لا بد للضربة الدامرة التي تلقتها أميركا في 11 أيلول سبتمبر أن تترك أثراً عميقاً في تفكيرها. ولم تتردد غالبية المعلقين هناك في توجيه اصبع الاتهام الى أسامة بن لادن، الرجل الذي تعتبره الولاياتالمتحدة "العدو الرقم واحد". كما سارع كثيرون الى افتراض ان الادلة ستقود حتماً في النهاية الى واحدة من المجموعات المتشددة في العالم العربي او الاسلامي. لكن ليس هناك الى الآن دليل واحد على هذه التهمة. كما ان الدوافع لكره الولاياتالمتحدة لا تقتصر على العرب والمسلمين. فهناك حركة متنامية في انحاء العالم من الناشطين المعارضين للعولمة، وهناك ما يسمى "ارهابيو البيئة" الذين يعتقدون أن سياسات اميركا تحمل الخطر الى مستقبل الكرة الأرضية. كما يجب ان لا ننسى، في اميركا نفسها، وجود اولئك المعادين للحكومة الفيدرالية، مثل تيموثي ماكفي الذي قام بتفجير المبنى الفيديرالي في أوكلاهوما، واخيراً وليس آخراً مختلف المجموعات الراديكالية في العالم الثالث التي تحمّل أميركا مسؤولية ما تعانيه بلادها من التعاسة والدمار. ووجد الكثيرون من هؤلاء الراديكاليين أن النتائج غير المتوقعة لمؤتمر ديربان أكدت عمق العنصرية التي جاء المؤتمر لادانتها! والواقع ان اميركا واسرائيل لم تكونا وحدهما المسؤولتين عن ذلك، بل ارتفعت في المؤتمر أصوات أوروبية رفضت الاعتراف بالجرائم التاريخية بحق الشعوب، ما شكل رسالة بشعة صدمت بقية العالم. على رغم ذلك فإن الخطاب السياسي الغربي السائد بادر فوراً الى وضع مسؤولية الهجوم على نيويورك وواشنطن على العرب والمسلمين. ويعتبر كثيرون ان الشرق الأوسط هو المنبع الرئيسي للعنف الموجه الى اميركا، مثلما في الهجوم على المدمرة كول في ميناء عدن وتفجير السفارتين الأميركيتين في شرق أفريقيا قبل ذلك. والآن ها هم الارهابيون يوجهون ضربتهم الهائلة الى قلب أميركا. كيف سترد الولاياتالمتحدة على هذا الهجوم؟ هل ستدفعها موجة من الغضب الأعمى ضد العرب والمسلمين الى الانتقام من دول ومنظمات عربية واسلامية مثلما حصل في الماضي؟ هل سيؤدي الهجوم الى توثيق التحالف، الوثيق اصلاً، مع اسرائيل، وهو ما يريده صقور السياسة الأميركية واسرائيل؟ أم هل سيبدأ صانعو القرار الأميركي بالتفكير في أسباب العداء العميق لدى الكثيرين في انحاء العالم تجاه الولاياتالمتحدة؟ بكلمة اخرى، هل ستكون عملية ال"كاميكاز" هذه ضد مانهاتن والبنتاغون الصدمة التي تدفع الولاياتالمتحدة الى اعادة النظر في سياساتها؟ هذا هو السؤال الجوهري. عليّ القول فوراً، من منظور أخلاقي، ان عمليات كهذه لا بد أن تثير اعمق الاشمئزاز وتستحق أقسى الادانة، لأنها تنتهك "قواعد الحرب" وتؤدي الى قتل واصابة الأبرياء. كما ان هذا الاستعداد من قبل البعض للانتحار ونحر الآخرين لا بد ان يشي بانحراف ذاتي عميق. ولا تستطيع غالبية البشر فهم هذا النوع من التضحية بالذات، الذي يشتهر باسم "كاميكاز" نسبة الى الطيارين اليابانيين الانتحاريين في الحرب العالمية الثانية، لأنه يناقض التوجه الغريزي لدى الانسان. لكن علينا ان نلاحظ بالمقابل أن دولاً كثيرة تنتهك "قواعد الحرب"، أو انتهكتها في الماضي. فقد قتلت الولاياتالمتحدة اعداداً هائلة من المدنيين الأبرياء في فيتنام