لم يحدث ان لعبت وسائل الاعلام مثل هذا الدور الحاسم في تقرير مسار حرب مثلما فعلت خلال انتفاضة الأقصى، والتي أصبحت، بقدر ما يعني الأمر الاعلام الغربي، معركة صور وأفكار. إذ ضخّت اسرائيل مئات الملايين من الدولارات على ما يطلق عليه بالعبرية "هاسبارا"، أو المعلومات الموجهة الى العالم الخارجي أي الدعاية. واشتمل ذلك على مجموعة كاملة من المساعي: ولائم ورحلات مجانية لصحافيين نافذين، وندوات لطلبة جامعات يهود تعقد في ضواحي ريفية منعزلة وتستمر اسبوعاً لشحذ قدراتهم على "الدفاع" عن اسرائيل في الحرم الجامعي، وإمطار اعضاء الكونغرس رجالاً ونساءً بدعوات وزيارات، وإصدار مطبوعات، والأهم من ذلك رصد اموال، للحملات الانتخابية، وتوجيه او، كما يقتضي الأمر، مضايقة مصورين وكتاب ممن يقومون بتغطية وقائع الانتفاضة لانتاج صور بعينها من دون سواها، وتنظيم محاضرات وعروض موسيقية جوالة لشخصيات اسرائيلية بارزة، وتدريب معلقين سياسيين على الاكثار من الاشارة الى المحرقة ومحنة اسرائيل الحالية، ونشر اعلانات كثيرة في الصحف تهاجم العرب وتمتدح اسرائيل، وهكذا دواليك. ولأن كثرة من الأشخاص النافذين في وسائل الاعلام ومجال النشر هم مؤيدون أقوياء لإسرائيل فإن المهمة تصبح أسهل الى حد كبير. وعلى رغم أن هذا كله لا يمثل سوى القليل من الوسائل التي تستخدمها أية حكومة حديثة لبلوغ اهدافها، سواءً كانت ديموقراطية ام لا، منذ الثلاثينات والأربعينات - من أجل ضمان قبول وموافقة مستهلك الأنباء - فإنه لم يسبق لأي حكومة أو جماعة ضغط ان استعملتها في الولاياتالمتحدة بصورة أشد فاعلية ولمدة أطول مما فعلت اسرائيل. وصف أورويل هذا التضليل ب"ذروة الإخبار" أو "تبني فكرتين متناقضتين في الوقت ذاته"، والغرض منه هو التستر على الاعمال الاجرامية، خصوصاً قتل الناس من دون وجه حق، عبر مظهر خادع من التبرير والعقلنة. وفي حال اسرائيل، التي سعت دائماً الى إسكات الفلسطينيين أو تغييبهم فيما تسلبهم أراضيهم، أدى هذا في الواقع الى كبت الحقيقة أو قسم كبير منها، بالاضافة الى تزوير هائل للتاريخ. وما أرادت اسرائيل ان تبرهنه بنجاح للعالم كله خلال الأشهر القليلة الماضية هو انها ضحية بريئة للعنف والارهاب الفلسطينيين، وان العرب والمسلمين ليس لديهم أي سبب للدخول في نزاع معها سوى كره لاعقلاني مستحكم لليهود، لا أكثر ولا أقل. والشيء الذي اكسب هذه الحملة تأثيراً قوياً هو شعور الغرب المستديم بذنب اللاسامية. وما الذي يمكن أن يكون أكثر نجاعة من القاء هذا الذنب على عاتق شعب آخر، العرب، الأمر الذي لا يساعد المرء على التحلل من ذنبه فحسب، بل يجعله مشبعاً بإحساس بالرضا أيضاً لأن شيئاً ما تم انجازه لأجل شعب مغلوب على أمره بشدة ومُساء اليه؟ ان الدفاع عن اسرائيل بأي ثمن - بالرغم من كونها في حال احتلال عسكري لاراضي الفلسطينيين، ولديها جيش قوي، وكونها تقوم بقتل وجرح فلسطينيين بنسبة 4 أو 5 الى واحد - هو الهدف الأساسي للدعاية. هذا بالاضافة الى الاستمرار في ما تفعله، لكن مع الظهور رغم ذلك بمظهر الضحية. لكن النجاح غير العادي لهذا الجهد الفريد من نوعه واللاأخلاقي يعزى، من دون شك، في جانب كبير منه ليس الى التخطيط والتنفيذ الدقيق للحملة فحسب بل أيضاً الى غياب الجانب العربي عملياً. وعندما يراجع مؤرخونا الخمسين سنة الأولى من وجود اسرائيل، سيجدون ان مسؤولية تاريخية جسيمة يتحملها القادة العرب الذي سمحوا بصورة اجرامية - أجل اجرامية - لكل ذلك ان يستمر