، إلا ان المطلوب هو العمل لتخفيض العجز في الميزان التجاري بزيادة الصادرات وخفض الواردات وجذب مزيد من الاستثمارات الاجنبية. وفي الوقت نفسه ينبغي الاستجابة لدعوة الرئيس مبارك للمساعدة في تخطي هذه المرحلة بان يلبي الجميع واجباً وطنياً بالتوجه نحو السياحة الداخلية وشراء المنتجات المحلية وتنشيط حركة السوق لتخفيف الأزمة وانعكاساتها الاجتماعية على قطاعات عدة من المجتمع، لا سيما أن المنتج المصري يقارب حالياً المستوى الاجنبي نفسه. وعلى رغم ما يتم طرحه نجد اقبالاً مصرياً هائلاً على شراء سلع من الخارج مثل التحف الفنية والآثار والشاي والبيض والطيور وعسل النحل بقيمة تتجاوز 6،1 بليون دولار سنة 2001 فقط، وهذا يؤكد ان الحكومة أخذت على عاتقها اجراءات لخفض العجز في الميزان التجاري واعلنت انها ستتعامل مع الموقف من خلال محاور عدة اهمها دعم الصادرات بزيادة القدرة التنافسية للمنتج المصري وسد الثغرات التي لا يسمح بها القانون وهي التهريب ومحاولات الاغراق، اضافة الى الجدية في اعطاء أولوية للانفاق الحكومي بشراء المنتجات ذات المنشأ الوطني المؤكد وبحيث يكون مصدرها مصانع وطنية. الحكومة بذلك ترمي الكرة في ملعب المواطن الذي ينبغي عليه واجباً بتشجيع المنتج الوطني الجيد والابتعاد عن السفه الاستيرادي لسلع لها مثيل محلي أو سلع كمالية أو رديئة أو ضارة. والحقيقة ان هذا يتطلب توعية وتصحيحاً للمفاهيم والسلوك الاستهلاكي للمواطن وهذه مهمة القتها القيادة السياسية في وجه الجميع.