الوضع الذي تجد شعوب الارض المقدسة نفسها فيه حالياً هو حقاً مأسوي. وعندما اقول "شعوب" أعني كلا الشعبين: الاسرائيلي بالاضافة الى الفلسطيني. وربما يجد بعض الفلسطينيين او غيرهم من العرب صعوبة في تصديق ذلك. فقد يتساءلون: "كيف يمكن لوضع الاسرائيليين ان يكون مأسوياً الى هذا الحد؟". "فبالمقارنة مع ما يعانيه الفلسطينيون في الوقت الحاضر يبدو وضع الاسرائيليين سهلاً ومريحاً!". نعم، اذا القىت نظرة على المعلومات الاولية عن وضع الشعبين، قد يبدو كما لو ان الامور سهلة تماماً بالنسبة الى الاسرائيليين. اذا القيت نظرة على حصيلة الضحايا بعد سبعة شهور من القتال. واذا القيت نظرة على معدل دخل الفرد من اجمالي الناتج القومي، او اي مؤشرات اقتصادية معروفة اخرى. واذا اخذت في الاعتبار الحرية التي يتمتع بها معظم الاسرائيليين في التجول في ارجاء بلدهم، او السفر الى الخارج، او ارسال اطفالهم الى المدارس مع احساس معقول من الاطمئنان على سلامتهم. واذا فكّرت بتوافر ملاجيء محصنة بشكل جيد ضد القصف لاستخدامها عندما يتدهور الوضع ... اذا اكتفيت بالقاء نظرة على مثل هذه المؤشرات "الخارجية"، سيبدو عندئذ ان وضع الاسرائيليين ابعد عن ان يكون مأسوياً. لكن المؤشرات "الخارجية" ليست كل شيء، كما نعرف جميعاً. فلا تقل اهمية عن ذلك المؤشرات "الداخلية" ومقاييس الحالة المعنوية لشعب ما، او مدى التفاؤل بالمستقبل. فمن وجهة النظر هذه يبدو وضع الاسرائيليين مأسوياً على نحو متزايد بالفعل، بينما يوجد لدى الفلسطينيين - على رغم الفوضى والاضطراب اللذين يسمان كل مستوى من حياتهم الداخلية وعملية صنع القرار - اساس من الوضوح بشأن مستقبل الانتفاضة: الاساس الذي يصرخ "لا" بوجه المزيد من اعمال البلطجة والقسر الاسرائيلية، ويصر على الرد ب "نعم" لدولة فلسطينية مستقلة. فحقيقة الوضع بالنسبة الى الاسرائيليين هي انهم لا يزالون منقسمين بشكل ميئوس منه على صعيد الاهداف والوسائل على السواء. وما يكتسب اهمية هو ان هذا الانقسام يوجد داخل قلوب وعقول الكثير من الاسرائيليين اليهود كأفراد، وايضاً بين الافراد المختلفين او الجماعات المختلفة. وهو ما يعطي السياسة التي تنجم عن ذلك سمة "الشيزوفرينيا" المثيرة للقلق التي غالباً ما نلحظها نحن المراقبون من الخارج كتبت هنا من قبل عن التقلب الحاد في الرأي العام الاسرائيلي اليهودي، والمخاطر التي يمثلها هذا المزاج المتقلب لأي تقدم عقلاني في اتجاه سلام نهائي. دعوني اقدم مثالاً واحداً ملموساً للغاية ومثيراً للاهتمام. دعوني احدّثكم عن صديقي الاسرائيلي "ك". انه شخص تعرفت اليه بشكل جيد هنا في فيرجينيا في الولاياتالمتحدة، لكنه لا يزال قريباً جداً من شؤون بلاده. انه شخص تعلمت ان انصت بعناية الى ما يقوله، لأنه يقدم فعلاً كما يبدو، بحد ذاته، مثالاً ممتازاَ عن المزاج المتقلب للناخبين الاسرائيليين. كان "ك" في الفترة التي سبقت الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة من المؤيدين المتحمسين لشارون. واعتاد ان يعلن بقوة ان "باراك ضعيف جداً! انه يوشك ان يخون البلد كله بمفاوضاته مع عرفات! ونحن جميعاً نعرف انه لا يمكن الوثوق بعرفات. فعلى رغم ان باراك يعرض عليه كل شيء في الضفة الغربية، لا يزال هذا غير كافٍ بالنسبة الى عرفات. اذا انتخبنا