تشير كل دلالات الشهور الأخيرة الى قراءة جديدة للموقف في الشرق الأوسط وتبدو من خلالها مواقف مختلفة لأطراف النزاع الطويل الذي حكم سياسات المنطقة لأكثر من نصف قرن كامل، والواضح لنا أن المعادلة التي حكمت هذا الصراع منذ مؤتمر مدريد مرواً باتفاق أوسلو حتى الآن تدخل اليوم مرحلة النهاية بسبب سياسات إسرائيل التي تكشف عن قدر كبير من سوء النية وإلتواء القصد. تبدو لي إسرائيل كما لو كانت ذلك الكيان العدواني الذي يطفئ المصابيح، ويقتل الآمال، ويعيد ترتيب الأوضاع وفقاً لأهوائه آخذاً في الاعتبار أن عنصر الزمن يبدو في غير مصلحة الطرف العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً. وينطلق شارون من هذه القراءة لكي يقوم بأوسع عملية تغيير في معطيات الصراع ومفردات التسوية، إنه يريد أن يقول بشكل مباشر إن تحقيق الأمن ممكن في غياب السلام بينما تاريخ الدنيا كلها يقول بغير ذلك، ولن تستطيع إسرائيل بقوة السلاح أن تضمن أمناً في غيبة سلام يحقق الحد الأدنى من العدل ويتصف بالحد الأقصى من الشمول، فالجرافات لا تصنع أمناً، والحصار لا يوّلد سلاماً، وقتل الأبرياء والوصول إلى الطفولة في مهدها يعني أن إسرائيل قررت الخروج على الأعراف كافة وانتهاك كل القيم وضرب الشرعية الدولية في مقتل، ولا أحد يعرف بالضبط كيف تتصور إسرائيل مستقبل هذه المنطقة، أو كيف تتوقع تعايشاً مشتركاً مع شعوبها العربية أو تعاوناً إقليمياً مع دولها الشرق أوسطية، إن إسرائيل تثير، أمام كل من يحاول أن يفهم، مجموعة كبيرة من علامات الاستفهام التي التي يصعب الإجابة عليها ولعلنا نرصد معظمها في: - أولاً: إن اختيار شارون لرئاسة الحكومة الإسرائيلية بأغلبية غير مسبوقة إنما يعكس الحجم الضخم لوهم الأمن في العقل الإسرائيلي الذي تصور أن شارون سيتكفل بضمان أمن المواطن الإسرائيلي حسبما كان يردد في حملته الانتخابية. ولكن الشهور الأخيرة منذ وصول شارون إلى السلطة حتى الآن تؤكد استحالة تحقيق الأمن من دون المضي الجاد في طريق السلام. - ثانياًَ: إن عنصرية إسرائيل لم تظهر عبر تاريخها الطويل بمثل ما تظهر به الآن، فتصرفاتها في الأرض المحتلة وممارساتها ضد الفلسطينيين توضح بجلاء أن الدولة العبرية هي كيان عنصري بالدرجة الأولى لا يستوعب الآخر ولا يحترم الغير. - ثالثاً: إن انخفاض معدل التعاطف الدولي مع الفلسطينيين يوحي بأن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي نجح في تصوير الفلسطينيين بأنهم لا يريدون السلام ويتجهون إلى العنف بدليل أنهم - على حد زعم إسرائيل - رفضوا عرض "بارك 2000" وقابلوا ذلك ب"انتفاضة الأقصى". وتلك مغالطة كبرى وفرية واضحة، فلا إسرائيل قدمت عرضاً واضحاً ولا الفلسطينيون استقبلوه باندلاع الانتفاضة. لكن السيد شارون نفسه صاحب الزيارة الاستفزازية للأقصى هو الذي حدد إشارة البدء لكل ما جرى ثم نال موقعه الحالي مكافأة شعبية على ذلك التصرف التحكمي الذي تعمد إيقاف المسيرة السلمية. - رابعاً: إن تواكب أحداث الشهور الأخيرة في الأرض المحتلة مع وصول إدارة جديدة في واشنطن يعكس بوضوح الصورة المعقدة لما يجري، خصوصاً أن "الإدارة الجمهورية" الجديدة لا تعطي ملف الشرق الأوسط حجم الاهتمام الذي أعطته لها سابقتها، وفي ظني أن مجرد إعطاء الأولوية لملف معين يؤدي بالضرورة إلى تخفيف التوتر وإعطاء ضوء - ولو كان شاحباً - للأمل ولو بعد حين. - خامساً: إن الشيء الذي يقلق هو أن إسرائيل تبدو الآن وحدة عدوانية متجانسة ويكفي أن نتأمل تصرفات ومواقف وزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريز الذي كان محسوباً في مقدمة "الحمائم" بينما هو الآن يقف في طليعة "الصقور" ويقود حملة سوداء ضد عرفاتوالفلسطينيين وحملة أخرى من الأكاذيب ضد العرب ومصر، وهكذا تنكشف لعبة توزيع عشرات السنين. إن القيادة الإسرائيلية التي وصلت إلى موقعها في ظل ظروف بالغة التعقيد شديدة الخطورة، تسعى إلى قلب الموازين في المنطقة وتغيير المعادلة بالكامل وإعطاء إسرائيل فسحة زمنية قد لا تقل عن عقد كامل من الزمان قبل أن تجلس على طاولة مفاوضات الحل النهائي. إن لدينا تعبيراً شهيراً في مصر يقول: "إن شخصاً قد قذف بكرسي في الكلوب"، أي أن مدعواً في أحد المناسبات رأى أن يطفىء الأنوار فقذف بمقعده في المصباح الكبير حتى تسود العتمة ويختلط الحابل بالنابل وتضيع أوراق اللعبة. وهذا ما فعلته إسرائيل ممثلة في شارون يوم 28 أيلول سبتمبر الماضي لأنها أدركت أن توقيت الحل النهائي لا يبدو مناسباً لها، وأن مسيرة التسوية قد لا تحقق أطماعها كافة، فأرادت أن تعيد الأمور إلى المربع الأول متصورة أن عامل الوقت يخدمها وحدها وأن العرب سيعتادون على قهر إرادتهم، وطمس هويتهم، وإطفاء أنوار الأمل أمام أجيالهم المقبلة. ولكن يبدو لي أن شيئاً من ذلك لم يتحقق، فصدور الأطفال العارية أمام الرصاص المطاطي، والعمليات الانتحارية المتتابعة تشير كلها إلى حال إزعاج لإسرائيل وارتباك لأمنها وضرب لاقتصادها وتقويض لنظرياتها في أن القوة الإسرائيلية كفيلة دائماً بإسكات الطرف الآخر. فإذا كانت إسرائيل نجحت في تصدير نوع من اليأس والإحباط لبعض العرب إلا أنها تستورد بغير وعي القلق والخوف من الشعب الفلسطيني وتلك في النهاية دائرة مغلقة تؤكد أن إسرائيل تطل بوجهها الحقيقي وتقدم أقبح ما لديها وهي التي تدفع بغلاة المتطرفين فيها إلى مواقع الحكم ومراكز القرار. إن إسرائيل تبدو أمامي وكأنها تستعد لكل الاحتمالات إلا احتمالاً واحداً هو خيار السلام الشامل والعادل. والأمر يدعونا هنا إلى تأمل الساحتين الدولية والاقليمية لكي نكتشف حجم الاستيعاب العالمي والقومي لسياسات إسرائيل. فأنا أتصور أن الأمور لن تمضي كما تريدها إسرائيل أو تخطط لها لأن الدنيا ليست لشعب واحد أو لدولة بذاتها، ودرس التاريخ يؤكد أنه لا يمكن أن تستأثر قوة في الأرض بجبروت مطلق على باقي البشر. إن ما تشعر به إسرائيل الآن هو نوع من الاستبداد المطلق الذي لم يحفل بمثله التاريخ يوماً ولم تقبل فلسفة التطور وجوده أبداً، فالأصل في التعايش المشترك هو أن تنال الشعوب حقوقها وأن تسترد الأمم ما لها ولا يمكن بأي حال أن تستطيع جماعة بشرية أن تستأثر وحدها بالسلام والأمن والأرض والمياه والسيادة والسلطة، لذلك فإن إسرائيل تدخل الآن نفقاً مظلماً سيقودها إلى أوخم العواقب وأسوأ النتائج، ولكي نقوم بعملية فرز للقوى المختلفة في العالم تجاه ما يجري وحتى يمكن أن نرصد ولو ببعض الأمل مواقف إيجابية رغم ضوضاء الإعلام المنحاز إلى إسرائيل والضباب الكاذب الذي تشوه به صورة النضال الفلسطيني وتحاول أن تمنع صوته من الوصول إلى أسماع الدنيا، رغم كل ذلك فسوف أرصد هنا تحديداً الموقفين الأوروبي والأميركي على المستوى الدولي ثم أتطرق إلى موقفي المتشددين والمعتدلين على المستوى القومي: 1- الولاياتالمتحدة الاميركية: مخطىء من يتصور أن الموقف الأميركي سيظل على ما هو عليه من سلبية تجاه الشرق الأوسط وانحياز بغير حدود لإسرائيل، إذ أن ممارسات الأخيرة ستستفز بالضرورة صانع القرار الأميركي لكي يكون مضطراً في النهاية لاتخاذ مواقف أقل انحيازاً لسياسات إسرائيل، ولعل التصريح الأخير لكولين باول وزير الخارجية الاميركي الذي انتقد فيه مغالاة إسرائيل في توغلها داخل الأراضي الفلسطينية يعكس جانباً من إرهاصات التحول واحتمالاته لأن إسرائيل تظل طفل الولاياتالمتحدة الاميركية المدلل إلى أن تكتشف الأخيرة أن عبء الطفل يزيد عن نفعه وأن مغامرته غير المحسوبة في منطقة شديدة الحساسية كالشرق الأوسط قد تكون لها آثارها السلبية على المصالح الأميركية بصورة تؤدي إلى مراجعة واشنطن لدعمها المطلق لإسرائيل. 