الهلال يواصل مطاردته للاتحاد بثنائية في شباك التعاون    الأخدود يفاجىء الأهلي بثنائية    محمد السندي يُرزق بمولود أسماه "عبدالمحسن"    الأخضر يستعد للتنين بالأسماء الواعدة    ودية تعيد نجم الاتحاد للملاعب    قائد القادسية تحت مجهر الانضباط    سلمان للإغاثة يشارك في جلسة بالأمم المتحدة    رقابة مشددة على موظفي DeepSeek    مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية يعقد اجتماعًا لمناقشة التقارير وإصدار التوصيات    ترحيب سعودي باتفاق أذربيجان وأرمينيا    «سلمان للإغاثة» يوزّع 1.390 سلة غذائية في محافظتين بالصومال    تركي بن محمد بن فهد يطلق عددًا من المبادرات الإنسانية والتنموية    نصف مليون غرامة ضد 79 فندقًا في مكة والمدينة    الدفاع المدني يكثف جولاته بالمدينة المنورة    1200 حالة ضبط بالمنافذ الجمركية خلال أسبوع    رحلة ما قبل المئة على مسرح تعليم الباحة    ليالي وِرث الرمضانية تنطلق بأبراج الساعة    إفطار رمضاني صدقة عن الأموات بحارة الدير بالدرب    يلملم بوابة معتمري الجنوب    2 مليار خطوة في 5 أيام    القبض على باكستاني في جدة لترويجه (1.4) كجم (شبو)    البرتغال تدرس كافة الخيارات لاستبدال طائرات اف-16 الأميركية    شركة المربع الجديد تشارك في مؤتمر MIPIM 2025 العقاري    غياب نجم النصر عن مباراة البرازيل    الجالية الهندية في جازان تقيم مأدبة إفطار رمضاني    حكاية كلمة: ثلاثون حكاية يومية طوال شهر رمضان المبارك . كلمة : بئير    إنتاج العنب المحلي يتجاوز (122) ألف طن سنويًا    أبرز العادات الرمضانية في بعض الدول العربية والإسلامية.. فلسطين    الكشافة يحققون أكثر من 26 ألف ساعة تطوعية في خدمة زوار المسجد النبوي خلال النصف الأول من شهر رمضان    أكثر من 21 الف مستفيد.. "نور" تقدم برامج دعوية خلال أسبوعين من رمضان    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد العظام ويحفظ تاريخًا يمتد إلى 14 قرنًا    النصر يتغلّب على الخلود بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    ضبط (23865) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    ( التطلي) والذكريات الرمضانية    من العقيدة إلى التجربة.. قراءة في أنسنة الدين    زلزال بقوة 5.4 درجات يضرب شبه جزيرة ميناهاسا في إندونيسيا    واشنطن تطرد سفير جنوب إفريقيا    قصر ضيافة ومباني فندقية وسكنية في مزاد "جود مكة"    تفعيل مبادرة صم بصحة في فعالية إفطار حي خضيراء الجماعي    إفطار رمضاني يجمع صحافيي مكة على إطلالة البيت العتيق    طويق جازان في مبادرة إفطار مرابط بالحد الجنوبي    السفير المناور يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تعيينه سفيرًا لدى المكسيك    الكشافة يقدمون خدماتهم لزوار المسجد النبوي    إطلاق 16 كائنًا فطريًا في محميات العلا    تحقيق أممي: الاحتلال يرتكب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين    وفاة الأميرة نورة بنت بندر آل سعود    أمانة القصيم تُعلن جاهزيتها لانطلاق مبادرة "بسطة خير السعودية"    قطاع ومستشفى بلّحمر يُنفّذ حملة "صُم بصحة"    محافظ الطائف يناقش تقرير لجنة الأسواق الشعبية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيس المحكمة الجزائية بجدة    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع لجنة الحج المركزية    عَلَم التوحيد    العلا.. تضاريس ساحرة ونخل باسق    المشي في رمضان.. رياضة وصحة    نصائح لمرضى الكلى في رمضان.. يجب الالتزام بأساليب التغذية السليمة    خناقة بمسجد!    مباحثات جدة الإيجابية "اختراق كبير" في الأزمة الروسية الأوكرانية    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب منتصر الزيات :"أيمن الظواهري كما عرفته" . الحركة الإسلامية لن تنتهي ولكن عليها مراجعة الأخطاء وتجاوز الخطاب السياسي للظواهري وبن لادن الحلقة الثامنة والأخيرة
نشر في الحياة يوم 17 - 01 - 2002

عرض منتصر الزيات في الحلقة السابقة لثلاث وقائع كان لزعيم جماعة "الجهاد" الدكتور أيمن الظواهري علاقة بها، الأولى إعدام نجل أحد قادة التنظيم بعدما تمكنت الاستخبارات المصرية من تجنيده، والثانية تتعلق باستدراج "الجماعة" واحداً من عناصرها الى باكستان حيث تمت تصفيته جسدياً، والثالثة تهديد الظواهري بالاستقالة من إمارة الجماعة بعد ما تعرض لانتقادات من جانب بعض أعوانه نتيجة تحالفه مع اسامة بن لادن. وفي حلقة اليوم وهي الأخيرة من كتابه "أيمن الظواهري كما عرفته" يحدد الزيات رؤيته لمستقبل الحركات الإسلامية في ضوء أخطاء الظواهري وسياساته التي أوصلت الإسلاميين الى المأزق الذي يعانون منه الآن.
