نعيش اليوم حالة أزمة في المجتمعات والأقطار العربية. هذه الأزمة تتصاعد وتركد، تشتد وتخفت، لكن صفتها الأهم ديمومتها. في حال الركود نعيش الأزمة حياة عادية، كل بمفرده في غفلةٍ عن حياته، ركضاً وراء العيش أو الثراء أو المركز الاجتماعي. فقط عند احتدام الأزمة وتحولها الى حالة غير عادية تصبح الأزمة في اختبار جماعي يجمعنا لمجابهة وضع راهن يتوجب اصلاحه. في هذا المنظور، تظهر الأزمات الاجتماعية بكونها أسلوب التاريخ في تغيير الواقع. تنعكس الأزمة عند احتدامها في وعي الطبقة المثقفة والمسيّسة وتعبر عن نفسها على مستويين: على مستوى خطاب تحليلي نقدي وعلى مستوى حركات اجتماعية جديدة. لا يمكن تجاوز هذه الأزمة وتحقيق التغيير الحقيقي الذي يتيحه التاريخ داخل المجتمع الا بالتقاء المستويين. فمجرد النقد النظري وما ندعوه بالحركات الاجتماعية الاتحادات، والجمعيات، والنقابات، والأحزاب وقوى المجتمع المدني كافة عاجزان كل بمفرده عن تفعيل عملية التغيير في بنية الواقع. فقط عندما يتجسد خطاب النقد الحضاري بنشاطات الحركات الاجتماعية وفي أهدافها وممارساتها يصبح تجاوز الأزمة واعادة بناء الصرح الاجتماعي مشروعاً سياسياً فعلياً. حتى زمنٍ قريب شكلت الأزمات الحادة مفجر التغيير الثوري. أما اليوم فهي مفجر لاثوري لإمكانية تحقيق ترتيبات اجتماعية جديدة يتبلور مضمونها في الخطاب النقدي العلماني داخل العالم العربي وفي المهاجر العربية ويتركز حول ثلاثة محاور رئيسة: الحداثة والديموقراطية والمرأة، التي تلخص عملية التغيير الحضاري اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. أريد هنا التوقف لحظة عند دور المرأة الاستراتيجي في عملية التغيير. ان المرأة العربية في المجتمع الأبوي، تمثل بغض النظر عن طبقتها الاجتماعية، حال القمع والاستغلال والحرمان التي يعانيها المجتمع ككل. لذا اذا كان لهذا المجتمع ان يتحرر بالفعل، لا بد من وضع تحرير المرأة على رأس أولويات عملية التغيير سياسياً وتنظيمياً، في برامج نشاطات الحركات الاجتماعية كافة. إني بالتشديد على صفة العلمانية، في خطابنا النقدي لا أرمي الى تعميق فجوة الاختلاف بين التيار العلماني والتيار الديني بل الى الإصرار على عدم تجاهلها. ان التغاضي عن التناقضات بين الخطابين ومحاولة التسوية السطحية بين مواقفهما الفكرية والسياسية لا يفيد، بل يزيد من البلبلة والتضارب. العلاقة بينهما يجب ان تقوم على الصراحة والاحترام المتبادل اذا كان للطرفين ان يتعاونا في عملية التحرر والتغيير. في هذه المرحلة، مرحلة الصراع ضد الاستعمار الأميركي والهيمنة الاسرائيلية والنظام الأبوي، التكاتف الميداني والعملي بين التيارين، لا التسوية النظرية والايديولوجية، يشكل مطلباً مركزياً ملحاً في عملية التحرير. وبالمنطق ذاته، ان التركيز على المجتمع المدني ودور الحركات الاجتماعية، لا يعني تقليص دور الدولة القطرية أو منافستها في سلطتها وصلاحياتها، بل التأكيد على حق المواطن في المشاركة بعملية التغيير الاجتماعي. ليس أنجع لتحقيق نجاح عملية التغيير اللاثوري من اطلاق قوى المجتمع المدني المتمثلة بحركاته الاجتماعية الجديدة. هنا أيضاً الصراحة والاحترام المتبادل بين النظام والحركات الاجتماعية يشكلان شرطاً ضرورياً للتعاون في الحيّز الوطني العام. في نظام العولمة الذي تحاول الولاياتالمتحدة الهيمنة عليه، ان عجزنا عن ايجاد صيغ التعاون والعمل الجماعي لتحقيق الحداثة والديموقراطية وتحرير المرأة، فستتحكم بنا ارادات خارجية تفرض علينا ترتيبات اجتماعية واقتصادية وسياسة لا تمثل مصالحنا ولا تنسجم مع واقعنا ولا تعكس ارادتنا. ربما الضعف الأكبر في خطابنا العلماني يكمن في تناولنا اشكالية الحداثة. يمكن القول اننا لم نحرز الكثير من التقدم على موقف مفكري النهضة حيال موضوع الحداثة منذ أوائل القرن الماضي. كيف نفسر موقف التذبذب والتردد الذي ما زال يسود الخطاب العلماني حول هذا الموضوع؟ بل كيف نبرر التراجع عن بعض الأهداف المركزية التي رفعها رجال النهضة لتحديث المجتمع واصلاح مؤسساته؟ كيف نفسر صمتنا حيال المواقف الرجعية التي ترفض الحداثة والديموقراطية وتحرير المرأة؟ لكن ربما يكمن النقص الأخطر في الخطاب النقدي العلماني في موضوع آخر: موضوع تحرير المرأة. بعضكم يذكر المؤتمر الذي عُقد في القاهرة منذ سنتين للاحتفاء بمرور مئة سنة على صدور كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين، والذي أظهر لنا بوضوح محدودية تقدمنا على موقف قاسم أمين بعد مرور قرن من الزمن. ما زلنا نعالج قضية تحرير المرأة من زاوية ترفض ذكورية الاعتراف الحقيقي بمساواة المرأة، وتقوم على التهرب والتمويه وانعدام الجدية. هناك حتى بين الفئات التقدمية من يقول ان وضع المرأة العربية ليس بهذا السوء، وان هناك نصوصاً وشرائع في تراثنا وتقاليدنا تمنح المرأة حقوقاً وحماية لا تتمتع بها المرأة في المجتمعات المتقدمة. هذا موقفٌ يتجاهل واقعنا المخزي ويعزز استمراره. بالطبع، المرأة العربية بذكائها وقدرتها الفائقة على التعامل مع الواقع من خلال تفهمها للعقلية الرجالية الأبوية ومواطن ضعفها، تمكنت من المحافظة على كيانها والالتفاف حول أساليب الكبت والقمع الأبوية وتحقيق بعض الحريات، فاستطاعت التوصل في بعض الحالات الى مراكز تكافؤ مع الرجل في العائلة والمجتمع. لكن تحرير المرأة ليس مشروعاً فئوياً ولا يتم على صعيد الأفراد ما دام النظام الأبوي قائماً، فالمرأة تبقى محرومة من حقوقها الأساسية حتى لو نالت درجة الدكتوراه أو أصبحت وزيرة ثقافة. تحرير المرأة لا يتحقق إلا بتغيير النظام الأبوي وقيمه السائدة في المجتمع، وبالإدراك ان العنصر الأنثوي يشكل في كل مجتمع وكل ثقافة، كياناً انسانياً مستقلاً يلعب دوراً محورياً في عملية انتاج المجتمع واعادة انتاجه. فإذا انتقصت انسانية هذا العنصر وحريته، انتكس المجتمع بكامله وأصبح مريضاً مبتوراً. تحرير المرأة يعني تحرير طاقات روحية ومادية هائلة في المجتمع تعيد اليه صحته ومقدرته على التطور والنضوج. أما القول ان تحرير المجتمع يؤدي اوتوماتيكياً الى تحرير المرأة فهو قول خاطئ. لا يمكن ان يتم تحرير المجتمع الأبوي إلا بكسر القيود التي تكبل المرأة. لهذا نحدد تحرير المرأة العربية بصفته مطلباً أساسياً وهدفاً سياسياً لحركة الإصلاح والتحرر. وإذا كان للخطاب النقدي العلماني ان يكون فاعلاً في عملية التغيير الاجتماعي، عليه ان يتوجه ليس فقط لنقد الخطاب الأبوي السائد وحسب، بل أيضاً الى نقد الحركات الاجتماعية الجديدة التي تشكل طليعة حركة التحرير الجماهيرية. وذلك، بداية، بإعادة النظر في المقولات الذكورية المهيمنة في تركيب ونشاطات وبرامج هذه الحركات واتخاذ الخطوات الاجرائية والتنظيمية لتأمين المساهمة النسائية فيها على كافة المستويات وفي كل الحقول بالمساواة الكاملة مع الرجل. في الأزمة التي نعيشها اليوم تجابهنا أينما توجهنا عقبات داخلية وخارجية يبدو التغلب عليها مستحيلاً. في