لا تفرغ ساحة الأوبرا أبداً، لا في النهار ولا في الليل. إنها دوماً مليئة بالسيّاح ويلتمع فضاؤها بفلاشات الكاميرات الكثيرة التي تومض من كل جانب حتى أنها لم تعد تفاجئ المارة العاديين... مثلي. في طريقي إلى عملي عليّ أن أمر مرتين في اليوم في ساحة الأوبرا، من المترو إلى الباص وبالعكس. هكذا أعبر بالضرورة تحت مطر الفلاشات وتلتقطني العلب السوداء من دون قصد مني، بل من دون أن استطيع تجنب ذلك... وهكذا يحملني السيّاح - أو بعضهم على الأقل - إلى بلدانهم وبيوتهم وذكرياتهم، فتكون لي حيوات أخرى صغيرة متفرقة لا أعرف عنها شيئاً. يأخذني سهوي والخيال أحياناً إلى منازل هؤلاء العابرين. أراهم في بيوتهم وقد عادوا من عطلهم يرتبون الصور والذكريات في أدراج زواياهم وغرفهم الحميمة، واعدين النفس بإخراجها والتفرج عليها حين يطيب التذكّر، وفي المناسبات السعيدة. ويعجبني أن أستغرق في ذلك، فأرى نهاية سهرة لطيفة جمعت أصدقاء وأحبّة حيث يخطر لصاحب البيت أن يتذكّر مع أصدقائه وأحبّته رحلته إلى باريس. سيُخرج العلب من ادراجها وستروح الصور تدور وتنتقل بين الأيدي على صدى الضحكات والتعليقات الظريفة، وستمر بالطبع صورة التُقطت في ساحة الأوبرا... وأكون أنا هناك، في الخلفية القريبة أو البعيدة. ويعجبني أن أستغرق في ذلك، فأسمع الأحبة والأصدقاء يعلقون على ساحة الأوبرا وعلى تفاصيل المشهد، فيقول أحدهم إن نساء باريس لسن من الاناقة بما يشاع عنهن، أو أنهن ميّالات صرن في سحنهنّ إلى السمرة نتيجة اختلاط الأعراق، لا بد، وانهن ربما للسبب نفسه لم يعدن بالرشاقة التي عُرفت عنهن. وهو يحدق في صورة ساحة الأوبرا إليّ! وقد يعجبني هذا الاستغراق الى حدّ المبالغة، فأروح إلى غواية اختلاق حكاية نادرة الحدوث... كأنْ يخطئ صاحب الصورة التقدير وكأنْ تختلط عليه الذكريات فيقدمني على أني سيدة فرنسية التقاها بالصدفة وأقام معها صداقة حقيقية، على رغم قصر مدة عبوره في باريس بحيث أنه لن ينساها أبداً. فهي التي غيّرت في حياته أشياء وأموراً، وأثّرت فيه عظيم الأثر كما يحدث أحياناً في القصص والروايات حيث اللقاءات تغيّر مصير الأفراد بعد أن يختفي أصحابها من حياتنا إلى الأبد... *** نحب كثيراً أن تكون لنا حياة غير تلك التي لنا. ونحبّ كثيراً أن تكون لنا حيوات متعددة لا حياة واحدة. لهذا، ربما، ينجب الناس الأطفال. يؤلّف الكتّاب الروايات والقصص. السينمائيون الأفلام والصور، والرياضيون البطولات الخالدة... وقد يذهب الأمر من ولع النساء بتغيير ألوان شعورهن إلى انصراف بعض المواطنين إلى السياسة. لكن... يكتئب السياسي أكثر من غيره إن بقي مسجوناً في حياته الأولى، أو إن هو اضطرته الظروف للعودة إلى حياته الأولى، تلك السابقة على حياة السلطة. ذلك أن حياته الأخرى - تلك التي يمسك فيها بناصية الأمور مسيّراً حيثيات الشأن العام - إنما هي ضبط وقيادة لحيوات الآخرين ولإيقاع أحلامهم هم بحيوات أخرى تكون لهم. فحلم حياة رجل السلطة هو الدخول إلى أحلام حيوات الناس، كأن نقول: إن لوزير السياحة مثلاً علاقة مختلفة جداً بصورة قد تكون التقطتها امرأته أو صديقه، في ساحة الأوبرا - ذات رحلة سياحية... وهكذا، أجدني أفضّل، بشكل قاطع ومن دون تردد، أن أتخيل وأحلم لنفسي بحيوات أخرى، صغيرة ومتفرقة، في صور السيّاح العابرين وفي أدراجهم وزواياهم الحميمة ثم في سهراتهم الأليفة على أن يلتقطني - ولو بالغلط - وزير السياحة، ويستعملني لعرض مفيد وذي دلالات ومؤدى في إحدى صالات العرض أو قاعات المحاضرات في المبنى الكبير... ثم تموت تماماً قدرتي على التخيّل والاختلاق وتختنق قابليات حيواتي كلها، تماماً، حين يُقال الوزير - أو يستقيل - من وزارته... ممعناً في الاكتئاب المعدي والعميق، والذي لن يصل إليه غناء أية سوبرانو مهما كانت عظيمة.