استقبل لبنان العام الجديد بتفجير أزمة سياسية مقلقة دشنها رئيس مجلس النواب نبيه بري في هجوم متعدد الأهداف أصاب زميله في "الترويكا" رئيس الحكومة رفيق الحريري، كما أصاب أيضاً صدقية القمم العربية وصورتها المتصدعة. ومع أن الاستاذ نبيه سبق وأعرب عن تحفظه حيال الدور الذي سيقوم به مؤتمر القمة المقبل، إلا أن أمين عام الجامعة العربية السيد عمرو موسى خالفه الرأي وقال له إن المرحلة الخطرة تستدعي التعاون لتجاوز الظروف الصعبة بواسطة العمل العربي الجماعي، ولما طالبه الرئيس بري بضرورة تأجيل موعد القمة ريثما تصفو أجواء التوتر التي خلفتها أحداث 11 أيلول سبتمبر، أجابه بأن تصحيح الواقع العربي أصبح الهمّ الرئيسي لحماية مصالح هذه الدول وتطوير دورها الاقليمي. وشدد موسى أثناء لقائه السابق مع بري على أهمية الخروج من مستنقع الهستيريا العالمية، وتأمين انتقال سريع يجدد التحام العرب بقضيتهم المركزية. يبدو أن هذا المنطق لم يقنع رئيس مجلس النواب اللبناني، بدليل أنه انتظر صدور التعيينات الإدارية لكي يهاجم رئيس الحكومة، وينتقد توقيت انعقاد مؤتمر القمة العربية في بيروت. وكرر في هجومه العنيف على القمة تحفظاته تجاه مقررات العجز العربي التي صدرت عن آخر اجتماع لوزراء الخارجية، وأعرب عن خشيته من أن يتبنى المؤتمر المقبل دعوة التخاذل التي أيدت وقف الانتفاضة، وسمحت لشارون بمحاصرة المقاومة وتهديدها. وكان من الطبيعي أن يقلق هذا الكلام الحكّام العرب الذين أجمعوا في قمة عمّان الأخيرة على تأييد اقتراح دولة الإمارات العربية المتحدة نقل القمة إلى لبنان، علماً بأن تنازل دولة الإمارات عن دورها بحسب التسلسل الأبجدي، لم يكن أكثر من تعبير عن تقديرها للمقاومة اللبنانية، وتشجيعها لأن تصبح انجازاتها قدوة لكل المكافحين. ولقد رحب في حينه الرئيس الليبي معمر القذافي بالفكرة، لأن أرض النضال العسكري في رأيه، تستحق أن تكون مصدر قوة واندفاع لكل الزعماء العرب، وربما أراد بهذه المساندة العلنية فتح صفحة جديدة مع الشيعة لعل زيارته للبنان تجدد له مرحلة التعاون التي وصلت إلى ذروتها خلال حرب 1975-1989. ولقد اعترف مرة في إحدى الندوات المتلفزة بأنه انفق أكثر من بليون دولار لمساعدة قادة الحركة الوطنية وتسليح جماعاتهم، ويكفي أنه كان يقضي معظم أوقاته في استقبالهم، بحيث أن أحدهم كاد يُقتل معه في الخيمة اثناء الغارة الأميركية على ليبيا. وواضح أنه لم يجد الصفح المطلوب من غالبية زعماء الشيعة، الأمر الذي دفعه إلى إعلان طلب نقل مؤتمر القمة من بيروت إلى القاهرة، ولكن اقتراحه لم يجد التجاوب المطلوب حتى لدى القاهرة التي شددت على أهمية تجاوز الخلافات وعقد القمة في مكانها وموعدها 25 آذار/ مارس. ويُستدل من الطلب الذي تقدمت به ليبيا للجامعة العربية بضرورة نقل مكان القمة، ان القذافي عازم على حسم موضوع اختفاء الإمام موسى الصدر بحيث تضطر الدولة اللبنانية إلى اتخاذ موقف رسمي بهذا الشأن. وبما أن الدولة لا تستطيع إعلان موقف صريح في موضوع بالغ الأهمية، فإن الديبلوماسية الليبية باشرت تحركها لاستقطاب بعض الدول المعتمدة على مساعداتها بهدف تجميع كتلة مقاطعة لقمة بيروت. وأثارت تصريحات وزير شؤون الوحدة الافريقية عبدالسلام التريكي تساؤلات مختلفة حول موافقة أربع دول عربية على نقل القمة إلى القاهرة، في حين تؤكد مصر التزامها حضور قمة بيروت. ويخشى عمرو موسى أن يؤدي الخلاف على المكان إلى شق الصف العربي، وإلى زرع البلبلة بطريقة تؤثر على التمثيل العربي الشامل. ويبدو أنه سيستعين بوساطة السعودية ومصر وسورية بهدف حل مشكلة التمثيل بطريقة لا تحرج الدولة اللبنانية ولا تعزل ليبيا. وبما أن احتمالات حضور الملك فهد والشيخ زايد وأمير الكويت والرئيس العراقي، تبدو معدومة، فإن الجامعة العربية تؤيد حضور وزير خارجية ليبيا كحل