في الثقافة العربية المعاصرة تقليعات، أشبه شيء بالموضة عند النساء، منها، على سبيل المثال، التعريب، الغزو الثقافي، التأصيل والتغريب، التحديث والحداثة... وليس آخرها المشروع النهضوي الحضاري. هذه يفرض احدها ذاته، ذات يوم على الصحف والمجلات واللقاءات، على انه الأهم بين مشكلاتنا الثقافية، ويوماً يرتد الى الصف الثاني حتى لنكاد ننساه، ويحل محله آخر. المشروع النهضوي الحضاري، بعضهم افترضه موجوداً ونحن في سبيلنا الى تحقيقه، والبعض الآخر تبرّع بوضعه نيابة عنا، وكأنه يطلب منا ضمناً تبنيه والأخذ بمستلزماته. والحق ان الجماعة هي مشروع وجملة مشروعات بينها الاقتصادي والسياسي والثقافي والتجاري... والحضارة ايضاً مشروع وكذلك النهضة. هذا قد يفرض ذاته في المنعطفات التاريخية حيث على الأمة او الجماعة ان تعيد النظر في سلوكها لا بل في معطيات وجودها لتتأقلم مع وضع اجتماعي لا عهد لها به. المشروع، اياً كان وفي كل الأحوال عمل جماعي، تلقائي، شامل للعديد من جوانب حياة الجماعة مفترض فيه انه يلبي مدرجاً واسعاً من شروط حياة الجماعة. مثال، حركة التجدد الاجتماعي التي بدأها محمد علي باشا 1789- 1849 في الربع الأول من القرن التاسع عشر وواصلها خلفاؤه، قامت على إرسال بعثات دراسية علمية الى الغرب، وكان هدفها المعلن فك ارتباط مصر بالعثمانيين وسلطتهم، وجعلها تنتسب الى الغرب، ولكنها تكشفت مع تواصل البعثات وتأثيرها عميق الجذور في تجديد وجه مصر الحضاري، على أنها بمثابة اول مشروع عربي نهضوي وحضاري - الوحيد حتى اليوم - ومجلة "الهلال" التي تأسست عام 1892 هي التي اطلقت عليها اسم "نهضة"، ولم يكرّس الاسم الا بين الحربين، إذ تردد طويلاً بين اربعة مفاهيم - تسميات - هي، اضافة الى "النهضة"، "الإحياء"، "اليقظة"، "البعث". المفهوم الأخير اعطاه زكي الأرسوزي ربيع 1938 أي فور انتقاله هو والكثير من تلاميذه ومريديه الى دمشق وبغداد، مضموناً سياسياً قومياً خالصاً، تبنته الحركات القومية ومنها حزب البعث، واحتفظنا إذذاك باسم نهضة للتبدلات الثقافية - الاجتماعية - السياسية التي استمرت طوال الربع الأول من القرن العشرين اي حوالى قرن ونيّف. وشملت، الى جانب مصر، منطقة الهلال الخصيب. يبدأ المشروع رفاعة رافع الطهطاوي 1801- 1873 وهذا كان أوفده محمد علي باشا إماماً مرشداً لبعثته الأولى الى فرنسا 1826- 1831 فعاد منها بجملة افكار ومشروعات يمكن اعتبارها بمثابة نواة لحركة تنوير عربية، المدرسة ركيزتها الصلبة منها تنطلق لتشمل مبدئياً الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية، اهمها، عمران المدن الذي سيتواصل مع علي مبارك 1823- 1893 وغيره. وكذلك انشاء شبكة مواصلات قاطراتها يجب ان تربط محافظات مصر بعضها بالبعض الآخر. إلا ان الطهطاوي كرّس الشطر الأكبر من جهده الإصلاحي للمدرسة بكل درجاتها، تحديثها، رفع مستواها ونشر المدارس على أوسع نطاق ممكن. وفتح ابوابها لأكبر عدد ممكن من الأولاد. ولم ينس الطهطاوي المرأة. ولكن كان عليه ان يراعي عند قبولها في المدرسة العرف وحدود الشرع. وسوف تظل مسألة تحرير المرأة ومشتقاتها اي الحجاب ودخولها سوق العمل موضع اهتمام المصلحين