لم يفترق الكاهن والجلاد يوماً طوال عصور محاكم التفتيش الأوروبية. كذلك حالنا الآن. فقه الإرهاب والارهاب يمشيان اليد في اليد. بعض الأمثلة: في شريط بن لادن، الزائر المجهول يبشره بأن الشيخ سلمان العلوان أفتى بشرعية هجومه على اميركا. في كتاب "فتوى ضد الغرب" من تأليف مستشار الأممالمتحدة في شؤون الارهاب، رولان جاكار، نلتقي بترسانة من الفتاوى التي تساهم بقوة في تأسيس فقه الارهاب، أي التحريض على القتل بالجملة والمفرق وبتعلاّت وتعليلات قراقوشية فضلاً عن ذلك. مثلاً لا حصراً فتوى أبو حمزة على هامش امتلاك باكستان للقنبلة الذرية الاسلامية: "إذا كانت الحرب النووية وسيلة للدفاع عن المسلمين فعلينا عندئذ ان نخوضها. فالإسلام يحلل ذلك كما يحلل أكل لحم الخنزير في حالة المجاعة". في كتاب عبدالله عمامي: "تنظيمات الارهاب في العالم الاسلامي: نموذج النهضة" نقرأ: رفض العسكريون التابعون ل"النهضة" المشاركة في الانقلاب على بورقيبة قبل حصولهم على فتوى تبيح قتل زملائهم العسكريين وبورقيبة عند الضرورة "خاصة وان التنظيم استحدث منذ مؤتمر 1984 مركزاً شرعياً تسير الحركة حسب فتاويه، فكان من الطبيعي التماس فتواه لتكون بمثابة صك للقتل يسمح للقتلة بالعبور الى الجنة في حال الاستشهاد ... وجاءت فتوى صالح كركر، نائب راشد الغنوشي الذي كان عندئذ سجيناً، تجيز قتل كل من يقاوم الانقلاب وقتل بورقيبة اذا قاوم وسجنه اذا لم يقاوم". أخّرَ وصولُ الفتوى من لندن انقلابَ "النهضة" يوماًَ واحداً عن تاريخ ازاحة مؤسس تونس الحديثة بهدوء غير مسبوق في العالم العربي يوم 7/11/1987، ويوم 8/11/1987 كان الانقلابيون الاسلاميون قد اعتقلوا. تلازم الفتوى والارهاب يفسره دورها في تحرير سادية الارهابي وغريزة الموت لديه أخذاً وعطاء من جميع الضوابط الاخلاقية وتجفيف ما تبقى له من ضمير ومن كل شعور صحي بالذنب. فتاوى العقدين الأخيرين من القرن العشرين كانت سرية على غرار التنظيمات التي اصدرتها، أما فتاوى اليوم فبات يصدرها شيوخ معروفون وغالباً معترف بهم وينشرونها في الصحافة والتلفزيون والانترنت بكل بساطة كما لو كانت واجباً دينياً يثاب فاعله ويأثم تاركه. تسابق رجال الافتاء في اصدار فتاوى قتل الأفراد والجماعات والأمم كأنما استولى عليهم خوف هوسي من التقصير. كما ظهرت فتوى القتل بعد قتل القتيل كبدعة غير مسبوقة، اما كحيلة ماكيافيللية لمباغة القتيل حتى لا يحتاط للدفاع عن نفسه واما كفتوى ضمنية بقتل أمثاله من الاحياء، مثل الافتاء بجواز قتل السادات شرعاً بعد انقضاء 12 سنة على اغتياله، كما فعل الغنوشي، أو الفتوى بجواز قتل بن بركه شرعاً بعد 36 عاماً من قتله كما فعل عبدالباري الزمزمي. تأخير الفتوى عن تاريخ القتل للغدر بالقتيل دشنتها فتوى نشرتها يومية لندنية 27/8/2001 ضد الكاتب حسين موسوي: "لقد اخطأ الامام الخميني، يقول المفتي، عندما أصدر فتواه بقتل سلمان رشدي لأنه بات بفضل هذه الفتوى في حماية ورعاية الغرب المعادي للاسلام ... لقد كان الواجب ان يُقتل أولاً ثم تصدر