1 ما يفصل تاريخياً ومعرفياً بين الخطاب الأبوي التقليدي والخطاب الحديث، هو تحول جذري أو قطيعة في النظرة الى الوجود والمجتمع وفي بنية النظام الاجتماعي نفسه. مفهوم القطيعة يشير الى العملية النقدية التي قامت في أوروبا الغربية مع قيام الثورة العلمية والثورة الاجتماعية، وتبلورت في "فكر التنوير" وعصر الحداثة، الذي امتد خلال القرنين التاليين الى العالم أجمع. إن مفهوم المشروع مثل مفهوم العقد الاجتماعي. هو مفهوم مجازيّ، إطار نظري مجرد يمكننا من تناول العملية النهضوية في سياقها التاريخي والاجتماعي والمشروع الحضاري العربي الذي نصنعه الآن هو أيضاً يبرز على شكل خطاب تنويري هدفه تكوين رؤية متكاملة حول قضايا المجتمع والدولة، وحول موضوع المرأة والديموقراطية وحقوق الانسان والمواطن واقامة مجتمع حديث. من هذا المنطلق لا يعود الفكر التنويري مجرد فكر معرفي، بل عملية تحريرية داخل المجتمع تجسد في انماط من الوعي والممارسة الاجتماعية تمكن المجتمع من تحقيق الانتقال مما دعاه فيلسوف التنوير عمانوئيل كنط "حال الطفولة" والاعتماد الجماعي الى حال "النضج" والاستقلال، أي من حال لا يملك المجتمع فيها سلطته الذاتية العقل بل يخضع لسلطة خارجة عنه الدين، الميتافيزيقا. يقول كنط ان المجتمع يكون في حال الطفولة الساذجة عندما يعتمد النص الغيبي بدل الفهم الذاتي، وعندما يستبدل الضمير الخاص بسلطة "روحية". في القرن التاسع عشر وصل فكر التنوير ذروته عند هيغل وماركس، فوضع هيغل العقل في صلب عملية التوعية والتغيير الاجتماعي، متخذاً مفهوم الدولة إطاراً لتجسيد العقل في النظام الاجتماعي ومؤسساته الدينية والفلسفية والفنية. وعلى رغم ان ماركس قلب مثالية هيغل "رأساً على عقب" باستبدال مفهوم الدولة بمفهوم الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فإنه احتفظ باطار العقلانية الجدلية الهيغيلية التي رأى فيها "القدرة الثورية" على تحرير المجتمع وتحقيق العدالة والقيم الانسانية. 2 ما يلفت النظر عند رجال النهضة العرب والمسلمين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين انهم لم يجابهوا قضية "التنوير" مباشرة، وبالتالي لم يقاربوها من موقع نقدي تحليلي ربما لعدم امتلاكهم اللغات الأجنبية والاطلاع الفلسفي والتاريخ الكافي. من هنا عجزهم عن "تبيئة" تعبير محمد عابد الجابري مفاهيم التنوير الأوروبي واستنباط مقاربات فكرية محددة لمجابهة اشكاليات عملية التنوير وعملية انتاج مشروع نهضوي واضح. فاستمروا في الموقف "الطفولي" الذي تحدث عنه كانط، موقف ساذج ينطلق من تعميمات وشعارات لا نقدية يقوم معظمها على الثنائيات البسيطة تُساوي بين المعرفة والتقدم، بين العلم والمدنية... الخ، موقف كان اثره الأكبر على الصعيد السياسي تعزيز موازين القوى اللامتساوية مع أوروبا الحديثة وترسيخ الشعور بالنقض إزاء الحضارة الأوروبية، على الصعيد النفسي. من هنا كان انهماكهم الأكبر البحث عن المرجعيات الاسلامية والتراثية لا الى بناء مشروع التغيير وبرامجه الاجرائية فبقيت النُّخَب النهضوية العلمانية والاسلامية، من البستاني وزيدان الى فرح انطون وشبلي الشميل، ومن محمد عبده والأفغاني، الى رضا والكواكبي، أسيرة خطاب وعظي يعتمد الشكوى والتمني أكثر مما يعتمد النقد والتحليل والفكر الفاعل. يمكن القول ان الرُّئية النهضوية العربية بدأت في التكون عن جديد في نهايات القرن العشرين، في المغرب العربي، على أيدي مفكري النهضة الجُدُد العروي، الخطيبي، أركون، الجعيط، الجابري، بنيس وذلك في ثلاثة حقول رئيسة: الفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية. هذه المرة تحققت الى حد بعيد المجابهة النقدية لفكر التنوير الأوروبي التي عجز عن تحقيقها الرعيل النهضوي الأول. كانت قراءة الجيل النهضوي الأول محدودة وخالية تقريباً من التنظير والتحليل النقدي، في حين كانت قراءة مفكري النهضة الجُدُدِ لفكر التنوير وخطابه التاريخي والاجتماعي قراءة علمية نقدية شاملة تنبع من معرفة المصادر الإولية وتستوعب بالتوقت ذاته الخطاب النقدي الأوروبي للفكر التنويري، من نيتشه وهيدجر الى دريدا وفوكو. من هنا بدأ انتاج ما يمكن تسميته خطاباً نهضوياً جديداً، يجمع بين التحليل العلمي والتاريخي للفكر والتراث وبين النقد الحضاري للواقع العربي، من خلال مقاربة فكرية جديدة وبلغة عقلانية، علمية ونقدية. 