من دون أي رد مهما كان ضئيلاً وفاتراً. وبدلاً من ذلك قاتل كل منهم الآخر، أو اعتمد على الفكرة الانانية الخائبة التي مفادها انهم بمحاولتهم الفوز بالحظوة لدى الحكومة الأميركية وحتى ان يصبحوا اتباعاً للولايات المتحدة فإنهم سيؤمنون لأنفسهم الاستمرار في السلطة، بغض النظر عما إذا كان ذلك في مصلحة العرب أم لا. وبلغت هذه الفكرة حداً من الرسوخ جعل حتى القيادة الفلسطينية تؤيدها، ونتيجة لذلك، وحتى مع تواصل الانتفاضة، لا يملك الأميركي العادي أدنى فكرة بأن ثمة سيرة لعذاب الفلسطينيين وتشريدهم لا يقل عمرها عن عمر اسرائيل ذاتها. في غضون ذلك، يأتي القادة العرب مهرولين الى واشنطن ليستجدوا الحماية الأميركية حتى من دون ان يدركوا حقيقة ان ثلاثة اجيال من الأميركيين ثُقّفوا بالدعاية الاسرائيلية للنظر الى العرب باعتبارهم ارهابيبن كذبة لا يجوز التعامل معهم، ناهيك عن حمايتهم. منذ عام 1948 لم يكلّف القادة العرب انفسهم عناء التصدي للدعاية الاسرائيلية في الولاياتالمتحدة. وكل أموال العرب الطائلة التي انفقت على التسلح في البداية على اسلحة سوفياتية، وبعدئذ على اسلحة غربية لم تثمر شيئاً، لأن المساعي العربية لم تدعم بالمعلومات او توضح عبر جهد تنظيمي صبور ومنظم. والنتيجة هي ان مئات الآلاف من أرواح العرب ذهبت مقابل لا شيء، لا شيء اطلاقاً. واُقنع مواطنو القوة العظمى الوحيدة في العالم بأن كل ما يفعله العرب مدمر وعنفي ومتعصب ومناهض للسامية، وان اسرائيل هي حليف"نا" الوحيد. وهكذا فإن 92 بليون دولار من المساعدات تدفقت منذ عام 1967 على الدولة العبرية، من دون مساءلة، من دافعي الضرائب الأميركيين. وكما قلت سابقاً فإن الغياب المطلق للتخطيط والتفكير العربيين إزاء ميدان السياسة والثقافة في الولاياتالمتحدة مسؤول الى حد كبير ولكن ليس كلياً عن الحجم المذهل من أراضي العرب وأرواحهم التي خسروها امام اسرائيل المدعومة مالياً من جانب الولاياتالمتحدة منذ عام 1948، وتلك جريمة سياسية كبرى آمل ان يتحمل القادة العرب يوماً ما المسؤولية عنها. اذكر انه أثناء حصار بيروت عام 1982 عقدت مجموعة كبيرة غير حكومية من رجال الأعمال الفلسطينيين الناجحين ومثقفين مرموقين اجتماعاً في لندن لتأسيس صندوق لمساعدة الفلسطينيين على كل الصعد. وساد شعور بأنه في الوقت الذي تعاني فيه منظمة التحرير الفلسطينية الحصار في بيروت وتعجز عن القيام بشيء يذكر، فإن تعبئة من هذا النوع قد تساعدنا على مساعدة انفسنا. كما أذكر انه في الوقت الذي جمعت التبرعات بسرعة، اُتخذ بعد مناقشات مطولة قرار بأن يخصص نصفها للجهد الاعلامي في الغرب، لأنه أخذاً في الاعتبار ان الفلسطينيين كانوا - كالعادة - يُضطهدون من جانب اسرائيل من دون ان يرتفع صوت في الغرب لنصرتهم، فإن من الضروري انفاق هذه الأموال على اعلانات وفقرات في وسائل الاعلام وجولات وما شابه، من أجل جعل مهمة قتل الفلسطينيين واضطهادهم من دون حساب وبغفلة من العالم امراً صعباً. وكان ذلك، حسب اعتقادنا، مهماً في اميركا بوجه خاص حيث كانت أموال دافعي الضرائب تُصرف لتمويل حروب اسرائيل ومستوطناتها واحتلالها اللاشرعي. اُتبعت هذه الخطة لحوالي عامين، وبعدئذ، لأسباب لم افهمها بشكل كامل اطلاقاً، جرى بشكل مفاجئ وقف الجهود لمساعدة الفلسطينيين في الولاياتالمتحدة. وعندما سألت عن السبب اخبرني فلسطيني كان جمع ثروة في الخليج بأن "تبذير الأموال" في اميركا كان تبديداً. والحال ان هذا النشاط الانساني لا يزال