الفتوى بأن قتله جائز شرعاً". وهو تلميح شفاف بالمبادرة الى قتل حسين موسوي من دون انتظار فتوى بذلك. وأفضل وصف لهوس فتاوى القتل ما كتبه عقيل العقيل من "الشرق الأوسط": "من الامور التي طغت على الساحة الاسلامية وتحدثت عنها وسائل الاعلام كثيراً هي مسألة اهدار الدم، فصرنا نسمع ان العالم فلاناً قد أهدر دم فلان وان الجماعة الفلانية قد أهدرت دم فلان أو اهدرت دماء مجموعة من الاشخاص. إهدار الدم أمر مفاده زوال عصمة الدم، فبدلاً من أن يكون المرء معصوم الدم لا يحل قتله صار مهدور الدم حلال قتله". الشيخ سفر عبدالرحمن الحوالي الذي يفضل الانترنت لإصدار فتاوى اصدار دماء الجماعات والأمم، أفتى بتكفير "تحالف الشمال" لأنه والى الأميركان ضد حكومة طالبان الاسلامية: "إن نصرة الكفار على المسلمين بأي نوع من النصرة أو المعاونة ولو كانت بالكلام المجرد كفر بَواح ونفاق صُراح وفاعلها مرتكب لناقض من نواقض الاسلام ... فعلى الذين فعلوا هذا من المعارضين الأفغان أو غيرهم ان يبادروا بالتوبة ويكفّروا عن هذا العمل الشنيع لنصرة اخوانهم المسلمين ولو بالدعاء والمقال". ولا أهمية لتقييم تحالف الشمال لحكومة طالبان "لأن الجهاد ماض الى قيام الساعة مع كل من حمل الراية لنصرة الدين وصد عدوان الكافرين برّاً كان أو فاجراً". أما مأساة 11 ايلول سبتمبر فهي لا تعدو ان تكون مجرد "معاملة بالمثل" اي "رداً على هجوم كلينتون الصاروخي على القاعدة" غداة تفجير السفارة الاميركية في نايروبي. ويبرر شرعاً ضرب البنتاغون وبرج التجارة العالمي كما يلي: "لقد شن العدو علينا حرباً نفسية ووجد فينا سماعين له ومروجين لمفاهيمه والا فمتى كان البنتاغون "بريئاً" وهو بتعبير المفكر الاميركي الشهير، غور فيدال، وكر جهنم وعش الشياطين ... ووكر الجاسوسية وعش المافيا ومركز الربا وغسيل الأموال، أعني مركز التجارة العالمي"؟ ثلاث جرائم مستمرة تبرر هجوم 11 ايلول احداها "عدم سماح اميركا بقيام دولة اسلامية حقيقية في أي مكان من العالم"، مع انها ساعدت بقوة على قيام إمارة أفغانستان الاسلامية التي أشاد بها الشيخ؟ هذه الفتوى الشرعية المتماسكة أثارت اعجاب المعلق التونسي أحمد سرور في إحدى اليوميات اللندنية. الشيخ علي بن خضير الخضير ينشر هو ايضاً فتاواه عبر الانترنت. فتواه الخاصة بأحداث 11 ايلول قدمها كجواب لطلبته الحيارى في اليمن ليهديهم الى سواء السبيل: "أما التباكي والحزن والتألم لما حصل من ضحايا منهم الأميركان لما يسمى بالأبرياء فمن الأمر العجب، فإن حال هؤلاء الضحايا لا يخرج عن ثلاث أحوال: أولاً ان يكونوا من الاميركان الكفرة، فهم لا يؤسف عليهم لأن الفرد الاميركي الكافر من حيث علاقته بحكومته فهو محارب أو معين لها بالمال أو بالرأي والمشورة كما هو واقع عندهم وطبيعة نظامهم السياسي لا كثّرهم الله ... يجوز قتل من قاتل منهم ومن لم يقاتل كالشيخ الهرم والأعمى والذمي باتفاق العلماء". هذا الإهدار لدماء جميع الاميركيين بلا استثناء هو ما تبناه الشيخ يوسف القرضاوي وزعماء الحركات الاسلامية الذين وقعوا على فتواه التي حرضت حماس والجهاد الاسلامي على قتل المدنيين في اسرائيل. لماذا؟ لأن التعصب بما هو حقد هاذٍ على كل من هو مخالف أو مختلف يشل الفصّ المنطقي في رأس المتعصب، فلا يعود قادراً على الحد الأدنى من التماسك مع نفسه ومع مرجعيته الدينية ذاتها. فضلاً عن الآيات التي تحرم الثأر القبلي وأخذ البريء بجريرة المذنب وقتل الأبرياء، فإن جميع فقهاء الارهاب مروا مرّ الكرم على الاحاديث المحمدية الناهية نهي تحريم عن قتل من نسميهم بلغة عصرنا "المدنيين". اثناء احدى غزواته وجد نبي الإسلام امرأة قتيلة فاستنكر ذلك وأرسل رسولاً الى خالد الذي كان في طليعة الجيش: "قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً" أي أجيراً. وفي "سنن أبي داود"، انه كان اذا بعث جيشاً قال له: "انطلقوا باسم الله لا تقتلوا شخصياً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا" أي لا تبالغوا في القتل. وهكذا تبدو فتاوى الاسلاميين بإهدار دماء سكان المعمورة بالجملة والتفصيل ك"اسلام ضد الاسلام" كما عرّف الصادق النيهوم اسلام الاسلاميين في كتابه الشهير: "اسلام ضد الاسلام". ما العمل لوضع حد حاسم لفتاوى التحريض على القتل؟ قاضيان بالمحكمة الكبرى بجدة هما ابراهيم بن صالح الخضير ومحمد بن عبدالله الجار الله اكدا أولاً بعض البديهيات الشرعية التي ينتهكها المتعصبون بفتاواهم: "ليس لأحد كائناً من كان، حتى لو كان من أهل العلم، حتى لو كان مفتياً، ان يتصدى للحكم بإهدار دم شخص معين أو عدة أشخاص ... كما انه ليس لأحد ان يتولى بنفسه تنفيذ القتل في الناس... والا عمت الفوضى" العامة في الواقع في بلدان عدة منذ الثورة الاسلامية الايرانية. جعل الاحكام الجزائية من اختصاص المحاكم حصراً كما طالب القاضيان المذكوران ضروري قطعاً لأن وحدة القضاء وعدم خضوعه لغير القانون شرط لا غنى عنه لحفظ حريات حقوق وحياة الناس، لكنه غير كاف لأن خطر الفتاوى العسكرية - السياسية - الدينية عام يهدد بتصميم الحرب الاهلية الزاحفة في الفضاء الاسلامي والحرب الدينية العالمية، التي هي الهدف النهائي للارهاب الاسلامي في شتى تعبيراته. المطلوب هو اذاً: 1- تجريم فتاوى التحريض على القتل وكراهية الآخر بما هي الشكل الأكثر خطراً للعنصرية وتقديم مقترفيها للمحاكمة، 2- ايقاف تعليم لاهوت القرون الوسطى المعادي للمرأة والطفل والآخر والانسان والعقل والحياة وتعريف الطالب بتاريخ الاديان المقارن والانسانيات وحقوق الانسان والقانون الحديث الجاري العمل به في المعمورة. تحقيق هاتين الأولويتين مهمة هائلة تتطلب تعاون العزائم الصادقة المحلية والدولية من منظمات حقوق الانسان المحلية والدولية ولجنة حقوق الانسان بالامم المتحدة والاعلام المحلي والعالمي والديبلوماسية الدولية. خطر هذه الفتاوى لا يتأتى من احتمال تطبيقها وحسب، بل ايضاً من ترسيخ كراهية الآخر واحتقار الحياة في الوعي الجمعي الاسلامي الذي بدأ بالكاد يتهجى أبجدية الحداثة. لا خيار لنا اما ان نكون حديثين أو لا نكون.