لا يختلف اثنان من أبناء الحركة الإسلامية عموماً وفي مصر خصوصاً على أن سياسات الدكتور أيمن الظواهري ومحصلة نشاطه في السنوات الماضية أفضت إلى أكبر أزمة تعانيها الجماعات الإسلامية بمختلف مسمياتها وفي الدول التي ينتمي إليها اعضاؤها. وكانت الهجمات التي نفذت في نيويورك وواشنطن في شهر أيلول سبتمبر 2001 بداية لمرحلة جديدة يتعين على الإسلاميين أن يعوا تحدياتها جيداً ليصيغوا مستقبلهم بالطريقة التي يمكن أن تحقق أهدافهم وليس بالطرق التي سيحددها لهم غيرهم، وعلى رأسهم الأميركيون الذين باتوا لا يخفون عزمهم على استئصال كل من ينتمي الى جماعة إسلامية حتى لو لم تكن لها علاقة بتنظيم "القاعدة" أو أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري. وبمقدار ما أحدثته هذه التفجيرات من جدل على صحة أسانيدها الشرعية فضلاً عن دلالتها السياسية، فإنها أيضاً أثارت تساؤلات مهمة عن المشروع الاسلامي الذي نادت به تلك الحركات خصوصاً في وجود عدد غير قليل من الاسلاميين المصريين ممن ينتمون إلى جماعة "الجهاد"، عملوا في تنظيم "القاعدة" وتبوأوا مراكز قيادية فيه، فتحت تلك الأحداث وما ارتبط بها من خطاب إعلامي طوال الفترة الأولى من الحرب ضد أفغانستان والذي ظهر عبر كلمات بن لادن والظواهري وأبو غيث الباب واسعاً حول الحديث عن مستقبل الجماعات الإسلامية ومدى قدرتها على مواجهة التحديات التي فرضتها عليها الحرب والاستنفار الغربي والأوربي ضد كل ما هو إسلامي ومطاردة عناصر ورموز الحركات الإسلامية في دول العالم وتنشيط العولمة الأمنية وتعزيز العلاقات مع الدول العربية والإسلامية لمحاصرة التيار الإسلامي عموما وتجفيف منابعه وموارده الفكرية والمادية والمعنوية وحصر المشروع الإسلامي ضمن اطار الاطروحات التي قدمها تنظيم "القاعدة" وزعماؤه وبالتالي الربط المغرض بين الإسلام كدين وبين العنف.
ولا شك أن الولايات المتحدة أفزعها تبني بن لادن والظواهري خطاباً إعلامياً متوازناً عربياً وإسلامياً لاقى استحساناً شعبياً واسعاً لم يكن من السهل إخفاؤه خصوصاً ما تعلق بقضية فلسطين، باعتبارها تأتي على رأس القضايا التي تلقى تعنتاً أميركياً وصلفاً وغروراً صهيونياً، وهي قضية تشهد تفاعلاً شعبياً واسع النطاق في كل الدول العربية والمجتمعات الإسلامية، وأقر وأعترف بأن ما أثاره الظواهري في رسالته إلى الشعب الأميركي وحديثه عن الظلم الواقع على العرب والمسلمين نتيجة السياسات التي تنتهجها الإدارة الأميركية في حق الشعوب العربية والإسلامية، حقق قدراً غير قليل من القبول في الأوساط الشعبية، خصوصاً أنه ضرب أمثلة تتعلق بقصف العراق وإبادة شعبه وتدمير قدراته الأساسية وتعريض حياة آلاف الأطفال للخطر والتآمر ضد وحدة أراضي السودان بدعم جون قرنق ومحاولة أميركا السيطرة على الصومال. وأعترف أيضاً بأن كلمات الظواهري وبن لادن أدركت الحقيقة حين تناولت قضايا مصيرية ودعوات استنهاض الأمة كي تقوم من سباتها وتستجمع قوتها وتستلهم أسباب النصر بأن تستحضر هويتها وتواصل مسيرة حضارة إسلامية سبقت الحضارات الأخرى بحقب طويلة. كما أن الإنصاف يقضي ألاّ نتجاوز قدر هذه القضايا والعناية بها أو أن نهرب من مقتضياتها بمبررات واهية حول عدم صدقية الظواهري وبن لادن فيما طرحاه. فهي قضايا تمس ضمير كل عربي ومسلم، والعجز الذي يحيط بأمة متجذرة حضارياً يبلغ قوامها حوالى بليون نسمة يسبب حالة من الامتهان للمواطن العربي الغيور. فعلى هذا ينبغي أن تبقى قضية فلسطين في صدارة أولويات الحركة الإسلامية بمعناها الواسع فكرياً وعقائدياً وضرورة مواصلة البحث عن الوسائل الناجعة لجمع الصف العربي والإسلامي والقدرة على تحرير الأراضي المحتلة بما تحتاجه من توظيف للقدرات والطاقات بشكل أكبر من الصياح الدعائي وصولاً إلى تحول العرب إلى قوة تستطيع أن تفرض حلولاً تعيد حقوقها.
