القاهرة حاضرة عالمية، لها امتداداتها الثقافية والحضارية المترامية، فالمدينة منذ ان أنشأها الفاطميون في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي 969م، لتصبح مدينة الألف مئذنة ولتعلن الى جانب نداء الصلاة، انها نجحت عبر العصور التاريخية المختلفة الواحد تلو الآخر في تذويب الغزاة وإلباسهم ثوبها التاريخي القشيب. امتازت بخاصية جديدة تقوم على "سحر" العشق الذى يلقي بالجميع في هواه.مصريين واجانب. وهكذا تحققت نبوءة مؤسسها وصاحبها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي الذي اراد لمدينته "ان تقهر العالم" والحواضر السابقة وان تكون لدولته الغلبة والنصرة. وكان للقاهرة ما اراد فامتازت بقدرتها الفائقة على البقاء والاستمرار والنمو حتى اصبحت واحدة من اكبر مدن العالم. وتعدى الامر القدرة على الامتصاص السياسي الى الوقوع في شراك "العشق المعموس" لمدينة قديمة جديدة. وبقدر جماليات المدينة الساحرة، كانت المؤلفات عنها متنوعة، فهناك المؤلفات التاريخية البحتة التي تتناول تاريخية القاهرة منذ النشأة والتكوين وحتى النضج واستشراف آفاق المستقبل، مثل دراسات المصري جمال حمدان والفرنسي اندريه ريمون والانكليزين دزموند ستيورات وستانلي لينبول، علاوة على دراسات اخرى قام بها مبدعون مصريون امثال يحيى حقي وحتى صنع الله ابراهيم في كتابه الاخير "القاهرة: من الحافة الى الحافة" قسم النشر- في الجامع الاميركية في القاهرة - 1998، هذا بالاضافة الى الكتابات الابدعية التي تناولت ملامح الحياة اليومية في مدينة ذات مدن شتى، مثل اعمال نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وعلاء الديب وغيرهم. وجابت عدسات المصورين العالميين فضاء القاهرة، فأبدعت في التعبير عن حالاتها الخاصة، في ارقى احيائها وفي اشدها شعبية، وفي اوقاتها المختلفة في الليل والنهار، وفي فتراتها التاريخية المتزاحمة المتلاطمة، العصر الوسيط والحديث المعاصر. وكان من ابرز من قاموا بتصوير القاهرة، الفرنسي جان بيير ريبير، والتشيخي ميلان زامينا والمصرية سارة سلماوي وتأتي هذه التصاوير - استعارة من يحيى الطاهر عبدالله - امتدادا لمرحلة المصورين العظام الذين صاغوا جماليات مصر عموما، والقاهرة خصوصا، امثال فيفان دينون وبريس دافين وديفيد روبرتس كأحد الاثار الناجمة عن تلاقي الشرق مع الغرب وحدوث ما يعرف ب"ظاهرة الاستشراق في الفن" احدى نتائج الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت 1798 - 1801م على مصر والشرق. واذا كانت للقاهرة كلها مكانة خاصة لدى المستشرقين والرحالة، فإن ل"قاهرة القرن 19" "قاهرة الخديو اسماعيل"، المكانة الكبرى في قلب هؤلاء الرحالة والمستشرقين، وبكل هذا الثراء الذي تعكسه هذه الحقبة، كان الثراء الكتابي مواكباً ايضا، فكانت كتابات المصريين عرفه عبده علي ومنير السمري واحمد سعيد عثمان وغيرهم، ويجيء كتاب "باريس على ضفاف النيل.. العمارة القاهرية في مطلع القرن" للكاتبة الاميركية سينتيا مينتي والذي اصدره اخيراً قسم النشر في الجامعة الاميركية في القاهرة، ليسد فراغاً كبيراً في فضاء الحديث عن "القاهرة الاسماعيلية" عبر الكلام المقتصد، والذي