واقعي. التداعيات السياسية التي خلفها تصريح الاستاذ نبيه بري حول تأجيل موعد القمة، طرحت تساؤلات كثيرة تتعلق بخلفية هذه الدعوة، وما إذا كانت سورية تقف وراءها، خصوصاً أن رئيس المجلس النيابي فجّر قنبلته بعد بضعة أيام من زيارة دمشق. لذلك ربط بعض الصحف بين الزيارة وتوقيت التصريح الذي تبرأت منه سورية بلسان وزير خارجيتها السيد فاروق الشرع. ورفض المشككون الاقتناع بجواب وزير الخارجية، لأن لهجة الاعتراض لم تكن قوية كاللهجة التي استخدمت للاعراب عن الانزعاج من كلام بري للبطريرك صفير حول إعادة الانتشار السوري. ويرى المراقبون أن تصريح بري حول القمة عكس مخاوف دمشق من عدم التركيز على العناوين الرئيسية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي، والانشغال عنها بموضوع مكافحة الإرهاب، كما تطالب أميركا، لذلك يكون رئيس المجلس قد عبّر عن رغبة دمشق في التحذير من خطر الانزلاق نحو موقع محايد كالموقع الذي اختاره وزراء الخارجية. ويكون بالتالي قد فجرّ غضبه ضد رئيس الحكومة، وأجبره على التقيد بنظام المحاصصة المتفق عليه بين الرؤساء الثلاثة. ومن المؤكد أن سورية تستفيد من أجواء الخلاف لأن زعماء لبنان يثبتون لها دائماً أن تدخلها أصبح حاجة يفرضها الوفاق الوطني... وان وساطتها المستمرة تؤكد ما قاله الرئيس الياس الهراوي مرة "ان لبنان لم يبلغ سن الرشد بعد!". إضافة إلى خلافات الرؤساء الثلاثة، انشغل اللبنانيون مع ألوف السياح العرب، بتتبع أخبار المداهمة التي قام بها رجال الأمن لشركة "فيرجين" في بيروت. وجاءت المداهمة تحت شعار الحفاظ على مكارم الاخلاق، الأمر الذي يبشر بظهور حركة "طالبانية" جديدة. وهي حركة أطلقتها وزارة الداخلية لأسباب عائلية تتعلق بأحد مالكي المتجر، ولكنها تعمل تحت مظلة مكافحة الرذيلة عن طريق مصادرة أفلام المرحومة مارلين مونرو واليزابيث تايلور. ومن الواضح أن قائمة الممنوعات كُتبت في وزارة كمال جنبلاط مطلع الستينات، أي قبل وصول شبكات التلفزيون إلى لبنان وإمكان حصول أي مشترك على ستمئة محطة بينها 75 محطة تبث أفلاماً خلاعية. ولقد أكد صاحب الشركة البريطانية ريتشارد برانسون، في رسالة إلى مسؤول لبناني كبير، أن شركاءه في بيروت يحرصون على تجنيبه أي خطأ يسيء إلى سمعة أكبر شركة فنية من نوعها في أوروبا والعالم. وربما دفعته هذه الحادثة المفتعلة إلى اتخاذ قرار بنقل حق الامتياز إلى عاصمة عربية أخرى، خصوصاً أنه تلقى عروضاً مغرية لذلك. ولكنه آثر المشاركة في حملة الاستثمار، وارتدى السروال الجبلي أثناء حفلة الافتتاح مع رئيس الحكومة. واعتبرت مشاركته في حينه خطوة مهمة استثمرها لبنان كمادة تسويق لاقناع المترددين بأن صاحب أكبر اسطول طائرات مدنية في أوروبا والعاشر في قائمة اثرياء بريطانيا، قرر المساهمة وإعلان ثقته بمستقبل لبنان! زوار لبنان في هذه الحقبة حاولوا الابتعاد عن همومه السياسية والأمنية، ولكنهم غرقوا في لجة هموم الطاقة والاقتصاد، ذلك ان عواصف الطبيعة وما خلفته من طرقات مقطوعة ومرافئ مقفلة، تزامن حدوثها مع انقطاع التيار الكهربائي. وكالعادة في مثل هذه الظروف، تضيع المسؤولية وتقع الملامة على أصغر الموظفين وأقلهم حصانة ورعاية، وإلى أن تظهر هذه الضحية الإدارية، سارعت مؤسسة كهرباء لبنان لتبرير قصورها بالادعاء أن الطقس العاصف خانها، وبأن مؤسسة كهرباء سورية أوقفت تزويدها بمادة "الفيول اويل" بسبب تلكؤ وزارة المال في دفع المستحقات البالغة أكثر من 120 مليون دولار. وهي طبعاً تناست المتعهدين اللبنانيين اللذين توقفا عن تأمين المحروقات بعدما وصلت ديونهما على الدولة إلى 120 مليون دولار، فخسرا من جراء ذلك موافقة المصارف على فتح الاعتمادات. ولقد تكرم عليهما الوزير فؤاد السنيورة "بعيدية" لا تزيد قيمتها على ما يساوي أربعة ملايين دولار، دُفعت بالعملة اللبنانية. ولما