مستمراً ويكرّس للأراضي المحتلة ولبنان حصراً حيث تقوم هذه الجمعية بعمل جيد ولكنه ضئيل جداً بالمقارنة مع المشاريع التي يمولها الاتحاد الأوروبي ومؤسسات اميركية كثيرة. قبل اسابيع قليلة نظمت اللجنة الأميركية العربية لمناهضة التمييز ADC، وهي أكبر منظمة للامييركين العرب في الولاياتالمتحدة وأكثرها فاعلية، استطلاعاً للرأي العام حول الرؤية الأميركية الراهنة للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. شمل الاستطلاع عينة كبيرة من السكان، وجاءت النتائج مدهشة حقاً، إن لم تكن محبطة. فقد اظهرت انه لا يزال يُنظر الى الاسرائيليين بوصفهم شعب ديموقراطي ريادي على رغم ان أحداً من قادة اسرائيل لم يحقق نتائج جيدة في الاستطلاع. وحظيت فكرة اقامة دولة فلسطينية بقبول 73 في المئة من الشعب الأميركي، وتلك كانت نتيجة مفاجئة جداً. وتفسير هذه الارقام هي انك عندما تسأل اميركياً متعلماً ممن يشاهدون التلفزيون ويطالعون صحفاً نخبوية اذا ما كان يتماهى مع كفاح الفلسطينيين من أجل الاستقلال والحرية، فإن الاجابة تأتي على الاغلب بالايجاب. اما إذا سُئل الشخص نفسه عن رأيه بالفلسطينيين فإن الجواب يكاد يكون سلبياً دائماً: العنف والارهاب. فصورة الفلسطيني هي انه متصلب، وعدواني، و "غريب"، أي انه ليس مثل"نا". وحتى حينما يُسأل عن الاطفال رماة الحجارة، الذين نراهم نحن مثل داود في مواجهة غولياث الجبار، فإن معظم الأميركيين يرون العدوان بدلاً من البطولة. إذ ما يزال الأميركيون يلومون الفلسطينيين على عرقلة عملية السلام، وبوجه خاص مفاوضات كامب ديفيد. ويُنظر الى عمليات التفجير الانتحارية باعتبارها "غير انسانية" ومدانة كلياً. إن الانطباع الذي يحمله الأميركيون عن الاسرائيليين ليس أفضل من ذلك بكثير، وان كان هناك تماه أكبر معهم كشعب. لكن المقلق في الأمر انه لم يعرف بالكاد أي من الاميركيين الذين اُستطلعت آراؤهم أي شيء اطلاقاً عن قصة الفلسطينيين، لا شيء عن 1948، ولا شيء البتة عن احتلال عسكري اسرائيلي غير شرعي عمره 34 عاماً، فنموذج السرد الرئيسي المهيمن على التفكير الأميركي لا يزال، حسب ما يبدو، هو رواية ليون يوريس "سفر الخروج" 1950. وما يثير القلق أيضاً هو حقيقة ان أشد الاشياء سلبية في الاستطلاع انما هي آراء الأميركيين وأقوالهم عن ياسر عرفات: بذلته العسكرية توحي ب"التطرف" من دون داعٍ، وكلامه، وحضوره. الخلاصة اجمالاً، إذاً، هي ان الفلسطينيين لا ينظر اليهم في سياق قصتهم بالذات ولا في سياق صورة انسانية يستطيع الناس أن يتماهوا معها بسهولة. إذ نجحت الدعاية الاسرائيلية الى درجة بدا معها الفلسطينيون لا يتمتعون في الواقع بشيء يذكر من الخصال الايجابية. فقد نُزعت انسانيتهم بالكامل تقريباً. خمسون عاماً من الدعاية الاسرائيلية التي لم يعترضها أحد في اميركا أوصلتنا الى النقطة التي اصبحنا معها، لأننا لا نقاوم أو نتصدى لهذه التشويهات الشنيعة بأي وسيلة ذات شأن صور ورسائل خاصة بنا، نخسر آلاف الأرواح ودونمات الأرض من دون أن يحرّك ذلك ضمير أحد. كتب فيل ريفز، مراسل صحيفة "إندبندنت"، في 27 آب اغسطس بانفعال ان الفلسطينيين يموتون ويسحقون من جانب اسرائيل بينما يتفرج العالم بصمت. لذا يتوقف الأمر على العرب والفلسطينيين في كل مكان لأن يكسروا حاجز الصمت، بطريقة عقلانية ومنظمة ومؤثرة، ليس باطلاق النار أو بالنواح أو التشكي. يعلم الله اننا نملك من الأسباب ما يكفي للقيام بكل ذلك، ولكن المنطق البارد ضروري