باراك سيعطي كل الضفة الغربية وغزة لعرفات، ومع ذلك سيواصل عرفات المقاتلة من اجل المزيد. كلا، لا يمكن الوثوق بعرفات اطلاقاً، وباراك مغفل اذ يحاول ذلك". كان هذا هو السبب وراء تأييد "ك" لشارون في كانون الثاني يناير وشباط فبراير الماضيين. لكن بحلول منتصف نيسان ابريل اصبح يشعر بالخيبة ازاء شارون ايضاً. وشكا لي آنذاك من ان "شارون هو تماماً مثل باراك! عندما أيدنا شارون في كانون الثاني يناير الماضي كان ذلك لاننا اعتقدنا انه سيسمح للجيش بأن يفعل ما كان ضرورياً لدحر الفلسطينيين. لكنه لم يفعل ذلك. انه ضعيف مثل باراك تماماً! بل اسوأ منه، لأنه وعدنا بشيء اضافي". هكذا، يبدو ان "ك" يواجه الآن مأزقاً. فبالنسبة اليه - وايضاً، حسب اعتقادي، بالنسبة الى اسرائيليين يهود كثيرين غيره - اخفق شارون في الايفاء بالكثير من الوعود التي كان اعلنها في كانون الثاني يناير الماضي، بانه الشخص الذي يمكن ان يحقق لهم ذلك الاحساس بالامن الذي يتوقون اليه. هل يعني هذا اذاً ان "ك" متطرف يدعو الى فرض السيطرة الاسرائيلية على الاراضي المحتلة كلها ويعارض بشدة أي تلميح الى انسحاب؟ كلا، انه لا يعني ذلك. وهذا، بمعنى ما، هو الجزء المدهش من التناقض الذي يمثله بالنسبة الى العالم. قال لي باصرار في المحادثة ذاتها في منتصف نيسان ابريل الماضي ان "عرفات مجنون تماماً! انا مستعد للانسحاب من الضفة الغربية كلها. الاسرائيليون كلهم تقريباً مستعدون! وعرفات يعرف ذلك. لكنه يصر مع ذلك على المطالبة بالمزيد!". كان يحاول، عند هذه النقطة، ان يعبر عن موقف بشأن عرفات. لكن ما سمعته في سياق هذا الحديث كان شيئاً اكثر اثارة للاهتمام: شخص يدعي ان شارون "متساهل" اكثر مما يجب بالنسبة اليه، على صعيد الشؤون العسكرية، لكنه لا يجد رغم ذلك اي غضاضة في ان ينأى بنفسه تماماً عن الاحلام الكوابيس؟ الشارونية بشأن ضم كل "اسرائيل الكبرى". ما هو مدى انتشار هذه الظاهرة وسط الاسرائيليين اليهود، يا تُرى؟ من الجائز تماماً انها اوسع انتشاراً بكثير، في معمعان المواجهة الحالية، مما يتصور معظم الناس. ما هو صحيح بالتأكيد انه ليس كل من صوّت لشارون في شباط فبراير الماضي متطرف يطالب بضم كل الاراضي. وانا متأكدة بأن "ك" ليس حالة شاذة بهذا الشأن. فهو ليس حالة معزولة. وهناك اسرائيليون يهود كثيرون غيره ممن يشاطرونه المزيج المتنافر ذاته من المشاعر تجاه القضايا العسكرية والسياسية والديبلوماسية. ويمكن ان اقول ان اقلية لا يستهان بها بالتأكيد من ال 45 في المئة من الناخبين المسجلين الذين صوتوا لشارون في شباط فبراير الماضي مقابل التصويت لباراك، او مجرد البقاء في المنزل كما فعل ثلث الناخبين يشاطرون على الارجح مشاعر "ك" بهذا القدر او ذاك. قولان مأثوران اخيران من "ك" يستحقان الاهتمام. "نعم، بالطبع، صوتّ لباراك في 1999. اعتقدنا آنذاك انه الشخص الذي يمكن ان يحل وضعنا. لكنه الآن لا شيء". ثم التصريح التالي، كتعقيب آخر على قضية انسحاب اسرائيلي "شامل" من الضفة الغربية: "لا يمكن، بالطبع، ان ننسحب من الاراضي تحت وابل الرصاص. من شأن ذلك ان يحطم موقفنا الشامل والاوسع القائم على الردع! فقد ثُلم هذا الموقف على نحو خطير بالفعل من جراء ما حدث في لبنان. كلا، في "الاراضي"، نحتاج الى الهدوء اولاً. وبعدئذ يمكن