لكن الحاجة ماسة أيضاً إلى تجاوز الخطاب الإعلامي لتنظيم "القاعدة" وتخطي الوسائل التي اتبعها بن لادن والظواهري والتي انحصرت في مجرد إلحاق الضرر بأهداف أميركية بعمليات على نحو ما وقع في نيروبي ودار السلام عام 9819 أو تفجير المدمرة "كول" في اليمن، وأخيراً الهجمات في نيويورك وواشنطن، واعتبار أن عاصفة الطائرات هي النموذج المطروح لحل قضايا عميقة في الصراع بين الحضارات الشرقية والغربية، أو بمعنى أكثر وضوحاً بين الحضارة الإسلامية والحضارة الصليبية العنصرية، وإنما يلزم الارتفاع بالمشروع الإسلامي إلى مستوى أشمل من شن غارات موقوتة أو تدبير تفجيرات متفرقة يختلف الناس من حولها بين مؤيد أو معارض. ونحتاج، ونحن نعد لجولات مقبلة قد تطول، إلى مواقف ثابتة وسياسات متوازنة وأسانيد محكمة قطعية الدلالة وجبهة واسعة ممتدة عبر الحدود المصنوعة بين الشعوب الإسلامية من دون أن نخسر أي كتلة أو هيئة أو أفراد ممن يملكون طموحاً حقيقياً غير مزيف في تحقيق النصر على أعداء الإسلام بحيث نقبل من كل منهم حسب طاقته. فالشعوب العربية معطاءة في هذا المضمار.
لقد تعرضت الحركة الإسلامية لمحن متعددة على مدى حقب تاريخية متفاوتة واصطدمت بحكومات وحكام فى عصور سياسية مختلفة، وكانت رموزها ومصادر إشعاعها دائماً عرضة للملاحقات والتدابير الأمنية، كما عانت أيضاً في فترات أخرى من جمود بعض أبنائها وغلبة التقليد والمحاكاة وتراجع دور الاجتهاد كمصدر مهم من مصادر المعرفة ومركز للإشعاع الفكري لكنها في كل جولة من هذه الجولات كانت تخرج منتصرة في مواجهاتها ضد الاستبداد والقهر وقمع الأفكار واستئصال العقيدة. كما كانت تخرج متجددة ومجددة دمائها وزعاماتها فى معارك الجمود والضعف والتشرذم.
وحتى في الفترات التي شهدت تراجعاً ملحوظاً للدولة الإسلامية وضعف الخلافة في ظل الدولة العثمانية كانت هناك دائماً رموز إسلامية فاعلة تقود حركة الجماهير في إطار المحافظة على التراث الديني ومقاومة الاحتلال الأجنبي وبث تعاليم الإسلام التي تدعو دائماً إلى مقاومة الاستعمار وجهاده. وفجر احتلال بونابرت لمصر عام 1798 طاقات شعبية هائلة في التصدي لمحاولات نابليون التأثير على هوية الشعب المصري الإسلامية بإيجاد خليط من المبادئ والقيم الفرنسية محاولا مزجها مع التقاليد الإسلامية والمصرية. وجاءت في هذا الإطار مزاعم رددها بونابرت عن نصرة الفرنسيين للشعب المصري ضد استبداد المماليك وإشهار قادة آخرين من حملته لإسلامهم مثل مينو. للأسف حاول بعض مسؤولي الثقافة في دوائر السلطة في مصر وسايرهم بعض الموظفين من الكتاب والمؤرخين الاحتفال باليوبيل الذهبي للحملة الفرنسية على مصر زاعمين أنها حملت مشاعل الفكر والثقافة والتنوير. لكن هذه المحاولات لم تنطل على شيوخ الأزهر في سالف عهده مثل حاكم الإسكندرية محمد كريم، وعلى رغم إعدامه فقد حمل الراية بعده وقاد ثورة القاهرة الثانية نقيب الأشراف عمر مكرم والشيخ السادات والقويسني ورئيس الديوان عبدالله الشرقاوي الذين قادوا الجماهير لمقاومة الحملة الفرنسية وإعلاء تعاليم الإسلام وفريضة الجهاد ضد المستعمر. وحتى داخل الخلافة الإسلامية في الدولة "المريضة" كانت هناك مشاعل نور حملوا الراية الإسلامية وتحركوا من داخل إطار الدولة لحمايتها من الانهيار وكانت محاولات إقامة "الجامعة الإسلامية" التي دعمها السلطان عبدالحميد.
