شهدت الأسابيع الأخيرة ما يشبه إعادة اكتشاف متبادلة بين معسكري السلام الاسرائيلي والفلسطيني، على ما بينهما من فوارق في الحجم والتأثير. ومن مظاهر إعادة الاكتشاف المؤتمر الذي عقد في كيب تاون برعاية رئيس جنوب افريقيا، الذي لم يحظ بتغطية إعلامية تذكر، وشارك فيه كل من صائب عريقات وزياد أبو زياد من جهة، وابراهام بورغ ويوسي بيلين من جهة ثانية. ومن المظاهر الأخرى، اللقاءات التي تكررت بين حنان عشراوي وياسر عبد ربه وبيلين وجمهرة من قيادات حركة "السلام الآن" في غير مكان من الضفة الغربية. ومن المظاهر الأخرى الأقل إثارة مقالات لشولاميت ألوني ويوسي ساريد في الصحافة الاسرائيلية. والمؤسف أن هذه اللقاءات تتم في أجواء من الشعور بالانكسار، بعد أن نجح ارييل شارون في استقطاب الجمهور الاسرائيلي، وبعد صمود الحكومة الائتلافية التي يقودها رغم برنامجها اليميني الصارخ، ورغم ما أدى إليه تشكيل هذه الحكومة واستمرارها من إضعاف، بل ما يشبه اضمحلال، حزب العمل، حتى أن أحداً بالكاد يتبين أن رجلاً مثل بنيامين بن اليعازر يقود حالياً هذا الحزب، إذ أن الصفة الطاغية عليه أنه وزير دفاع لشارون. هكذا يتم تظهير أسوأ ما في الحزب: النازع العسكري لخدمة سياسة رئيس الحكومة. فضعف قوى السلام الاسرائيلية بما فيها ميريتس، أضفى حجماً هامشياً عليها، بعدما أشاع شارون الانطباع بأن لا صوت يستحق أن يسمع سوى صوت المعركة. وبعد نجاحه في استدراج قوى فلسطينية الى هذه المعركة وفي أسوأ مواضعها: استهداف المدنيين. على أن جموح زعيم ليكود لأسباب بعضها انتخابية حزبية، واندفاعه في سياسة الاغتيالات وهدم البيوت وإغلاق الأبواب أمام أي حل سياسي، وتهديده بحرمان الجانب الفلسطيني من دور الشريك في المفاوضات، قد فتح الأعين على مخاطر هذه السياسة التي توكل الأمر كله الى الجنرالات وقادة المستوطنين ولا تترك أي هامش يتحرك فيه السياسيون، وهو ما ألحق إرباكاً شديداً لم تتوقف مفاعيله السلبية في صفوف اليسار. فبدت حركة ميريتس عاجزة عن التميز الفعلي عن حزب العمل، بينما بدا هذا الحزب عاجزاً بدوره عن التميز عن ليكود، وكأن تأميماً قد وضع على الحياة السياسية بفعل قرار اجترحه "ملك اسرائيل" الذي أعلن أنه سيتقدم الى انتخابات تشرين الثاني نوفمبر 2003 وأنه سيفوز فيها، في محاولة لقطع الطريق على حزب العمل لتسبيق الموعد، وفي محاولة ظاهرة أيضاً لإزاحة نتانياهو عن التنافس على زعامة ليكود، بعدما لم يعد لدى الأخير ما يقوله إزاء الإبداع الشاروني في مجال استكمال استقلال الدولة العبرية. والمقصود تكريس الاستيلاء على الضفة والقطاع وإحياء مشروع اسرائيل الكبرى، وان من دون استخدام هذه التسميات. حيث أن زعماء في الشرق الأوسط يتطيرون من التسميات أكثر من نقمتهم على السياسات! والاكتشاف الذي تم بين معسكري السلام الاسرائيلي والفلسطيني، جاء متأخراً. فالحرب التي أشعلها باراك وقام شارون بتوسيع نطاقها، وكذلك العمليات التي استهدفت مدنيين اسرائيليين، كادت تقضي على آمال وثقافة السلام. وقد جاء التأثير السلبي مضاعفاً بعد نحو سبع سنوات من النجاح النسبي لتجربة أوسلو، وبعدما نشأت "جيرة" بين الكيانين السياسيين، وبعد سلسلة من المفاوضات الماراثونية التي لم تنقطع منذ توقيع اتفاق المبادئ عام 1993، الى مفاوضات طابا أواخر العام 2000. وإذ تحدو قوى السلام على الجانبين الآمال في إسماع أصواتهما لكل من يعنيه الأمر، إلا أن من الثابت أن الطرفين يضمران خيبة أمل من مجمل الوضع، بما في ذلك موقف معسكر السلام الآخر. مع فارق أن المعسكر الفلسطيني أكبرح حجماً ونفوذاً بما لا يقاس، بدليل تأثيره على صناعة القرار في القيادة خلافاً لمعسكرالسلام على الجانب الآخر، العاجز حتى الآن عن التأثير على رموز حزب العمل، إذ أن وزراءه لم ينسحبوا من الحكومة، ولا يبدو أنهم فاعلون قريباً. وقد سبق لشلومو بن عامي وزير الخارجية في حكومة باراك أن وصف زملاءه هؤلاء بأنهم مرتزقة. والمؤسف أيضاً أن الطرفين يلتقيان بما يشبه الاضطرار الى ذلك، بدلاً من استئناف ما يفترض أنه قد تراكم في السنوات الماضية، وكأنهما يكتشفان كل منهما الآخر لأول مرة. ويعزز الانطباع بموسمية هذه اللقاءات، انها تخلو من أي اطار مؤسسي يضمن ديمومة العمل، بحيث يمتد الحوار الى شرائح مدنية واجتماعية غير شريحة السياسيين المحكومين في أغلب الأحيان بحسابات آنية، ولأنها كذلك فهي متغيرة. على أن تجدد الاتصالات يظل يمتلك أهمية فائقة، أولا لاثبات ان هناك خياراً غير حرب شارون والانتفاضة المسلحة، وثانياً للبرهنة على أن السلام ليس مجرد خيار بين خيارات، بل الاتجاه "التاريخي" الصحيح الضامن مصالح الشعبين. ولا شك أنه تم، بنجاح، قطع طريق طويل لتكريس هذه المفاهيم فلسطينياً. لكن اسرائيلياً، الأمر يتطلب مبادرات أكثر جرأة وشمولية. فالعون الذي يسع الفلسطينيين تقديمه لطمأنة الاسرائيليين يظل محدود الأثر، خصوصاً مع شيوع ثقافة القلعة المتفوقة التي لا تنشد اعتراف "عدوها الضعيف" بتفوقها.