الاجتماعيين وعلى رأسهم قاسم امين 1865- 1908 حتى نهاية عصر النهضة... وإلى ايامنا. والمدرسة في تلك المرحلة الكتاب، فها هو الطهطاوي يترجم ويؤلف، ويطلب من طلابه ان يحذوا حذوه. فالترجمة للعلوم والمنطق وتاريخ العالم. التأليف لتاريخ مصر وما يتضمنه من دروس اخلاقية وقيم اسلامية على المصري ان يتقيد بها. ويعتني الطهطاوي اكثر ما يعتني بتعليم اللغات الأجنبية الحية ونشرها بين الشباب، ويؤسس لهذا الغرض دار الألسن وهي كلية جامعية ما تزال تمارس نشاطها حتى اليوم. ويطرح الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي 1810- 1879 في تونس، السؤال الذي سيحاول الإجابة عنه الأفغاني ومن ثم تلميذه وخليفته الشيخ محمد عبده وغيرهما، كيف يمكن للمسلمين ان يصيروا جزءاً من العالم الحديث من دون ان يتخلوا عن دينهم؟ قلت، أما نزال حتى اليوم - وإلى ما شاء الله - ننتظر الجواب عن سؤال تعددت الأجوبة عنه بتعدد المسلمين والحركات الإسلامية، وكلها محطات بانتظار الجواب. وتتعقد حركة النهضة في مصر وتتسيّس، بادئ ذي بدء بانتقال مركز الثقل في الحياة الاجتماعية منذ بداية القرن التاسع عشر من الريف الى المدينة، وتحوّل الاقتصاد من الزراعة الى الصناعة أو أيضاً إذا شئت بتحويل كبار الملاكين ارصدتهم من الاستثمار الزراعي الى التجارة والاستثمار الصناعي. تدعمها رؤوس اموال التجار والصنّاع السوريين واللبنانيين التي بدأت تتسرب الى مصر هرباً من جشع كبار موظفي الدولة العثمانية وصلفهم واستهتارهم بأرزاق العباد وأرواحهم، وها هي القاهرة تصير في القرن العشرين واحدة من عواصم الرأسمالية العالمية. كان لا بد من ان يطرح في الوقت ذاته وضع مصر السياسي. فرأسماليتها الناشطة، لثقلها الصناعي المتزايد - القناة عما قريب تدشينها 1869- وموقعها الاستراتيجي المتوسطي بين ثلاث قارات منها اوروبا، يرشحها لأن تلعب دوراً سياسياً - حضارياً له وزنه العالمي مستقبلاً. كانت تتجاذبها اذذاك ثلاثة اطراف لكل منه قوته: من جهة مثقفوها الذين لن يقبلوا بأقل من الاستقلال الكامل وسيادة المصريين على أرضهم. ومن جهة اخرى السلطنة، فمصر ما تزال نظرياً واحدة من محافظاتها منحها السلطان تحت ضغط الأجانب حكماً ذاتياً، كما انها بوصفها بلداً إسلامياً مرتبطة بخليفة المسلمين الذي هو السلطان. الجهة الثالثة، هي بريطانيا التي عندما اجبرت هي وفرنسا ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا 1840 على الانكفاء بجيشه الى حدود مصر، وضعت عملياً مصر وحكامها تحت وصايتها. اما المثقفون الذين ما برحوا طوال حوالى أربعين عاماً 1880 - 1920 يجاهدون لاستقلال بلادهم، فأجيال ثلاثة: الجيل الأول يمثله جمال الدين الأفغاني 1838- 1897 الذي زج احمد عرابي باشا 1840- 1911 في معركة الاسكندرية 1882 ضد الجيش البريطاني الخاسرة، ما جعل بريطانيا تحتل مصر عسكرياً الى أن يخرجها مرة وكل مرة تأميم القناة. الجيل الثاني لطفي السيد 1872- 1963 وتلميذه الزعيم الشعبي مصطفى كامل 1874- 1908 صاحب الحزب الوطني، هذا توفي وما يزال شاباً في بداياته ولكنه شق بخطبه وسلوكه طرقاً سيسلكها خلفاؤه في المقاومة الشعبية، وكان لطفي السيد مثل طه حسين 