اعترضا على تنصل الدولة من التزاماتها، قيل لهما إن مؤسسة كهرباء سورية قبلت بتقسيط الدين على مدة سنتين 7 ملايين في الشهر، وان الحمية الوطنية تفرض عليهما التضحية ولو بخسارة نصف المبلغ المستحق. وكان من الطبيعي أن تحدث هذه الديون المتنامية اهتزازاً في السوق المالية، الأمر الذي دفع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى تطمين الناس عبر التلفزيون. كما دفع رئيس الحكومة رفيق الحريري إلى القول ان اتفاق الشراكة مع أوروبا سيسهم في تقريب الدول الأوروبية من الموقف اللبناني، ويجعلها أكثر تفهماً للوقوف إلى جانبه في اجتماع باريس - 2. ثم زاد على حملة التطمين قوله بأن التوقيع بالأحرف الأولى يحتاج إلى ثلاثة أشهر قبل التوقيع على الصيغة النهائية. ومعنى هذا أن مؤتمر القمة سيمنحه فرصة شهرين لتأجيل موعد تقديم العلاج الاقتصادي... وان اتفاق الشراكة الثاني مع أوروبا سيزوده بطاقة كافية لدفع قطار الدولة حتى آخر الربيع. وعندما يحل الصيف يبدأ الحديث عن باريس - 2. وهكذا تكون "طبخة البحص" التي وعدت الأم الفقيرة أولادها بنضوجها، قد "نضجت" فعلاً وإنما تحت نار الاضرابات والاضطرابات التي تهدد النقابات والاتحادات باشعالها. والسبب ان دول الاتحاد الأوروبي واليابان لن تقدم القروض الميسرة إلى لبنان من دون موافقة الولاياتالمتحدة. وحتى في حال الحصول عليها، فإن 400 مليون دولار لن تكون كافية لحل مسألة الديون. وهذا ما يفسر خلاف بري والحريري على رئاسة الضمان الاجتماعي، وضرورة تحييده، لأن أمواله تخص آلاف المتقاعدين وتعويضات نهاية الخدمة. شدني - وأنا في طريق العودة إلى لندن الأسبوع الماضي - حديث شيق تبادله شاب مغترب يعمل في الولاياتالمتحدة مع والده المنتقل حديثاً إلى بيروت بعد غياب دام عشرين عاماً. سمعت الشاب الجالس إلى جواري، يشكو بأن وقته لم يسمح له بمشاهدة إحدى مسرحيات "الساعة العاشرة". وعلق الوالد بلهجة المتذمر: يكفي أن تشاهد أهل السياسة على شاشة التلفزيون لكي تدرك أن "مسرح الساعة العاشرة" قد انتقل إلى استديوهات القنوات التلفزيونية. وردّ عليه ابنه بنبرة احتجاج: يصعب عليّ جداً رسم الصورة الوردية التي ترسمها لي دائماً في أحاديثك عن لبنان الذي غادرته قبل 1975. يجب أن تقتنع بأن لبنان الماضي كان يعيش في عالم آخر غير عالم الحاضر. وأنا سعيد بهذا العالم... وقاطعه والده قائلاً: يؤسفني أن أصحح لك هذه النظرة الخاطئة، وأقول إن لبنان الذي عرفته لم يكن منتمياً إلى عالم مختلف، بل إلى حضارة وذهنية وتقاليد وثقافة وسياسة وشرعية مختلفة. والمؤسف أن الذين اشعلوا نار الحرب - من مختلف الجهات - بحجة اصلاح النظام، عطلوا آلية المعايير الديموقراطية واستبدلوها بمعايير فوضوية لا تصلح نموذجاً لتأمين انتقال لبنان من عالم ما قبل 1975 إلى عالم ما بعد 1990. وهذا ما أفرغ لبنان من القدرة على تجديد التحامه بالميراث القديم، في وقت هجرته كل القوى الفاعلة التي استوطنت المهاجر. وسأل الشاب باستغراب والده عن الحل، مؤكداً أن لبنان تعرض لمتغيرات جمة. وأجابه الوالد: فشلت المتغيرات السياسية في اجتراح أي حل، لأنها لم تكن جذرية، بل سطحية. وهكذا نرى أن أزمتنا ليست أزمة رجال فقط، بل هي أزمة نظام مبتور يحتاج إلى نقلة نوعية في إدارة الشؤون العامة. صحيح أن اتفاق الطائف حدد طبيعة الدولة ولكنه تجاهل عن عمد تحديد طبيعة السلطة التي تدير البلاد. وهذا في رأيي، السبب الأول الذي أفرز هذه الفوضى. وضحك الشاب بارتياح، مؤكداً أن أجواء الفوضى أعجبته وشدته للرجوع. وهز الوالد رأسه بامتعاض، وأجابه: ألم أقل لك انني أزور وطناً آخر غير الوطن الذي ولدت فيه، وعشت فيه أحلى أيام العمر... *** وعندما بلغ النقاش هذا الحد من الحوار التصادمي، اقتنعت أنا أيضاً بأنني كنت أزور وطناً آخر يدعى لبنان! * كاتب وصحافي لبناني.