الآن. فلا وجود في العقل الاميركي بالتأكيد لتماثل مع نضال جنوب افريقيا التحرري أو مع المصير الفظيع لسكان أميركا الاصليين. ويجب علينا ان نبرز هذا التماثل بالتأكيد قبل كل شيء على انسانيتنا، وان نعكس بالتالي مسار العملية البشعة واللااخلاقية التي يدعو بموجبها كتاب الأعمدة الأميركيون من شاكلة تشارلس كراوتهمر وجورج ويل بوقاحة الى مزيد من اعمال القتل والقصف بحق الفلسطينيين، وهو ما لا يجرأون على القيام به تجاه أي شعب آخر. لماذا ينبغي ان نقبل باذعان مصير الذباب أو البعوض، ان نُقتل بطريقة جائرة بدعم اميركي كلما قرر مجرم الحرب شارون ان يبيد عدداً آخر منا؟ في هذا السياق أسعدني ان اسمع من زياد عسالي، رئيس اللجنة الأميركية - العربية لمناهضة التمييز، بأن منظمته توشك ان تشرع بحملة توعية اعلامية غير مسبوقة في وسائل الاعلام لإعادة التوازن وتقديم الفلسطينيين كبشر - هل لك ان تتخيل المفارقة الكامنة في مثل هذه الضرورة؟ -، كنساء معلمات وطبيبات وفي الوقت ذاته أمهات، كرجال يعملون في الحقول وعلماء ذرة، كبشر يرزحون لسنوات وسنوات تحت احتلال عسكري ولا يزالون يقاومون. وبالمناسبة، فإن احدى نتائج الاستطلاع المدهشة هي ان أقل من 3 أو 4 في المئة من العينة المختارة لديها أي فكرة عن وجود احتلال اسرائيلي في المقام الأول. اذاً حتى الحقيقة الرئيسية بشأن وجود الفلسطينيين محتها الدعاية الاسرائيلية. هذا الجهد لم يُبذل من جانب في الولاياتالمتحدة: لقد مرت خمسون سنة من الصمت الذي يوشك أن يُكسر. وعلى رغم تواضعها، فإن حملة اللجنة الأميركية - العربية لمناهضة التمييز هي خطوة كبيرة الى الأمام، آخذين في الاعتبار ان العالم العربي يبدو كأنه في حال عجز سياسي وأخلاقي، وقادته مثقلون بروابطهم مع اسرائيل، والأهم من ذلك مع أميركا، ما أبقى شعوبهم في حال توتر وقمع. ومثلما فعلوا هم ورفاقهم اللبنانيون الشجعان عام 1982 عندما لقي 19 ألف شخص حتفهم على يد القوة العسكرية الاسرائيلية، فإن الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية يموتون ليس لأن اسرائيل تملك القدرة على قتلهم بلا حساب، ولكن أيضاً لأنه وللمرة الأولى في التاريخ الحديث سهّل التوليف الفعال بين الدعاية في الغرب والقوة العسكرية الذي وضعته اسرائيل وحلفاؤها، إيقاع العقاب الجماعي المستمر بحق الفلسطينيين، بمساعدة دولارات الضرائب الأميركية، حيث تذهب خمسة بلايين دولار سنوياً الى اسرائيل. وبعد تجريدهم من تاريخهم وانسانيتهم يصور الاعلام الفلسطينيين كعدوانيين ورماة حجارة عنيفين فقط، الأمر الذي سهل مهمة بليد الحس ولكن الداهية السياسي جورج بوش بأن يلوم الفلسطينيين على العنف. تسعى الحملة الجديدة للجنة الأميركية - العربية لمناهضة التمييز لإعادة التاريخ والانسانية للفلسطينيين وان تعيدهم كما هم دائماً بشراً "مثلنا" يقاتلون من أجل حقهم في العيش بحرية وأن يربوا أطفالهم وأن يموتوا بسلام. وفي اللحظة التي يخترق فيها حتى ولو بصيص من هذه القصة الوعي الأميركي، فإن الحقيقة، كما آمل، تبدأ بتبديد الغيمة الهائلة للدعاية الشريرة التي غطت بها اسرائيل الحقيقة. وطالما اتضح ان الحملة الاعلامية لا يمكنها ان تتجاوز هذا الحد فالأمل آنذاك ان العرب سيشعرون بما يكفي من القوة لخوض المعترك السياسي في الولاياتالمتحدة كي يحاولوا كسر وتعديل وفك الحلقة التي تشد السياسة الأميركية بإحكام الى اسرائيل. * أستاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا.