} برزت أخيراً تساؤلات كثيرة حول الاسباب الكامنة وراء أزمة الدولار في السوق المصرية، وعما اذا كانت الاجراءات الاخيرة التي اتخذتها الحكومة بتحديد سعر مركزي مرن للعملة الخضراء كافية لمواجهة هذه الأزمة. الموضوع التالي يحاول الاجابة عن هذه التساؤلات. شهد سعر صرف الجنيه المصري في الآونة الاخيرة تقلبات حادة في مقابل الدولار الاميركي وبقية العملات الاجنبية. ويتردد على ألسنة العامة أن سعر صرف الدولار ارتفع، لكن الصحيح ان سعر صرف الجنيه هو الذي انخفض. وكانت اسعار الصرف في مصر تعددت: فهناك السعر الرسمي المعلن في المصرف المركزي الذي ينبغي التعامل به في المصارف وشركات الصرافة وهو 386 قرشاً للدولار وتم رفعه قرشين في حزيران يونيو عام 2000. وهناك السعر الثاني الذي تتعامل به شركات الصرافة بالنسبة للمبالغ الكبيرة مع المصارف ويصل الى 406 قروش للدولار. وهناك سعر ثالث يتم التعامل به خارج القنوات الشرعية بمبالغ ضخمة وهو يتغير سريعاً ووصل أحياناً الى 418 قرشاً، وقد يتراجع فجأة أو يزيد. ظل هذا الوضع سارياً حتى تموز يوليو الماضي عندما تدخلت الحكومة المصرية بوضع مجموعة من السياسات النقدية لتسهم في تخفيف حدة ما يسمى بأزمة الدولار ومنع تعدد سعر صرفه. ويقضي النظام الجديد لسعر الصرف الذي بدأ التعامل به اعتباراً من 11 آب اغسطس بسعر مركزي مرن للعملة الاميركية يتحرك أسبوعياً وفق حركة العرض والطلب مع هامش يراوح بين اثنين وثلاثة في المئة صعوداً وهبوطاً. ويهدف السعر الجديد الى تحقيق الاستقرار للدولار واخذ عوامل السوق في الاعتبار مع تلبية طلبات السوق من النقد الاجنبي. ولكن هل تنهي هذه الاجراءات "أزمة الدولار"؟ في الواقع، تنبع هذه الازمة من وجود اختلالات اقتصادية شديدة يعاني منها الاقتصاد المصري أهمها العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري. اذ تشير البيانات الرسمية الحديثة الى ان العجز في الميزان التجاري وصل في خلال السنة المالية الماضية الى نحو 10 بلايين دولار. وعلى رغم ان هذا الرقم يعبر عن تحسن في أداء الميزان التجاري عن الاعوام السابقة التي تجاوز العجز فيها نحو 13 بليوناً، إلا انه يشير الى وجود عجز في الميزان التجاري يؤثر في سعر صرف الجنيه في مقابل الدولار. وتشير النشرة الشهرية للمصرف المركزي المصري الصادرة في ايار مايو الماضي الى ان هناك تحسناً ملحوظاً في عجز الميزان التجاري الذي انخفض الى 269 مليون دولار من 631 خلال الفترة المقابلة من السنة المالية السابقة تموز/ يوليو - كانون الاول/ ديسمبر 1999. وهناك عوامل اخرى أثرت في سعر صرف الجنيه المصري أهمها تراجع الدخل السياحي منذ حادثة الاقصر الشهيرة في تشرين الثاني نوفمبر عام 1997. وعلى رغم ان الحركة السياحية بدأت تتزايد بعد اتخاذ الحكومة المصرية اجراءات عدة لتوفير الأمن للسياح، إلا ان الزيادة التي حدثت كانت في اعداد السياح وليس في الانفاق السياحي. ومن العوامل الاخرى ان مصر شهدت اتجاهاً مفرطاً نحو استخدام الهاتف النقال ما يشكل عبئاً على الاقتصاد الوطني نظراً الى توجيه جزء كبير من الأموال وخصوصاً النقد الأجنبي لاقامة شبكة الهاتف النقال وشراء الأجهزة وغيرها. الى ذلك، تراجعت على مدى الاعوام الثلاثة الماضية، الموارد الاساسية من النقد الأجنبي للدخل الوطني المصري وهي إيرادات هيئة قناة السويس والنفط والسياحة، وانخفضت حصيلة النقد الاجنبي من تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وبلغت إيرادات مصر من قناة السويس والنفط والضرائب 65 بليون جنيه 15.6 بليون دولار سنوياً. يضاف الى ذلك ان الحكومة المصرية انفقت 480 بليون جنيه 115.6 بليون دولار على البنية التحتية في الاعوام ال20 الماضية لاجتذاب الاستثمارات الاجنبية ما ألقى أعباء كبيرة على عاتقها في مقابل ضآلة حجم الاستثمارات الاجنبية التي تحققت وكثرة الاعفاءات الضريبية التي استفادت منها، فبلغ إجمالي الدين العام المصري نحو 61 بليون دولار. الآثار وما من شك في ان تغيير سعر الصرف وانخفاض الجنيه أمام الدولار له آثار عدة على مختلف جوانب الاقتصاد المصري خصوصاً السوق المصرية لجهة التوازن بين الانتاج المحلي والمستورد، كما ان له أثره على السياحة اذ سيشجع مزيداً من السياح على القدوم الى مصر لانخفاض قيمة الجنيه. لكن ذلك يبقى مشروطاً بمدى محافظة العملة المصرية على قوتها الشرائية للسلع والخدمات. كما ان سعر الصرف يشجع على اجتذاب الاستثمارات الاجنبية اذ يحول المستثمر الأجنبي