1889 - 1971 وقبله حريصاً على ان تكون مصر جزءاً من اوروبا تشتركان معاً في ثقافة البحر المتوسط في نظام حر وديموقراطي. الجيل الثالث هو جيل سعد زغلول 1857- 1937 وحزب الوفد الذي سينتزع الاستقلال من بريطانيا بعيد الحرب العالمية الأولى 1920 بعد اضطرابات وصراعات ومفاوضات طويلة وسيحتفظ الوفد لبريطانيا بموقعها المتميز اقتصادياً وثقافياً في مصر، وستكون حكومة الوفد طوال حوالى ربع قرن ونيف برلمانية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة اركانها ثلاثة: انتخابات ديموقراطية، معارضة قوية، وصحافة حرة من مستوى رفيع. هل انتهى المشروع النهضوي العربي باستقلال مصر؟ هذا السؤال يحيل الى آخر: أَوَيُمكن ان تكون ثمة نهاية - من دون البواقي - لمشروع بمستوى مرحلة تاريخية؟ الواقع ان النهضة طرحت على الخصوص في مرحلتها الأخيرة، من الأسئلة اكثر مما كان في وسعها الإجابة. كان من الطبيعي ان يتبنى الوفد النظام البرلماني كما كان تبلور طوال القرن التاسع عشر وأعطى أوروبا صورتها السياسية الحضارية في تلك المرحلة، صورة هي التي استثارت النهضويين، سياسيين كانوا ام مثقفين، وفي طليعتهم الطهطاوي إياه. إلا انه لم يكن في وسع الوفد - ولا غير الوفد - اقامة الحد الذي وضعه الطهطاوي نفسه في كتابه الأول الشهير تخليص الإبريز في تخليص باريز المنشور اكثر من مرة: ما يمكن وما لا يمكن تبنيه من مؤسسات الغرب وقيمه وفي رأسها الدولة العلمانية الحيادية دينياً التي هي دولة الغرب اليوم وغداً كما في الأمس... ولهذا فالحوار الذي جرى عام 1906 بين فرح انطون والشيخ محمد عبده أوصل الاثنين الى طريق مسدودة. ففرح انطون يرى وبحق ان الدولة الحديثة لا يمكن إلا ان تكون علمانية. ويرد الشيخ محمد عبده وبحق ايضاً ان الدولة في بلد اسلامي لا يمكن ان تكون حيادية. ما يدهشك في هذا الحوار هو تقبل كل منهما الآخر برحابة صدر لا حد لها. وكان التعارض إياه قد اثير قبل حوالى ربع قرن 1884 في حوار بين الأفغاني ورينان، موضوعه العقل والإيمان. فالعقل عند رينان هو الذي يجب ان ينظم العلائق بين الناس، السياسة وغيرها، في حين ان الدين يقدم لنا الخلق الأكمل للإنسان وهو نكران الذات. في حين يرى الأفغاني ان الدين هو الذي ينظم ويجب ان ينظم العلائق بين الناس - اما الفلسفة فلنخبة قليلة من المفكرين. وكان رينان وضع دراسة عن ابن رشد نقلها الى العربية فرح انطون، وفيها يبدي اعجابه بحل الفيلسوف العربي للمشكلة وخلاصتها ان الحكمة الفلسفة والشريعة الإسلام واحد في الجوهر. اذ ان كلاً منهما يقول الحقيقة الواحدة بلغته. التفاهم هذا بين العقل والإيمان او بين الدولة والعلمنة ينقلنا الى مستوى ثالث اعمق من المستويين السابقين هو تفاهم الإسلام مع ذاته، كشف عنه علي عبدالرزاق في كتيب نشره عام 1925 بعنوان أصول الحكم في الإسلام وفيه يفجّر مشكلة ما تزال حتى اليوم وإلى ما شاء الله خلافية بين علماء الدين: أهي الخلافة اسلامية كما يراها علماء الأزهر ام محمولة على الإسلام كما يرى علي عبدالرازق؟ التساؤل هذا يعيدنا الى سؤال الطهطاوي وخير الدين التونسي كيف يمكن للإسلام ان يتصالح مع الحداثة ويحافظ على جوهره؟ * كاتب سوري.