ظروف كهذه ليس غريباً أن نحبط وان نستسلم لمشاعر اليأس أحياناً. لكن الإحباط واليأس حالةٌ طارئة لا يمكن ان تشكل خياراً كيانياً لمن يريد الحرية والحياة. خيارنا الواضح والوحيد هو رفض الواقع والصراع لتغييره. لنتذكر دوماً ان الأزمات زائلة، وأن التغيير هو سُنةُ التاريخ، وان التاريخ تضعه الشعوب. ان التحرير ليس نتيجة تحدث دفعة واحدة في نهاية الصراع، بل عملية تتم خطوة خطوة في نشاطات وممارسات تتراكم يوماً بعد يوم في الصراع. التحرير هو عملية الصراع نفسها. أخيراً، أود ان أشدد على الصفة المرحلية للصراع، على مرحلية دور المثقفين وخطابهم النقدي الحضاري. يمكن القول ان تكوين الرؤية النقدية الممثلة بالخطاب النقدي الحضاري قد وصلت الى درجة عالية من الشمولية والتناسق. لكن عملية ربط هذه الرؤية بالممارسات الاجتماعية على أرض الواقع ما زالت بحاجة الى المزيد من التحليل والتحديد. المطلوب في هذه المرحلة الانتقال من التركيز على صعيد الرؤية النقدية الى التركيز على صعيد التحليل العملي أو الاستراتيجي، وخصوصاً على صيغ وأساليب التواصل والتعاون بين الحركات والقوى الاجتماعية في المجتمع المدني. على هذا الصعيد هناك ثلاث اشكاليات محورية تحتاج الى تركيز جدّي من قبل المثقفين المحللين الملتزمين. - الاشكالية الأولى تتناول الحركات الاجتماعية وكيفية بناء جسور التواصل والتعاون بينها. لا يكفي ان يتم تعاون هذه الحركات فقط في المناسبات الاحتفالية والتظاهرات عندما يُسمح بها، إذ يبقى التعاون سطحياً وموقتاً. المطلوب اقامة نظام تواصل وتعاون دائم ومستمر ينغرس في برامج ومشاريع مشتركة تثقيفية وتعليمية واجتماعية على الصعيدين المحلي والعام، يسهّل عملية الNetworking في النشاطات والمجالات التي تتطلبها اقامة البنية التحتية لنشوء نظام ديموقراطي صحيح، مشكلاً نقلةً نوعية في طبيعة العمل الجماعي. - الاشكالة الثانية تتمحور حول وسائل توفير الوصول الى وسائل الإعلام ومن خلالها الوصول الى الرأي العام العربي قطرياً وقومياً. كتابة المقالات والمساهمة في المقابلات والندوات التلفزيونية، على أهميتها، لا تكفي. المطلوب تأمين سبل التواصل مع جماهير المجتمع المدني من خلال مؤسسات الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية في شكل مباشر ومنتظم لتناول القضايا والموضوعات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي لا تتناولها وسائل الإعلام الرسمية والتجارية والاستهلاكية. من الواضح ان هناك صعوبات جمة في تحقيق هذا الهدف لكون معظم وسائل الإعلام في يد السلطة القائمة، لكن هناك بعض الفرص المتاحة، وخصوصاً في بعض الفضائيات وبعض الصحف الصادرة خارج العالم العربي، التي يمكن انتهازها بالإعداد الصحيح لها. - أما الإشكالية الثالثة وربما الأكثر خطورة والأكبر صعوبة فتتناول علاقة الحركات العلمانية بالحركات الدينية وامكانات الحوار والتفاهم بينها. السؤال الصعب المطروح، في ظلّ هيمنة التيار الديني وانحسار التيار العلماني في معظم المجتمعات العربية، هل هناك امكانية فعلية لإقامة حوار صريح وصحيح بين التيارين من شأنه أن يؤدي الى تفاهم عملي متبادل، وبالتالي الى تكوين علاقة تعاون فاعلة ومستمرة بينهما؟ بكلام آخر، هل تمكن اقامة حوار يتجاوز النقاش حول الأصول والمرجعيات، ورافضاً في الوقت ذاته التسويات التقليدية الساذجة، والمثالية، والتلفيقية، ومركزاً على الأهداف والوسائل لمجابهة الخطر المحدق بالأمة والوطن؟