2- الاتحاد الأوروبي: رغم خيبة الأمل التي أصابت العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً من درجة التعاطف الأوروبي مع الشعب الفلسطيني ومع اعترافنا بأن الاتحاد هو المانح الأول للسلطة الفلسطينية، إلا أن الشهور الماضية زرعت نوعاً من القلق وخيبة الأمل تجاه ما كنا نتوقعه من دول الاتحاد الأوروبي التي يرتبط أمنها ارتباطاً عضوياً بأمن الشرق الأوسط واستقراره، ولكن الشواهد الأخيرة تؤكد أن تأثير الخطاب الإعلامي الإسرائيلي في العواصم الأوروبية لم تعد له قوته التي تمتع بها خلال الشهور الأخيرة، لقد بدأت وزارات الخارجية الأوروبية تراجع معلوماتها وتعيد النظر في أفكارها، كما أن الاتحاد الأوروبي ذاته أصبح أكثر اهتماماً بما يجري على الأرض الفلسطينيةالمحتلة. فالمسؤول الرئيسي عن السياسة الخارجية للاتحاد وهو خافير سولانا بدأ يعطي تحركه درجة من الايجابية التي لا تخلو من التعاطف مع الشعب الذي يتعرض لواحدة من أكبر مذابح العصر على مرأى ومسمع من الدنيا كلها ومن دون أن تتوفر له حماية دولية كفلها له القانون الدولي المعاصر. فإذا انتقلنا من الساحة الدولية إلى الساحة الاقليمية فإننا سنكتشف أن غلاة المتشددين على الجانب الفلسطيني والعربي أصبحت لديهم حجج قوية وأسباب مقبولة في الحديث عن معاداة إسرائيل للسلام ورغبتها في الانتقام بينما يتمسك المعتدلون بمحاولات مستميتة لتهدئة الأوضاع والعودة إلى طاولة المفاوضات، ولكن التصرفات الإسرائيلية في رأيي تدعم المتشددين وتخذل المعتدلين وتقدم مادة جاهزة لكل من يريد أن يعرف حقيقة إسرائيل كما لم يعرفها أحد منذ قيامها. لذلك فإن الشرق الأوسط مرشح - في أية لحظةپ- لانفجار يطيح بالمعطيات القائمة ويعيد توزيع الأدوار في المنطقة ويجعل مفردات السياسة العربية في مواجهة مباشرة مع تصعيد إسرائيل غير المسبوق واستفزازاتها اليومية المتكررة وحتى الدول العربية التي وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل تشعر بالتحرشات الإسرائيلية ومحاولاتها المستمرة لإحراج كل الأطراف والانتقال بالمنطقة إلى أجواء العنف الدائم الذي لا يستطيع أحد التنبؤ بنهاياته لأن إسرائيل لن تكون قادرة وحدها على أن تضع حداً له. ولعلي أتساءل هنا كيف يمكن للإسرائيليين أن يتحدثوا يوماً عن التعايش المشترك والتعاون الأقليمي بعد هذه الممارسات التي ضربت السلام في مقتل ونزلت بصدقية إسرائيل إلى أدنى درجاتها على امتداد نصف قرن كامل؟ إننا بحاجة إلى سنوات طويلة حتى تنسى الأجيال نموذج إرهاب الدولة الذي اختارته إسرائيل اسلوباً للتعامل مع العرب والفلسطينيين، كما أننا في حاجة إلى سنوات طوال حتى ننسى ازدواجية المعايير الدولية وسياسات الكيل بمكيالين. فنحن نشعر - ربما أكثر من أي وقت مضى - أن العالم لا يعرف الحقيقة بدليل أنه يتحدث عن إيقاف العنف في مساواة ظالمة بين المعتدي والمعتدى عليه، بين المحتل وصاحب الأرض، بين آلة الحرب الإسرائيلية وأطفال الحجارة في شوارع فلسطين. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.