وإذا كانت ثمة انتقادات يثيرها البعض على مرجعية جمال الدين الأفغاني أو خلفيته الفكرية إلا أن دوره في تحريك الصحوة الإسلامية فى وقت كانت المعاول تتوالى قاصدة هدم الخلافة الإسلامية وطمس معالمها وتميز الأفغاني بمواهب مختلفة. ففضلاً عن إلمامه بالعلوم الشرعية إلا أنه أحاط بعلوم السياسة والاجتماع والفلسفة. ولا ينبغي إغفال المؤثرات الإقليمية عن بعض الآراء أو الأفكار التى يتبناها إصلاحيون إسلاميون في فترات زمنية مختلفة. فإذا انتقد البعض اهتمامات الأفغاني بالحضارة الغربية، خصوصاً فى مجال الإبداع الذهني فقد غالوا في إبعاده عن منابعه الإسلامية الأصيلة وجذوره التراثية العميقة.
وأدى أيضاً محمد رشيد رضا صاحب "المنار" دوراً ملموساً في تحصين الشخصية الإسلامية بمبادئ السلف الصالح وعارض بقوة محاولات تغريب القوانين في مصر وإبعاد أحكام الشريعة الإسلامية عن نطاق التشريع القانوني. وكان رضا شارك في الاحتجاجات التي انطلقت ضد محاولات هدم الخلافة وتفكيكها وصار كتابه "الخلافة أو الإمامة العليا" مرجعاً مهماً للباحثين في مجال عصرنه الدولة الإسلامية. وقدم إسهامات كثيرة فى مجال التأكيد على المفاهيم الإسلامية مع مواكبة العصر خصوصاً في مجال استحداث مسميات للوسائل الإسلامية ذاتها.
كانت مصر دائماً مركز انطلاق لمحاولات الإحياء الإسلامي فكان حسن البنا مجدداً باعثاً لمشروع الإحياء الإسلامي على رأس القرن العشرين. استطاع أن يقدم مشروعاً عصرياً لرؤية إسلامية عميقة بعد تداعيات سقوط الخلافة، وطمس مصطفى كمال أتاتورك لكل معالمها. وكان البنا تأثر بشكل كبير بكتابات محمد رشيد رضا فى "المنار"، وأصبح شعلة نور في فترة حالكة السواد ساءت فيها المذاهب والمدارس العلمانية التي استطاعت غزو العقل المصري واستطاع أن يفرض مشروعه الإسلامي ويتوغل فى جذر المجتمع المصري في بساطة متناهية وفي فترة زمنية وجيزة. وانتقل من الإسماعيلية حيث كان يعمل مدرساً ابتدائياً إلى القاهرة حيث أسس المركز الرئيسي لجماعة الإخوان المسلمين.
وكان سيد قطب حلقة متصلة في طريق المد الإسلامي الجهادى فى وجه محاولات العلمنة والتغريب. وعلى رغم أن عبدالناصر استطاع عبر تدابير وإجراءات استبدادية تقييد حركة التيار الإسلامي وأضعف قدرتها على الانطلاق واستطاع أيضا عبر إصدار قانون أسماه "تطوير" الأزهر أن يجعل أداء الأزهر هامشياً فى الحياة السياسية وجعل اختيار شيخه بالتعيين وألغى طريقة انتخابه التي كانت تحقق له استقلالية عن السلطة إضافة إلى إلغاء مخصصات شيخ الأزهر من "الأوقاف" وجعلها "راتباً" من الدولة. فكان هذا القانون في مجمله تخريباً للأزهر ولنظامه الأساسي ولدوره في بث تعاليم الثورة ضد الاستبداد السياسي وطمس الهوية الإسلامية لمصر. وجاءت نكسة حزيران يونيو 6719 لتكسر طوق الاستبداد السياسي وتفتح ثغرة يتنفس من خلالها شباب أصبح يترقب طريقاً للخلاص وأيضاً للهوية، وعلى رغم أن الاستبداد الناصري سبب انقطاعاً في التواصل بين أجيال المعرفة الإسلامية ورواد محاولات الإحياء الإسلامي فقد جاء أيمن الظواهري ليقود أول خلية سرية عام 6196 تعمل على تطبيق تعاليم الإسلام بالقوة. وجاء على إثره كارم الأناضولي عام 1974. وأفرزت الحركة الإسلامية الجهادية بعدها عشرات بل مئات وربما آلاف من المجاهدين الذين اسهموا في صياغة الفكر الإسلامي الجهادي.
جاء السادات ومعه هامش مناسب من الحريات العامة سمحت بخروج "الإخوان" من السجون وظهور قيادات إسلامية حملت مشعل الصحوة الإسلامية فكانت "الجماعات الإسلامية المعاصرة". وبعد سنوات المصالحة والمواءمة بين السادات وأصحاب المشروع الإسلامي جاءت سنوات التصادم بينهما فكان اغتيال السادات في 6 تشرين الأول اكتوبر 1981 على يد خالد الإسلامبولي وإخوانه عبدالحميد عبدالسلام وحسين عباس وعطا طايل حميدة. وكان محمد عبدالسلام فرج رائداً ومنظراً فكرياً لإحياء "الفريضة الغائبة". وعادت "الجماعات الإسلامية" بعد السادات أكثر قوة وقدرة على التواصل مع الشعب المصري ووجدت في الجامعات والنقابات والأندية والأحياء الشعبية. وأصبح شعار "الإسلام هو الحل" علامة مميزة لمرحلة قويت فيها شوكة التيار الإسلامي قبل أن يكون شعاراً انتخابياً لفصيل معين من فصائله.