3 ما يميز اليوم بين الناقد أو الكاتب الغربي الفرنسي، الألماني، الانكلو - أميركي، في اتجاهاته ونشاطاته الفكرية، وبين قرينه العربي، هو التركيز على النظرية والتنظير بما فيه نظرية الممارسة على حساب الممارسة السياسية نفسها. لهذا فإن دور المثقف الغربي بما فيه نظرية الممارسة على حساب الممارسة السياسية نفسها. لهذا فإن دور المثقف الغربي في مجتمعه الغربي يختلف اختلافاً نوعياً عن دور المثقف العربي في مجتمعه العربي. إن شاغل المفكر أو الباحث والكاتب العربي أو ما يجب ان يكون شاغله اذا كان ملتزماً ليس التنظير المجرد، تحليلياً كان هذا التنظير ام نقدياً، بل النفاذ من خلاله الى رؤية تخدم من خلال التحليل والنقد مطالب المجتمع وأهدافه. إن مهمة المثقف العربي انتاج مشروع نهضوي قابل للتحقيق في الواقع الاجتماعي، لا انتاج مشروع اكاديمي.من هنا كان المشروع النهضوي الجديد، بالضرورة، مشروعاً سياسياً يرمي في أولوياته، الى اصلاح الدولة وتحديث المجتمع وتحرير المرأة. ان عملية التغيير الاجتماعي عملية موضوعية تجري في كل المجتمعات تحكمها قوىً وظروف مادية لا سلطة للمجتمع عليها الا حين تبرز ارادة اجتماعية ذاتية في داخل المجتمع، فتخضع عملية التغيير لأهداف يصيغها المجتمع، ويحولها بذلك الى عملية اصلاح اجتماعي. الذي ما زال يحكم الواقع العربي اليوم في عملية التغيير. ليست ارادة المجتمع الذاتية، بل نظامات خارج ارادة المجتمع، نظام السوق الرأسمالي العالمي العولمة والنظام الأبوي والأبوية المستحدثة. السؤال هنا، ما هي القوى الذاتية الاجتماعية والسياسية في مجتمعنا العربي الممكن استخدامها في الوقوف بوجه هذين النظامين وفرض الاتجاه الذي تقرره الارادة الجماعية الممثلة في قواه الذاتية". إنها "الحركات الاجتماعية الجديدة"، كما سماها عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين. يقول تورين: إنَّ زمن الاحزاب السياسية التقليدية والحركات الايديولوجية قد انتهى وان "تجمعات" سياسية وثقافية من نوع جديد قد حلت محلها. ويقدم مثالاً على ذلك التجمعات الشعبية التي تمكنت في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من اسقاط الأنظمة الشيوعية في دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، من دون تنظيم مسبق ومن دون اللجوء الى العنف، ونجحت في اطاحة الأنظمة القائمة واقامة نظم ديموقراطية تمثيلية. ثلاث صفات ميزت هذه الحركات: غياب الايديولوجية الواحدة، غياب القيادة المركزية، وتغلب التعددية التي جمعت بين فئات الشعب المختلفة سياسياً واجتماعياً ضمت الطلاب والعمال والنساء وجماعات كبيرة من بيروقراطية الدولة والحزب الحاكم. في معظم اقطار العالم العربي، حتى في الاقطار الأكثر "نضوجاً"، يلعب ما تبقى من الأحزاب التقليدية والاتحادات العمالية والطالبية دوراً محدوداً وهامشياً في الحياة السياسية، اذ ما زال النظام الأبوي، بوجهيه الاجتماعي والسياسي، هو اللاعب المهيمن في الحياة السياسية. إلا ان هناك قوتين اجتماعيتين داخل المجتمع الأبوي في حال تطور ونمو ونضوج، قادرتان على دخول المعترك السياسي وتغيير موازين القوى فيه. هما الحركة النسائية وحركة المثقفين الجُدُد. الحركة النسائية تمثيل في السياق الأبوي، حركة ثورية متميزة بكل ما في الكلمة من معنى، لا يمكن ايقافها حتى في الأنظمة الأبوية الأشد قسوة بالنسبة للمرأة. المرأة هنا تصارع على جبهتين، على جبهة سياسية لتحقيق المساواة، وعلى جبهة اجتماعية لتثبت حق الهوية الأنثوية واستقلالها. كل انتصار تحرزه الحركة النسائية في أي من هاتين الجبهتين يكون انتصاراً للمجتمع العربي ككل، وخطوة الى الأمام في عملية تجاوز المجتمع الأبوي ونظامه القمعي. كذلك تُشكل حركة المثقفين قوة جديدة داخل المجتمع العربي لا سابق لها في تاريخنا الحديث. في عصر النهضة اقتصرت حركة المثقفين على نخبة صغيرة من الصحافيين والكتاب البارزين، والأطباء، وخريجي الأزهر، أما اليوم فأصبحوا يشكلون فئات عريضة تتألف من خريجي ما يقارب 200 جامعة عربية وعدداً كبيراً من خريجي الجامعات الأجنبية، ومن كتاب وباحثين في مختلف الحقول بعضهم يقيم في أوروبا وأميركا والبعض الآخر عاد الى الوطن العربي. المثقفون يشكلون اليوم قوة اجتماعية وسياسية لا فقط من خلال علمهم وثقافتهم واختصاصاتهم المهنية بل أيضاً من خلال دورهم في تكوين الخطاب السياسي النقدي وفي بلورة الوعي الجماعي وأساليب الممارسة السياسية. من هنا يمكن القول إن رأس الحربة في عملية التغيير والاصلاح في السنوات المقبلة، القادرة على تفعيل الحركات الاجتماعية الكامنة في قلب كل مجتمع قُطرِيّ، هي تلك التي يشكلها تحالف طلائع المثقفين الملتزمين والنخب النسائية، بما فيه حركة الشبيبة الناشطة في قضايا البيئة وحقوق الانسان والمجتمع المدني. * مفكر فلسطيني.