ترك للصور حرية الحديث والتعبير عما يراد قوله. عاشت مينتي ما يقرب من العقد في مدينة القاهرة، وعلى تخصصها في الانثروبولوجيا والعالم العربي، فلها غرام قديم مقيم بالتصوير الفوتوغرافي المتعلق بالعمارة عموما، والقاهرية منها خصوصا. جاءت "قاهرة القرن 19" ثمرة لطموح حاكم اراد لبلاده ان تخرج من هذا النفق المظلم الذي تعيش فيه، وان تصبح قطعة او جزءاً من العالم المتحضر آنذاك: اوروبا وقال هذا الحاكم الخديو اسماعيل بالحرف الواحد: "لم تعد بلادي في افريقيا، نحن قطعة من اوروبا"، وكان هذا القول يتصدر كل يوم الصفحة الاولى من صحيفة "جورنال دي كير" صحيفة القاهرة احد اهم الصحف الناطقة بالفرنسية في العاصمة المصرية. وكان الدافع وراء هذا الاتجاه وهذه الظاهرة المعروفة ب"الاوربة"، الزيارة التي قام بها اسماعيل لكل من بريطانيا العظمى وفرنسا، وأذهله ما رآه في باريس، خصوصاً بعد التغييرات الجذرية التي ادخلها عليها السياسي الفرنسي المعروف اوسمان في الفترة ما بين "1809- 1891م"، وكان من شأنها ان تضفي جمالاً مضاعفاً على باريس بجمالها الطاغي. وصرح اسماعيل لاحد وزرائه عقب الزيارة: "اريد ان افعل كل شيء لإحضار الموجة الاوروبية الى مصر، انها وحدها التي تستطيع دفعنا ومساعدتنا على إدخال المدنية الى مصر". وبالفعل احضر عدداً من المهندسين الفرنسيين لهندسة القاهرة على النهج الباريسي والرؤية الفرنسية، وساعده النابه المصري علي مبارك في ذلك التوجه. وتحاول مينتي في هذا الكتاب المدهش، رفع الغشاوة عن اعيننا، بتفقد هذا "الجمال النائم" والثاوي بيننا من دون ان نشعر به، والذي يهدده الآن التلوث والإهمال، وعبر مئة وسبعين صورة من جملة اربع آلاف صورة التقطتها عدسة مينتي، عكست القاهرة في القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، وجاءت هذه الصور "أبيض وأسود"، لتوضح أحوال هذه الفنون المتنوعة بين العمارة والفنون الصغرى والمعدنية والخشبية المتمثلة في المباني الكبرى كالمتحف المصري وغيره، والمنازل، والأعمال والاشغال المعدنية كالأسوار والبوابات، والابواب بكل انواعها ومداخلها المتنوعة، والنوافذ بأشكالها وأنواعها المتعددة، والتشكيلات الزخرفية البشرية والحيوانية والملائكية والمشكلة على هيئة الرمز المصري الاثير والشهير "ابو الهول". وتختتم المؤلفة رؤيتها المكتوبة الصورة بنظرة كاشفة للعمارة الآنية في "نهاية قرن" وان القاهرة لم تكن نسخة مكررة من باريس، بل شيئاً يفوق باريس. وعلى اتساع العدسة الراصدة التي استخدمتها مينتي في دراستها، جاءت الصور كاشفة ومعبرة عن أدق التفاصيل لترسم "بورتريه المدينة" في كل لحظاتها واشواقها، واظهرت مفاتن ومعالم القاهرة التي نعدها غائبة عنا، فيما نسير فيها ليل نهار، ولا نشعر بها، وهذا ما نفيده من "عين الغريب" صاحبة القدرة على الرصد والاستيعاب واظهار العيوب قبل المفاتن، وهي ربما افضل من عين "ابن البلد" الواقعة في العشق دوماً والمتواطئة في الحب والهيام تؤكد مينتي في مقدمتها على كونية مدنية القاهرة، ففي زمن لم يكن بعيداً، جاء الاوروبيون والاميركيون الى القاهرةالمدينة المشمسة، هروباً من مدنهم الشمالية الباردة، وفي هذا الوقت تحديداً، كانت القاهرة مدينة ذات سكك حديدية عدة، تربط بين احيائها المختلفة، وفيها الفنادق البارزة، والمسارح المضاءة، والحدائق الممتعة، وجذبت القاهرة بقطنها الحريري واقتصادها القوي، التجار ومن ثم المغامرين، وفلاحي ايطاليا المعدمين لبناء مدينة جديدة. هذا زمن، كان فيه، البقال يونانياً، والميكانيكي ايطالياً، والحلواني نمسوياً، والصيدلي انكليزياً، والفندقي سوسرياً، وصاحب المتجر يهودياً. وفي ايام القاهرة هذه، كانت رؤوس اموال جنسيات شتى، تتراقص في حفلات عشاء في فيلات انيقة، وتتسابق على الخيل في اندية رياضية عريقة. ومن خلال هذا الاختلاف المثمر، نتج هذا المجتمع المتجانس دائماً، والمتعارض في ما ندر. وهذا ما اكد عالمية "القاهرة الكوزموبوليتانية". وتعكس هذه القاهرة تنوعاً فريداً، فهي "متروبوليس غير عادية" تمتد من هضبة الجيزة بأهراماتها السامقة في اقصى الغرب، الى اقدام قلعة صلاح الدين في اقصى الشرق، عبر النهر الخالد: النيل، عارضة تاريخاً رائعاً لا يصدق، أشبه بطبقات الجيولوجيا المتتابعة في هارمونيا عجيبة، فيه تساوق وتناسق، لا تعارض وشذوذ، فمن الفرعونية الى القبطية الى الاسلامية الى المعاصرة والحداثة. ويعود اقدم المباني المصورة في الكتاب الى العام 1870م، والمتمثل في بواكي شارع "كلوت بك" في وسط القاهرة، فيما يعود احدث المباني المصورة الى العام 1930م، والمتمثل في رسوم الروكو التي تزين احدى فيلات بداية القرن. ومن الاشياء التي تثيرها هذه القراءة المصورة، اهمية المكان، وتاريخيته، وهو يشكل بكل خلفياته المعرفية "قصة تنافس" من نوع مختلف، يقوم على الصراع بين القوى المهيمنة والقوى المنسحقة، للتغلب على سطوة الزمن ووسمه بميسمها المميز والخاص. ومن خلال هذا التقديم، نستطيع فهم "تاريخية مصر الحديثة" بكل مرجعياتها المتداخلة بين الثقافي والحضاري، وبالطبع "مدينة القاهرة" كأحد أهم العناصر المكونة للفسيفساء الكبرى المسماة: مصر. وعلى ارض هذه المدينة "القاهرة" حدث تزاوج بين جنسيات وثقافات عدة، رفعت عن المدينة صبغة المحلية، ودفعتها الى افق العالمية المضيء. فعلى أرض كهذه، تلاطمت ثقافات وحضارات الاتراك، والفرنسيين، والانكليز، والبلجيك والنمسويين، واليونانيين، والاميركيين، والارمن، والايطاليين، ويهود فيينا، والعرب. مدينة بكل هذا التنوع الفريد، كانت كفيلة بنتاج "حضارة فائقة" وهذا ما حدث بالفعل. وعبر استقراء مخلفات هؤلاء البشر الحضارية، يمكن تلمس كيفية الحياة اليومية وطرق المعيشة ومفردات عالم لم يغب عنا الى مدة لا تزيد عن نصف قرن. وكفل موقع مصر المتوسط بين قارات ثلاث، وفي جنوب البحر المتوسط، وعلى قمة الركن الشمالي الشرقي من افريقيا، حرية الاتصال بالعالم قديمه وحديثه، والقيام بدور "الوسيط الحضاري" بين حضارات ومجتمعات شتى. وكانت مصر على اتصال بالاوربيين منذ وقت، يحدد عادة بداية من حملة "بونابرت" على مصر، وازداد هذا التلاقي في عهد الحاكم الالباني لمصر محمد علي باشا 1769 - 1849م. وتطورت العلاقات في عهد ابنه الاكبر الخديو اسماعيل الذي حكم مصر من 1863 - 1879م. وقرر ان يبني مدينة جديدة غرب المدينة القديمة، وتكون اكثر