إن قراءة سريعة للتاريخ تكشف بجلاء عن فشل وإجهاض كل محاولات "استئصال" الجماعات الإسلامية "وتفكيك" التيار الإسلامي مهما كانت قسوة الإجراءات وعنف التدابير الأمنية. كما أن النظرة إلى المستقبل ينبغي أن تعنى جيداً بضرورة التواصل مع "الجماعات الإسلامية" كعنصر مهم من عناصر الحركة الوطنية بدلاً من التصادم معها ومحاولة استئصالها.
إن مستقبل الجماعات الإسلامية مرتهن من جهة بضرورة إفساح المجال واسعاً أمام محاولات "المراجعة" التي تقوم بها قيادات مؤثرة فى أوساطها. ويهمني في هذا المقام أن أؤكد على مقولة رددتها قبل ذلك بمناسبة إطلاق المبادرة السلمية للجماعة الإسلامية نعم "للمراجعات" ولا "للتراجعات"، تثبت المتفق عليه عند الجمهور من أهل السنة والجماعة وتنفي المختلف عليه، أو هو كما يرى معه البعض ضرورة التمييز بين المفهوم الضيق للشريعة والمفهوم الواسع الذي يشمل الفقه بجميع مذاهبه واجتهاداته ما توصل إلى السلف منها وما يتوصل إليه الخلف أيضاً في كل العصور. وينبغي ألا يحمّل كلامنا عن ضرورة اشتباك قوى المجتمع ونخبه الفكرية مع هذا التوجه أكثر مما يحتمل، فإن اعتزازنا بمشروعنا الإسلامي لا يحتمل أن يزايد عليه أحد وتمسكنا به هو خيار عقائدي ديني، فضلاً عن كونه هوية ونظرية سياسية. ولكننا أيضاً لا نرى احتكار الحديث باسم الإسلام وأحكامه إنما هو حق كل من ارتضاه دينا وعمل بمقتضياته من دون أن ينضوي تحت لواء جماعة بعينها. فالقانون الذي ارتضاه المجتمع المصري هو الإسلام وهو أمر لا يقبل التفاوض أو التنازل أو التفريط أو الخروج على المعلوم منه بالضرورة. ورضا المجتمع الذي أتحدث عنه هو أقوى من القوانين الموضوعة أو التشريعات المسنونة، هو ميراث استقبلناه جيلا من بعد جيل بالقبول والرضى. لكننا شريحة من تلك الشرائح التي ارتضته واستقبلته. وفي هذا الإطار يلزم أن نفقه بعناية "أدب الاختلاف".
إن الضجة المفتعلة حول صراع الحضارات تم نسج خيوطها وتسربت أخبارها من داخل دوائر غربية، ولم نكن نحن في الشرق من آثار هذه النعرة. لقد كتب ريتشارد نيكسون في كتابه "الفرصة سانحة"، محذرا من العدو الأساسي للغرب الذي يعني به الإسلام، وورد التحذير ذاته في تصريحات للأمين العام الأسبق ل"الناتو"، ولذلك لم يكن سهلاً قبول التفسير الذي أورده البيت الأبيض بشأن عبارة صدرت من الرئيس الابن جورج بوش قبيل القصف الأميركي لأفغانستان بأنها زلة لسان، وكشفت عن مخبوء نفسه من أنه يعد ل"حملة صليبية"، وفي السياق ذاته جاءت تصريحات رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلوسكوني.
إننا نملك تراثاً طويلاً من التسامح إزاء الأقليات التي تعيش بيننا وأصحاب العقائد المخالفة للعقيدة الإسلامية، لكننا لا نقبل مطلقاً أن نفرط بثوابتنا تحت منزلق تلفيقات فكرية عقلية لا تستند إلى نص صحيح.
وأعتقد أن الاخوة من قادة الحركات الاسلامية المقيمين في دول أوروبية عليهم أن يضطلعوا بالدور الرئيسي في دراسة المتغيرات الحالية ورصد الاخطاء التي أوصلت الى ما نحن فيه والعمل على استشراق المستقبل وصياغة كتلة إسلامية مستقبلية تحل محل الجماعات المتفرقة تتولى العمل على حماية هوية الامة التي تواجه الآن حملة صليبية شرسة. ومهما كانت قوة الجماعات الموجودة على الساحة وتأثيرها، فإنها منفردة لن تستطيع مقاومة التيار الجارف والهجمة الشرسة، وسيكون انصهار الجماعات الاسلامية في كيان واحد مفيد لها وللامة الإسلامية. والحقيقة أنني عرضت ذلك الأمر على أكثر من أخ من الاخوة المقيمين في أوروبا فاتفقوا معي في الرأي، لكن غالبيتهم فضلوا الانتظار بعض الوقت حتى لا تفسر جهودهم على أنها ضرب في الظواهري أو بن لادن أو تصفية للحسابات معهما.
