بدا غياب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عن اجتماع لجنة القدس في مراكش مقبولاً إلى درجة الاستسلام للأمر الواقع. فالرجل محاصر في مكتبه وارييل شارون يفرض شروطه، لكن الأخطر في الحصار ذاته أنه ليس صادراً عن قرارات دولية دأب العالم على اختبارها في الساحة العربية، وإنما استعراض عضلات يمهد لفرض عقوبات. والمشكلة أن شارون الذي كان إلى وقت قريب من دون استراتيجية أصبح الآن يرسم ملامح المستقبل إلى درجة التحكم بإدارة اللعبة. وساعده في ذلك أن الحرب الأميركية على الإرهاب أقحمت تنظيمات وفصائل فلسطينية وعربية وإسلامية، فضلاً عن أن تداعيات الحرب التي ما زالت في بدايتها من وجهة نظر أميركية، طاولت العلاقات العربية مع واشنطن. ولم يكن غياب وزراء خارجية الدول الإسلامية الأعضاء في لجنة القدس سوى الوجه الآخر لتلك التداعيات. والأرجح أن شارون يريد التأثير في السياسة الأميركية من حيث تطابق المصالح، وعلى عكس الانكفاء الإسرائيلي في حرب الخليج الثانية يوم كان التحالف العربي مطلوباً، يسعى شارون إلى أن تصبح إسرائيل لاعباً محورياً في التحالف ضد الإرهاب، في طبعة موجهة ضد أطراف عربية. ومن يرصد سياسة واشنطن يدرك أنها حين تختار هدفها تطلق العنان للكلام على أهداف أخرى، فقد تكثر الايحاءات عن ضرب الصومال أو السودان، لكنها تعد لضرب لبنان أو اليمن. والحال أن الانحياز الأميركي إلى إسرائيل يتعارض ومطلب الضغط الذي يمكن أن تمارسه واشنطن، كما ان التجاذب داخل الإدارة الأميركية تستغله إسرائيل بمقدار أكبر من الانتهازية. تختزل المواجهة بين شارون وعرفات مراحل في الصراع. فقبل عقدين من الزمن كان الأول لاعباً أساسياً في حصار بيروت، لكن عرفات غادر المدينة إلى تونس ثم فاس للمشاركة في قمة السلام الأولى، على خلفية اعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. لكنه هذه المرة لم يستطع الخروج من رام الله حيث تحميه دروع بشرية. وقد لا يستطيع العودة إلى بيروت، إلا أن السلطة الشرعية قائمة على الأرض ولن يكون في إمكان شارون إلغاء وجودها، لأن افادته من تداعيات الحرب على الإرهاب قد تكفل تهميش القضية الفلسطينية بعض الوقت، لكنها لن تجعل ذلك نهائياً. الفرق بين حصار بيروت وحصار الأراضي المحتلة أن الأخير قائم في مركز السلطة، والعمليات الفدائية التي كانت تشن من أراضٍ عربية ضد الكيان الإسرائيلي أصبحت الآن تنفذ داخل الأراضي المحتلة. وما لم يستوعبه شارون هو أن عرفات محاصر داخل بيته ووسط شعبه ولن تكون إسرائيل استثناء في كل تجارب المقاومة ضد الاحتلال. العودة إذاً إلى بيروت أصبحت هاجساً لدى شارون، فقد يفلح في منع عرفات من حضور القمة العربية المرتقبة، لكن أيدي "موساد" التي فجرت سيارة ايلي حبيقة لن تحول دون التئام القمة. وسياسة دفن الأسرار قد تنفع في تغييب الحقائق، لكنها لن تحجب المبادئ، وما يفعله شارون في الأراضي المحتلة لن يحاصر اندفاع السلام، طالما أن قطاره انطلق صوب محطة بيروت المقبلة، ولا يهم إن كان عرفات واحداً من ركابه، بل الأهم أن بيروت لن تعود مدينة أشباح وحصار عرفات سينقلب إلى حصار إسرائيل نفسها، لأنه مثل الحبل يطوق صاحبه في النهاية بعد أن يستسلم لمشاعر الانتشاء.