قرباً من نهر النيل. وعرف الحي الجديد ب"الاسماعيلية" نسبة الى الخديو، ويشمل منطقة وسط المدينة الآن، وتم استغلال منطقة الازبكية وتجفيف مستنقعاتها وتحويلها الى حي سكني راقٍ تشغله الارستقراطية المصرية، ويعج بأماكن الترفيه واللهو. وبدأ تخطيط الميادين، باب الحديد والعتبة وعابدين، وانشاء دار الاوبرا المصرية للاحتفال بافتتاح قناة السويس في عام 1869م. وتم انشاء عدد من الفنادق الكبرى مثل "شبرد"، و"سافوي" و"سميراميس"، و"قصر عدن". وراحت تتطور وتظهر احياء جديدة للوجود مثل "هليوبوليس" في الشمال الشرقي، وغاردن سيتي على ضفاف النيل، و"المعادي" الى الجنوب بالقرب من حلوان. وعن الملامح المعمارية لهذه الاحياء الجديدة، فإنها كانت متنوعة وكثيرة، تجمع بين الاسلوب الاوروبي الحديث وبعض الاساليب المعمارية التقليدية، وتنوعت زخارفها المعمارية، وكان للمعماريين الايطاليين، الدور الاكبر في تشييد المدنية الجديدة، وعملوا في وزارة الاشغال المصرية العامة مع وزيرها علي باشا مبارك وفي الاعمال الخاصة كذلك. وقاموا بتصميم وبناء قصور الخديو، والمباني العامة، والقصور الخاصة بالمجتمع الجديد والطبقة الاجتماعية الصاعدة. ونستطيع ان نقرأ اسماء عدد منهم تزين مباني القاهرة العريقة، مثل فرانشسكو باتيجلي، وكارلو بارامبوليني، وبيترو افوسكاني، وكارلو فيرجيليو، وسيلفاني، ولويجي جافاسي، واغسطسو شيزاي، وجيوسيبي، وكاروزو. بنى افوسكاني مبنى الاوبرا في القاهرة، على غرار اوبرا "لاسكالا"، ليشهد حفل افتتاح قناة السويس، وانجزه في ستة اشهر، وكان وفقاً للتقارير: "معجزة في البناء"، وقام الصقلي جيوزبي جاروزو وابناؤه في ما بعد ببناء الكثير من مباني القاهرة الضخمة مثل "المتحف المصري" و"قصر عابدين" و"فندق شبرد"، و"مطافئ العتبة". ويعود الاعتماد على الايطاليين في بناء هذه المنشآت، نظراً لتمتعهم بالحس الفني والجمالي العاليين، وتأثرهم الشديد بفنون "الرنيسانس" عصر النهضة الايطالية، واستخدام اساليب معمارية متنوعة مثل تكسية الارضيات بالاحجار الثقيلة واستخدام الاعمدة التوسكانية كدعائم وكذلك الايونية. ولم ينس هؤلاء الايطاليون طبيعة الارض التي يعملون عليها، فاستعانوا ايضاً بالفنون الاسلامية الرفيعة مثل فن الارابيسك بتعريفاته النباتية والورقية المتداخلة والمعبرة عن ميل "الفنون الاسلامية الى الزخارف النباتية والهندسية. هذا بالاضافة الى الاستعانة ب"فن الباروك الفرنسي" المتأثر ب"مدرسة الفنون الجميلة في باريس" وخصوصاً في القرن التاسع، واستخدم في القاهرة الحديثة، التي وصفها المعماري الرائد المهندس حسن فتحي بأنها أشبه ب"علب الثقاب"، وتفتقد شروط البناء الصحيح الذي لا بد ان يتناسب مع البيئة المحيطة. وسوف تبقى "العمارة الاسلامية" شاهداً على تاريخ لم يندثر، واشارة على عهد كان يقدر الجمال على كل شيء ويبحث عنه في كل ما هو امامه، ودليلاً على عجزنا عن تذوق الجمال واستساغة طعم القبح، وسوف تجعلنا نعيد النظر في عمارتنا القائمة، التي تقوم بدور المأوى ليس أكثر، وتفتقد في ما تفتقد الى جماليات العمارة والاحساس بالفضاء وتقدير سحر المكان وروعته، وكأنها مكعبات اسمنتية تحوي بشراً محنطين!.