في الوقت الذي يبدأ الأميركيون السنة الجديدة باتخاذ القرارات الشخصية في شأن المستقبل أريد ان أخبركم عن مدى سعادتي بكتابة هذه المقالات، وتقديري لهذه الفرصة للحديث اليكم عن قضايا تهمنا جميعاً. الأهم من ذلك اود التعبير عن امتناني لردود الفعل، سواء من خلال الرسائل الى "الحياة" أو اليّ شخصياً، أو في النقاشات عندما نلتقي. أشكركم على اطلاعي على آرائكم، واتطلع الى رؤية وسماع المزيد خلال الشهور المقبلة. السنة الماضية كانت سيئة للجميع. ففي الشرق الأوسط طغت مشاعر التشاؤم والغضب والتوجس على كل المجالات تقريباً، من الشارع السياسي الى الأسواق الى الجامعات، وحتى في اعلى المستويات في بعض الدول. فيما شلّ الخوف - من العمل العسكري أو القمع السياسي أو الركود الاقتصادي أو التطرف الديني - تقدم الكثير من دول المنطقة. كانت نهاية تعيسة لسنة تعيسة، وبداية لسنة جديدة لا تبشر بالكثير من الخير. وقد شعرت ببعض التفاؤل نهاية السنة بعد خطاب الرئيس ياسر عرفات الذي رفض فيه استخدام الارهاب وسيلة لتحقيق المستقبل الفلسطيني. وكانت المرة الأولى منذ زمن طويل التي يتكلم فيها كرئيس يخاطب شعبه. لكنه، كما كان متوقعاً، تراجع عن موقفه تماماً بعد بضعة أيام في خطابه في رام الله، الذي دعا فيه الى المزيد من الشهداء. أي نوع من القيادة هي هذه؟ أي نوع من الرئاسة؟ أدرك بالطبع أن اسرائيل لم تكن كريمة في تجاوبها. فقد رد شارون على الخطاب الأول بتوجيه المزيد من التهم الى عرفات والمزيد من الهجمات على الأراضي التي يسيطر عليها الفلسطينيون، فيما أغفل الخطوات الفعلية التي اتخذت بعد خطاب عرفات. ولا بد لنا في واشنطن من ان نتساءل عن وجود ارادة حقيقية لدى كل من الطرفين للخروج من دوامة العنف وتجربة وسائل اخرى. وأسمع في شكل متزايد اخيراً ذلك الرأي التبسيطي القائل بأن مستوى الألم لا يزال ضمن قدرة الطرفين على التحمل، ولذا لا أمل في نجاح اي محاولة للحل. كما أسمع من أشخاص عرفوا بالجدية أن نتيجة أي محاولة من الولاياتالمتحدة لخفض الكلفة الانسانية ستكون اطالة العذاب. انه استنتاج مخيف لما يعنيه بالنسبة الى الأسر الاسرائيلية والفلسطينية، ومخيف أيضاً من حيث الثمن الذي سندفعه نحن واصدقاؤنا في المنطقة عندما تتنامى قوى التطرف من الجانبين، يغذيها العنف والموت. مع ذلك فهو موقف يكسب قبولاً متزايداً هنا. كان الله في عوننا اذا صح هذا الموقف. الخطر الحقيقي خلال السنة الجديدة هو نجاح العنف والتهديد في اسكات المعتدلين هنا وفي الشرق الأوسط. ذلك ان المجتمعات التي تواجه هجوماً تنزع الى التوحد في مواجهة الاعداء، وهو ما يستغله المتطرفون ليصموا بالخيانة أي موقف يدعو الى اللين ويلمح الى بعض التنازل. انني اتكلم هنا عن المتطرفين في مجتمعنا الأميركي وأيضا عن اليمين الراديكالي الاسرائيلي والأصوليين الاسلاميين. وتجد التهم التي يكيلها هؤلاء دعماً من قطاعات كبيرة من السكان تخشى من اتهامها بالضعف أو ما هو أسوأ. في المجتمعات التي تشعر انها معرضة للهجوم، واجواء الهستيريا التي تثيرها أقلية متطرفة تسعى الى تشويه سمعة المعتدلين والقضاء على تأثيرهم، ليس من اعتبار لمكانة تلك الشخصيات المعتدلة، أو ما قدمته من خدمات لبلدها أو قضيتها، أو ما أبدته من بطولة. من هنا يواجه كولن باول، عندما يرفض مسايرة الاتجاه المتطرف، الاتهام بخيانة رئيسه. ومن هنا أيضا يُتهم سري نسيبة بالخيانة بسبب تجرؤه على التفكير عن شروط السلام ومستقبل شعبه، كما يتم للسبب نفسه تهميش يوسي بيلين من جانب حكومة اسرائيل والرأي العام هناك. وفي المنطقة بلغ الاستقطاب على جانبي الخط الأخضر خلال السنة الماضية درجة من الحدة جعلت من شبه المستحيل تخطي الهوة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وبين الاسرائيليين والكثير من البلاد العربية. وفي الماضي، عندما بدا السلام أقرب الى الامكان والأمل على وشك التحقق، كان هناك جسر بشري عبر تلك الهوة شكّله المعتدلون. أما الآن فقد تكسر الجسر وتدلى طرفاه على الهاوية من دون اتصال بينهما. انها قصة الكثيرين من المعتدلين في الشرق الأوسط. واذا كنت تعلمت بالتجربة أن غالبية السكان من الطرفين تميل الى الاعتدال عندما تشعر بقدر من الأمن، فاننا الآن لا نسمع من الغالبية سوى صمت يكاد يصم الاذن. بعد الهجمات الانتحارية في حيفا والقدس في كانون الأول ديسمبر الماضي نشرتُ في صحيفة "يو. اس. أي. توداي" مقالة بعنوان "مفتاح السلام في الشرق الأوسط بيد المعتدلين"، ولا أزال على هذا الرأي. ذلك ان المعتدلين يقدمون تلك الرؤيا للمستقبل التي تحتاجها المنطقة بالحاح. هذه الرؤيا تتعارض احياناً مع التيارات السائدة القائمة على التعصب والشكوك. انه الوضع الذي نجده اليوم، خصوصاً تجاه القضايا المتعلقة بتحرير الاقتصاد والصراع العربي - الاسرائيلي. فهناك كما يبدو نوع من الخوف يسود انحاء كثيرة من المنطقة: الخوف من التبادل الحر للأفكار. وهذا ما يعطي اهمية اكثر للاستماع الى المعتدلين. من الضروري ان يستطيع المعتدلون الكلام بحرية وأن يطرحوا آراءهم على الدرس والنقاش، وان يشاركوا في المجتمع على قدم المساواة مع غيرهم. وليس من الضروري الموافقة على كل كلمة يقولونها، وهذه بالتالي هي ميزة حرية تبادل الآراء، لأن قيمتها الحقيقية تكمن في النقاشات التي تنطلق منها، وعملها على تحويل الانظار عن الماضي للتركيز على المستقبل. الامتحان الحقيقي للحرية، كما يقولون، هو الاستعداد للدفاع عن حق الطرف المقابل في طرح رأيه مهما كانت شدة معارضتي لذلك الرأي. هل العالم العربي مهيأ لهذا المستوى من الحرية؟ * رئيس معهد واشنطن للشرق الأوسط.