ان نتحدث حول الانسحاب". توجد عناصر مأساة كثيرة مرتبطة بوضع الاسرائيليين اليهود كما تجسّدها كلمات شخص مثل "ك"! دعوني اكتفي بانتقاء بعضها. اولاً، ذلك الاصرار غير الواقعي والسلبي كلياً على "السيطرة، السيطرة، السيطرة". واستعداد "ك" لأن يرى انسحاباً اسرائيلياً "كاملاً" من الضفة الغربية، لكنه يريد ان "يسيطر" بشكل كامل على الطريقة التي يتم بها ذلك. كما لو ان صنع السلام عملية يمكن لأي من الطرفين ان يؤمّل بشكل واقعي اطلاقاً السيطرة عليها! ثانياً، الانفصال التام بين الهدف الذي يقول انه يرغب فيه انسحاب اسرائيلي شامل والوسائل التي يؤيدها باعطاء الجيش ضوءً اخضر ل "حل" الوضع بواسطة القوة. ثالثاً، الاحساس بالمأزق. يدرك "ك" حمداً لله! انه لا يوجد زعيم سياسي بديل، حتى اكثر يمينية من شارون، يمكن التوقع أنه سيطبق السياسات "المتشددة" المناهضة للانتفاضة التي يبدو شارون، حسب قوله، "متساهلاً" اكثر مما يجب في تنفيذها. هكذا، اعتباراً من الآن، لا يرى "ك" مخرجاً من الوضع الحالي المثير للاستياء الى حد كبير... هذا الاحساس بوضع قائم غير مقبول، ولكن ايضاً بمأزق، وبعدم رؤية اي مخرج معقول من الوضع الحالي هو احد عناصر المأساة التي يتقاسمها الاسرائىليون، بلا ريب، مع الفلسطينيين. وهذا الوضع على وجه التحديد - بتورط كلا الطرفين حسب ما يبدو في دوامة عنف لا يستطيع اي منهما ان يرى مخرجاً منها - هو الذي يقتضي اتباع احدى وسيلتين ممكنتين للتحرك قدماً. اما ان ينتج هذا الطرف او ذاك زعيماً استثنائياً يملك سعة نظر نلسون مانديلا، او نحتاج الى تدخل سريع وفاعل من جانب طرف ثالث يمتاز بالحساسية والمشاركة. هل يمكن ان نتوقع ظهور القيادة المطلوبة من داخل اي من المجتمعين الاسرائيلي او الفلسطيني؟ للاسف، لا اعتقد ذلك. فشارون وعرفات هما كما يبدو، حتى الآن، "افضل" ما يمكن لهذين المجتمعين المجروحين ان يقدماه، كزعيمين. هنا تكمن المأساة فعلاً فهل يمكن اذاً ان نتوقع ذلك من أي طرف ثالث؟ يبدو هذا الاحتمال اقوى نسبياً، رغم انه لا يبدو وشيكاً بعد. اذاً، حتى نرى ذلك النوع من المساعدة من طرف ثالث الذي يحتاج اليه الطرفان، لمساعدتهما على الخروج من دوامة العنف الحالية، لا يزال من المفيد ان نتذكر ان الوضع الحالي مأسوي بالنسبة الى الاسرائيليين، وكذلك بالنسبة الى الفلسطينيين. فالقيام بمهمات عنيفة تتحكم بها اهواء السيطرة كتلك التي ينفذها الجيش الاسرائيلي في الاراضي المحتلة، والعيش في ظل مخاطر ومخاوف من المجهول كتلك التي تعيش في ظلها العائلات الاسرائيلية حالياً، لم يكن حلم الصهاينة الاوائل، وهو ليس الحلم الحالي للغالبية الساحقة من الاسرائيليين. فالمتطرفون من دعاة ضم الاراضي، المستعدون لمواصلة دفع ثمن انعدام الامن المستمر سعياً الى حلمهم المتطرف، لا يمثلون سوى قلة ضئيلة جداً، من الناحية العددية. وليس كل مؤيدي شارون متطرفين... حالما تُدرك مثل هذه الاشياء بصورة افضل، ربما سيتمكن الفلسطينيون واصدقاؤهم من البدء بطرح سياسات اكثر حكمة يمكنها ان تخاطب الناخبين الاسرائيليين بشكل مباشر وتعرض عليهم ذلك النوع من اعادة الطمأنة التي سيحتاجون اليها اذا كانوا سيقدمون اطلاقاً الدعم الفاعل لأي حل ممكن يقوم على دولتين. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.