والحق الذي لا مرية فيه هو أن الهزيمة - كحالة واقعية قد تصيب المجتمع المسلم كما تصيب غيره وفق نواميس الكون التي قدرها الخالق سبحانه لتسود بين البشر - لها احكامها الشرعية كما أن لها قواعدها الحياتية التي اصطلح عليها العرف الانساني منذ قديم الأزل والمسلم بصفته الانسانية اذا تخلى عن الأسباب التي تكفل له التميز عن غيره من البشر بمذاهبهم وأيديولوجياتهم الوضعية وتضمن له من ثم التفوق كان في شأنه ما يمكن أن يكون مع غيره وفق موازين القوة المادية. تلك الحقيقة عبّر عنها بوضوح أحد أعظم قادة المسلمين في أيام عزهم الأول وهو يوصي جنده قبيل إحدى المعارك "إنكم اذا استويتم مع عدوكم في المعاصي والذنوب تفوّق عليكم بالعدة والعتاد".
وحينما تحدث الهزّة في المجتمع المسلم تؤدي الى الهزيمة وما يتبعها من آثار قاسية، إما ان تقعد به ويتقهقر بها بعيداً في نهاية الركب ومؤخرة الحضارات، وإما أن يعمل على تفاديها ومواصلة الجهاد بتفادي المحطات التي تسببت في حالة الهزيمة واحدثت العثرة.
ولقد عرف النموذج الأمثل للدولة الاسلامية في أيام قائدها الاول تطبيقاً واقعياً لهذه النواميس الكونية. فعندما خالف الجند أوامر قائدهم في غزوة أُحد كانت الهزيمة بما فيها من آثار مدمرة كادت تعصف بالكيان الاسلامي كله من قتل لخيرة الجند والقادة وذيوع الاشاعات بأن محمداً قد قُتل، وطاشت الاتهامات وتبودلت حول أسباب الهزيمة.
وتكرر الموقف مرة اخرى في غزوة حنين، حينما ظنت الآلاف التي خرجت في الجيش المسلم ان النصر حليفها وقالوا لن نهزم اليوم من قلة فكانت الهزيمة لأن المعنى الذي أراد الله سبحانه أن يعلمه للمسلمين في كل زمان ومكان هو أن النصر ليس بالعتاد والعدد فقط في الحروب العقائدية، وانما هو يتحقق بمقدار اتصال القلوب بمنهج الله أولاً ثم التماس الأسباب المادية في إعداد العدة.
ولعل أهم سمة يتميز بها المجتمع الاسلامي في حال الهزيمة هي استعلاؤه بإيمانه وثقته بنصر الله وشدة يقينه في رفعة منهج الله وبراءته مما قد يلحق بالمسلمين من هزيمة مصداقاً لقول الله تعالى "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم".
إن الهزيمة كحالة واقعية مادية حينما تعرض بالصف الاسلامي لا ينبغي الاستسلام لها والنكوص عن المنهج عياذاً بالله لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةً على المؤمنين أعزةً على الكافرين". بل توجه الطاقات كلها والعزائم من أجل النهوض من العثرة والخروج سريعاً من حال الهزيمة واعتماد سبل أخرى واستراتيجيات غير التي أدت الى الهزيمة للنهوض ومواصلة السير لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً الى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير".
وكما اجاز علماء الاصول تغير الفتوى بتغير الواقع واختلاف البيئة والزمان وأجازوا السير بسير الأضعف في بعض الأحيان، فإن اسلوب الكتيبة المسلمة في مواجهة الواقع الذي تعيشه يتغير بتغير الظروف من دون أن يعني ذلك التنازل عن الدين كمنهج حياة وثوابته العقائدية وهو ما اصطلح عليه بعدم إنكار معلوم من الدين بالضرورة، فحال الاستضعاف ايضاً لها ملامحها الخاصة التي تفرض احكاماً أخرى على النحو الذي تعامل به النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فهناك بون واضح بين حركته في مكة قبل الهجرة وحركته بعدها، وبون شاسع ايضاً بين حركته قبل فتح مكة وقبوله صلح الحديبية وبعدما منّ الله عليه بفتحها. أو حين قبِل محمد كقائد وزعيم شروط الحديبية لم يرض الدنية في دينه، لكنها حال يتحتم على الصف المسلم ان يحسن التعامل معها والمرور منها بأقل الخسارات والتكاليف "واتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب".