رأس ماله الى مصر بسعر معين ويقيم مشروعه الاستثماري، فإذا تراجعت قيمة الجنيه المصري سيؤثر ذلك في اجمالي الارباح المتحققة من المشروع وفي القيمة الاجمالية لرأس المال المستثمر، بمعنى ان انخفاض قيمة الجنيه تؤثر سلباً على أرباح المستثمرين وعلى رأس مالهم عند اعادة تصدير رأس المال والأرباح الى الخارج. وكان لانخفاض قيمة الجنيه امام الدولار تأثير مباشر في بورصة الاوراق المالية اذ ادى الى انخفاض حجم التدفقات النقدية من الخارج بسبب عدم وضوح الرؤية الامر الذي أدى بدوره الى تفاقم مشكلة نقص العملات الاجنبية. مواجهة الأزمة الامر الاساسي الذي يمكن ان يعيد للجنيه المصري قيمته الحقيقية على المدى الطويل هو الاهتمام بخفض الواردات وترشيدها وزيادة قيمة الصادرات. إذ من الملاحظ ان نسبة كبيرة من الواردات تنصب على السلع الاستهلاكية حتى انتشرت ظاهرة استيراد طعام القطط والكلاب والعصائر والبسكويت وغيرها. ولزيادة قيمة الصادرات وخفض الواردات يجب اعادة النظر في كفاءة وجودة المنتجات المصرية من جهة وتوفير المناخ التشريعي المساعد على تحقيق اكبر قدر من الصادرات وتوفير التمويل اللازم لتشجيع عمليات التصدير. إذ على رغم ان الانتاج المصري يستخدم أعلى وأرقى تكنولوجيا موجودة في العالم ما يحقق جودة عالية إلا أن قلة الصادرات تعود الى وجود بنية اساسية تشريعية وتمويلية وعدم وجود ثقة في المناخ الاقتصادي وعدم معرفة نية الحكومة وتحركاتها في النواحي الاقتصادية. كما ان عجز الحكومة على التنبؤ المستقبلي واتخاذ القرارات بقوة وحسم وتذبذب الافكار والرؤى الحكومية أدى الى تراجع الصادرات وخسارة المنتجات المصرية لعدد من اسواقها الخارجية. كما أن زيادة حجم وقيمة الصادرات المصرية يتطلب من المكاتب التجارية المصرية الموجودة في الخارج حسن الاداء من خلال دراسات حقيقية وواقعية للأسواق الخارجية ومعرفة متطلباتها واذواق المستهلكين ومد المنتجين والمصدرين المصريين بمعلومات حقيقية. ومن جهة اخرى يجب تفعيل القرار الذي اصدرته الحكومة المصرية ويقضي بالحد من الاستيراد وتفضيل المنتجات الوطنية. وهنا يجب ان نلاحظ أن الانضمام لمنظمة التجارة الدولية يمكن ان يؤثر في حركة انسياب البضائع الأجنبية ودخولها الاسواق المصرية. ومع ذلك يمكن للحكومة ان تتقدم بطلباتها للمنظمة لمساعدتها والسماح لها بعدم استيراد عدد من المنتجات التي يوجد لها مثيل محلي وتهدد الصناعة المحلية وتسبب إغراقاً لبعضها. ولا شك ان المنظمة يمكن ان توافق على هذا الاجراء فوراً ولفترات تحددها بالاتفاق مع الحكومة. وهناك واجب يقع على عاتق المستوردين المصريين إذ يجب عليهم الابتعاد عن استيراد المنتجات الاستهلاكية التي لها مثيل محلي. كما يقع على المنتج المصري واجب يتمثل في رفع مستوى جودة انتاجه وخفض نفقات الانتاج والتعرف بالوسائل الحقيقية كافة على السوق الخارجية لمواجهة المنافسة مع المنتجات الاجنبية. ومما لا شك فيه ان تحسين جودة السلع المصرية وزيادة كمياتها من شأنه ان يعمل على تحسين ميزان المدفوعات والميزان التجاري ومن ثم يحقق عائداً من العملات الاجنبية الحرة. اما لجهة السياسة النقدية فإن مواجهة سعر الصرف تتطلب ضرورة ربط الجنيه المصري بعدد من العملات الأوروبية والآسيوية والتخلي عن سياسة ربط الجنيه بالدولار وحده والتخلي ايضاً عن سياسة تحديد سعر الصرف لأن هذا التحديد يجعل المتعاملين بالعملات الأجنبية يفضلون التعامل خارج القنوات الشرعية بأسعار أعلى. ويجب ان تحدد حركة السوق سعر الصرف. اما تحديد سعر الصرف وجعل الشراء من خارج هذا السعر المحدد من المصرف المركزي مجرماً فإنه هو الذي يجعل السعر مرتفعاً وبالتالي لا يعكس السعر الحقيقي للدولار امام الجنيه المصري. ويجب ان نلاحظ كذلك ان عجز الحكومة احياناً عن توفير احتياجات التجار من العملة الاجنبية يدفع هؤلاء التجار نتيجة الحاجة وضغط الوقت لتخليص البضاعة او الافراج عنها من الجمارك الى شراء الدولار بأي سعر ما قد يسبب خسارة لهم ويضطرهم الى رفع سعر السلعة وتحميل المستهلك اعباء جديدة. ولزيادة الصادرات المصرية يجب العمل على زيادة الفائدة على الجنيه المصري في المصارف وحل مشكلة المصدرين مع الضرائب خصوصاً ضريبة المبيعات والجمارك وعمليات الدروباك ومنح مزيد من التسهيلات للمستثمرين الأجانب لاجتذاب رؤوس الاموال الاجنبية مع ربط سعر تحويل رأس المال الاجنبي المستثمر في مصر بالسعر العادي للدولار وليس بالسعر الرسمي. * كاتب مصري مقيم في السعودية.