إن الهزيمة على النحو الذي اسلفنا قد تكون حالاً زمنية موقتة لا يلبث المجتمع المسلم ان يتجاوزها ويسعى سعياً حثيثاً الى تحصيل اسباب النصر فينهيها بكسب الموقعة التي تليها، وهنا تكون الهزيمة حالاً صحية ودليلاً على حيوية المجتمع المسلم وقدرته على التفاعل وتخطي أزماته وتنقية صفوفه من معوقات النصر. ولكنها في فروض أخرى تطول وتستحيل حالاً معنوية تكثر فيها الاسباب المعطلة وترتفع فيها الاصوات المثبطة وتتقدم زعامات غير مؤهلة وتتبعثر القدرات والطاقات فتضحي غير مؤثرة ويعجب كل ذي رأي برأيه فتضحي الهزيمة حالاً مرضية وأهم ملامحها:
1- البعد عن منهج الله وتحكيم شرعه في ما شجر بين أفراده من نزاعات: لقد حدد الله سبحانه الاصول المرعية في ضرورة التحاكم إليه والى رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يعرض للكتيبة المسلمة ويثور بين افرادها من أزمات واختلافات لقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم"، ولقوله تعالى "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، وقوله صلى الله عليه وسلم "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي".
2- إعجاب كل ذي رأي برأيه: اذا ضعف الوازع الديني فلا شك أن الذي يترتب على ذلك بالتالي هو تواتر الإحساس بالمراقبة لقوله سبحانه "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت"، وقديماً قال أحد السلف: "إياك أن يكون الله أهون الناظرين إليك".
فإذا ضعف الشعور بالمراقبة فالنتيجة المنطقية هي عدم السعي الى تحكيم شرعه في المعاملات وطريقة الخروج من المحن وفض المنازعات الفقهية والفكرية بين أنصار الفكرة الاسلامية وتعاظم الرأي البشري واعتزاز كل صاحب رأي برأيه وانتصاره له وعدم التحلي بأدب الاختلاف. كل ذلك يكون على حساب وحدة الصف كأهم سبب للنصر وباعثاً على تفجير الطاقات الكامنة والقدرة على قبول التحدي مع الحضارات الأخرى المتنافسة.
3- التباغض والتدابر: لعل الحكمة التي أراد الله أن يجعلها في متناول الاجيال المتعاقبة من الأمة الاسلامية في كل عصر ومصر من هجرة النبي محمد إلى مكة وسعيه الى تأسيس الدولة الاسلامية هي أن اللبنة الأولى التي وضعها في طريق بناء هذه الدولة الشامخة القوية هي الحب في الله والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. فأوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله فمن اعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان. وهذه الدعامة اللازمة لكل جماعة تسعى الى تحكيم شرع الله في الأرض، فإذا هم يبدلون نعمة الله كفراً. فالذين يقدرون على تحقيق النصر هم قوم أتى الله بهم صفتهم الاولى "يحبهم ويحبونه" فالحب شعارهم، فذاك سلاح ماض وفعال في تحقيق النصر لن تستطيع أية جماعة ان تتحصل عليه من معسكر شرقي أو غربي: "لو أنفقت ما في الارض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم". كما أن الذين يقدرون على تحقيق النصر يتميزون بكونهم "أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين"، إن شيوع الغيبة والنميمة بين جنود الصحوة الاسلامية المعاصرة هو من أهم أسباب تعثرها وعجزها عن بلوغ مآربها.
4- تعددية الجماعات واختلاف الرؤى: يقول بعض مشايخنا إن تعددية الجماعات وكثرتها ظاهرة صحية تدل على حيوية الصحوة الاسلامية، وضرب لذلك مثلاً بالبناء الشاهق متعدد الطوابق والنوافذ ليس له غير باب واحد، فهذا هو الاسلام العظيم الشاهق، وهذه هي الجماعات والجمعيات والمنتديات الاسلامية.
قد يكون مثل هذا التصور صحيحاً لو كانت التعددية باعثة على تسخير الطاقات والامكانات وقادرة على بلوغ الاستفادة بالرأي الأرجح وتوافر ما يمكن ان يعبر عنه بأدب الاختلاف ويكون الرأي صواباً يحتمل الخطأ على النحو الذي سلف في أيام عز الاسلام وصحوته. اما اذا كانت التعددية سبباً للفرقة وتنابذ الآراء وتبادل الاتهامات وزعم كل هيئة او حركة احتكارها حق الحديث باسم الاسلام او التيارالاسلامي عمومه، فهنا تكمن علة الداء ويكون في كثرة مثل هذه الحركات تكريس لواقع مُرّ كالعلقم، إذ تعجز عن التواصل في ما بينها والتعاون على البر والتقوى وتوجيه قدراتها لما فيه خير البلاد والعباد.
5- تفشي الذنوب وشيوع الخطايا: قدمنا ما حملته الينا كتب السير والتراجم من قولة شامخة لقائد مسلم عظيم وهو يوصي اجناده: عليكم بتقوى الله فإنكم اذا استويتم مع عدوكم في الذنوب تفوّق عليكم بالعدة والعتاد". إن الحركة الاسلامية مطالبة اليوم وهي تبحث عن أسباب هزيمتها وطول نكستها أن تتوب الى الله من الذنوب والمعاصي قادة واجناداً فرادى، وجماعات، فالذنب قد يقترفه الفرد فتتعطل به مسيرة الأمة، ولا ينبغي التهوين من هذا السبب كمعطل للأمة ومعرقل لها عن بلوغ النصر فإيانا وتحقير الذنوب وقديما قال الشاعر: "خلِ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى/ لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصي".
ومما ذكرته الروايات عن مناقب السلطان المسلم قطز أنه لما أراد تجميع الأمة لمواجهة التتار استنقذ العالم المجاهد العز بن عبدالسلام وطلب منه تعبئة جهود وطاقات الرعية من أجل إعلان الجهاد. ولكن الشيخ العلامة بن عبدالسلام لم يتفاعل مع الرغبات والأماني العاطفية فقط، وإنما طلب من القائد قطز أن يتوجه على رأس حملة الى الشوارع والطرقات التي اشتهرت فيها محلات الخمر وبيوتات الرذيلة لتحطيم قوارير الخمر وغلق بيوت الدعارة.
إن العز بن عبدالسلام يريد أن يقول قولته ويدلي بشهادته لتبقى خالدة حتى تقوم الساعة: إن الجماعة التي ترفع راية التوحيد وتزعم ريادتها في معاركها عليها أولاً أن تستحضر أسباب النصر حتى يتحقق لها فليس بأمانيكم، إن الله لم يعط وعوداً بالنصر والتمكين لكل من يزعم الايمان أو يرفع شعار الاسلام، فللنصر شروطه وللتمكين ضوابطه: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم".
6- الجمود والتقليد والمحاكاة وتعطيل الاجتهاد: إن أهم ما يميز الاسلام عن غيره من الشرائع هو اتصافه بالتجريد والعمومية، إذ جعله الله صالحاً لكل زمان بما حواه القرآن من مبادئ عامة تستطيع الأمة أن تستلهم معانيها وبيان العلة فيها من أسباب النزول ومما تقدمه السُنة كمصدر مهم من مصادر التشريع من تفسير للآيات والأحكام القرآنية، غير أن أشد ما يمكن ان يُبتلى به جيل مهزوم هو أن يقعد عن متابعة التطور الحاصل من حوله في العلوم الحديثة ووسائل التقنية الحديثة وتحت شعار الاتباع تتعطل فرضية الاجتهاد وفق الضوابط والأطر التي ارتضاها المشرع الإلهي سبحانه، ورخص فيها للأمة أن تفجر طاقاتها وتعطي الفرصة لكفاءاتها عبر هذا الرافد المهم من روافد التشريع الاسلامي فتكون السمة الغالبة لكل جيل مهزوم عاجز عن مراجعة أسباب الهزيمة غير مدرك لمغزاها التقليد والمحاكاة والتمسك بوجه وحيد في تأويل النصوص قد يتغير مناطه فيستحيل مرجوحاً بفعل تغير الواقع، وتشيع في مثل هذا المجتمع فتاوى مهزومة تبعث على الانعزال وترفض التواصل مع العلوم الانسانية النافعة للبشرية ويدعو بعضها الى تحريم التعليم، ويفتي بعضها الآخر بحرمة العمل في الوظائف الحكومية، وغير ذلك مما عمت به البلوى. فتعد غاية اهتمامات البعض من ابناء هذا الجيل المهزوم مثل هذه القضايا الفرعية على حساب القضايا الاستراتيجية والمصيرية وصدق الشاعر: "كل في لهيب القول عنترة/ وكل في لهيب الفعل كالوتد".
في مثل هذه الاجواء المحبطة التي تعكس مرارة الهزيمة يغلب التقويم الظاهري للمواقف والأحداث وتسود الشعارات من دون تقديم البدائل المنتجة وتغيب الدلالات التي يمكن استنباطها من معالجة التاريخ الاسلامي لمثلها وما يشابهها من وقائع فلقد حملت كتب السيرة ما لحق بالجيش المسلم في غزوة مؤتة من هزة نتجت عن مقتل قائديه الثلاثة الذين كلفهم النبي محمد بقيادة الجيش، ومع غياب النص تقدم خالد بن الوليد لحمل اللواء ونظم صفوف جيشه واتخذ قراره الحاسم بالانسحاب ولم يأبه لدعاوى ارتفعت ضده تتهمه بالتخاذل هاتفة في وجهه "الفرار"، غير أن التوجيه النبوي جاء حاسماً بقوله "بل هم الكرّار إن شاء الله".
إن المخلصين في الحركة الاسلامية معنيون اليوم قبل غد بإصلاح خلل كبير ربما سببّه تسلط البعض من ابنائها على خطابها السياسي والاعلامي واحتكار الحديث باسمها فانحرفوا بها بعيداً عن جادة الطريق، ومعنيون أكثر بفك الاشتباك بين القضايا الحقيقية والأخرى المفتعلة وصولاً الى نقطة انطلاق حقيقية تتضافر فيها معانٍ أصيلة ضمنتها التعاليم الاسلامية وهموم الأمة وحاجتها الى مواكبة ركب الحضارة وفق نسق إسلامي رفيع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.