وكمبوديا وأميركا اللاتينية والعراق والكثير من الأمكنة الأخرى، ناهيك عن قتل عشرات الألوف من اليابانيين الأبرياء في الهجومين النوويين على هيروشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية. وهناك أيضاً بريطانيا وقصفها الجوي الشامل لمدن المانيا الذي أودى بمئات الألوف من المدنيين، تلك الاستراتيجية المشبوهة اخلاقياً، والتي لا تزال مثار النقاش الحاد. هناك في الشرق الأوسط سببان رئيسيان للحقد المتزايد على اميركا. الأول استمرارها في معاقبة المدنيين العراقيين بعد عشر سنوات على حرب الخليج، والثاني دعمها لانتهاكات اسرائيل العسكرية والسياسية. وربما أمكن القول ان السبب الثاني هو الأشد الهاباً لمشاعر العرب والمسلمين. فقد أبدت اسرائيل منذ أيامها الأولى استهتاراً كاملاً بحياة العرب كبشر، وأعملت بالمدنيين الفلسطينيين قتلاً وتنكيلاً منذ 1948، كما قتلت عشرات الألوف من العرب في هجماتها الرئيسية على لبنان في 1978 و 1982 و 1996 اضافة الى اعداد اخرى كبيرة في الهجمات الثانوية - وكل ذلك بفضل المساعدات الأميركية والسلاح الأميركي. ولا ننسى ان نحو 19 ألف فلسطيني ولبناني قتلوا في الأسابيع الأولى من الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982 - ذلك الاجتياح الذي لم تحاول الولاياتالمتحدة منعه، بل ربما شجعت عليه. كما ان عمليتي "المحاسبة" في 1993 و "عناقيد الغضب" في 1996 تقصّدتا استهداف المدنيين. وكانت استراتيجية اسرائيل قتل وجرح اعداد كبيرة من سكان الجنوب، لبنانيين وفلسطينيين، بما يكفي لترويع مئات الألوف منهم ودفعهم الى التدفق على بيروت بما يشكل ضغطاً على الحكومة اللبنانية لوقف عمليات "حزب الله" وحماية الجنود الاسرائيليين في الشريط المحتل. وبلغت عملية "عناقيد الغضب" ذروتها بمجزة قانا، التي ادعى الاسرائيليون انها جاءت خطأً، وان مدفعيتهم لم تتقصد استهداف قاعدة الأممالمتحدة هناك حيث كان يحتمي المئات من المدنيين. الاّ ان الأدلة تشير الى عكس ذلك. فقد قصفت اسرائيل القاعدة لأن استراتيجيها دارت على ارسال موجة هائلة من السكان المرعوبين الى بيروت، وهي الاستراتيجية التي كان سيضعفها تكفل الأممالمتحدة بحماية المدنيين. هذه العمليات الاسرائيلية البشعة التي استهدفت المدنيين تشكل حسب كل المقاييس المعروفة جرائم حرب. دعونا ننتقل الآن من الصورة الكبيرة والمخيفة في الولاياتالمتحدة الى المشهد المحلي في الشرق الاوسط. في ضوء ما عاناه الفلسطينيون، هل يصبح شيئاً مشروعاً ان يوجهوا ضربات الى المدنيين الاسرائيليين بتنفيذ عمليات تفجير انتحارية؟ من الخطأ بالتأكيد، من منظور اخلاقي، ان يُقتل مدنيون ابرياء مهما كان خلاف المرء مع حكومتهم. لكن اذا وضعنا جانباً المسألة الاخلاقية، ينبغي للمرء ان يتساءل هل كانت التفجيرات الانتحارية مؤثرة او غير مؤثرة. للاجابة عن هذا السؤال يجب ان نتفحص اهداف منفذي التفجيرات الفلسطينيين والرجال الذين ارسلوهم في هذه المهمات. ولا بد للمرء ان يفترض ان معظم منفذي التفجيرات يدفعهم الألم وتعطش أعمى للانتقام. فهم يريدون ان يضربوا العدو الاسرائيلي - أي اسرائيلي - لأن حياتهم وحياة عائلاتهم واصدقائهم اصبحت لا تُطاق جراء الاضطهاد الذي تمارسه اسرائيل. "انهم يجعلوننا نعاني، لذا يجب ان نجعلهم يعانون!". لكن الرجال الذين يبعثون بمنفذي التفجيرات في المهمات التي يكلفون بها - وبعض منفذي التفجيرات ذاتهم - لهم اهداف اكثر تعقيداً من مجرد الانتقام. ما هي هذه الاهداف؟ انها غالباً ما تكون متداخلة، لكن قد يكون من المفيد ان نسعى الى التمييز في ما بينها. * اولاً وقبل كل شيء، يسعى منفذو التفجيرات الى تحقيق توازن الارهاب. الارهاب الفلسطيني يهدف الى ردع الارهاب الاسرائيلي. "اذا قتلت ابناء شعبي، فإن ابناء شعبك سيُقتلون!". الهدف هو إجبار الحكومة والجيش الاسرائيليين على ممارسة ضبط النفس والتردد قبل توجيه ضربات الى الفلسطينيين لان الاسرائيليين سيدفعون ثمناً باهظاً. ولا شك ان الارهابيين الذين وجهوا ضربات الى الولاياتالمتحدة يسعون ايضاً الى تحقيق توازن الارهاب. * ثانياً، والاكثر أهمية، يريد الفلسطينيون عبر توجيه ضربات الى "عمق" اسرائيل ان يقنعوا الاسرائيليين بانهم سيدفعوا ثمناً باهظاً مقابل احتلالهم. وهم يريدون ان يجبروا الاسرائيليين على تسليط ضغوط على حكومتهم كي تنسحب من الاراضي المحتلة. الهدف الرئيسي لمنفذي التفجيرات اذاً هو انهاء الاحتلال. وحجتهم هي كالآتي: اذا استهدف الفلسطينيون المستوطنين والعسكريين الاسرائيليين وحدهم فإن جمهور الاسرائيليين في تل ابيب والقدس وحيفا، وفي عكا ونتانيا والبلدات الجديدة في النقب، لن يتنبهوا الى كلفة الاحتلال. فنقل الحرب الى قلب اسرائيل هو وحده الذي سيجعل الجمهور الاسرائيلي يدرك ان الوقت قد حان لاعادة المستوطنين الى اوطانهم والانسحاب من الاراضي المحتلة والسماح بقيام دولة فلسطينية. لا شك ان اولئك الذين يوجهون ضربات الى اميركا سيقدموا الحجة ذاتها. فنقل الحرب الى عمق اراضي الولاياتالمتحدة هو وحده الذي سيجعل الاميركيين يدركون ان تأييدهم الوحيد الجانب لاسرائيل يولّد الكره واصبح عبئاً مكلفاً يجب ان يدفعوا ثمنه. هذه الحجة لها اهميتها. فالتفجيرات الانتحارية هزت بقوة الرأي العام في اميركا واسرائيل. وقد بثّت الرعب في قلوب الاميركيين العاديين والاسرائيليين العاديين. في اسرائيل، نجح منفذو التفجيرات في استنزاف معنويات الاسرائيليين. لقد اجبروا اسرائيليين كثيرين على ان يغيّروا نمط حياتهم وان يفكروا مرتين قبل التسوق في اسواق مكتظة او ارتياد المطاعم او ركوب الباصات. اعتادت اسرائيل ان تضرب العرب، لا أن تتعرض للضرب. وانتابها غضب شديد وفقدت رباطة جأشها بسبب التفجيرات الانتحارية التي تفضّل ان تصوّرها على انها من دون دافع سياسي بل من عمل متعصبين غُسلت ادمغتهم. ويكتشف الاسرائيليون ببطء فحسب ان التفجيرات هي رد على على سلوكهم الوحشي بالذات، وبدأوا يشككون باحتلالهم والاساليب التي يعتمدونها. واعتادت الولاياتالمتحدة هي ايضاً توجيه الضربات، لأن ان تتعرض الى الضرب. وهي ايضاً ينتابها غضب شديد وتفقد رباطة جأشها بسبب التفجيرات. فهل ستسعى الى الانتقام فحسب، او انها ستعيد النظر في سياساتها ومسؤولياتها كقوة عظمى؟ تثير التفجيرات الانتحارية، عدا لاأخلاقيتها السافرة، اشكاليات اخرى يمكن ان تضعف فاعليتها على نحو خطير. فبالنسبة الى كثير من الاسرائيليين تُفسّر التفجيرات الانتحارية داخل اسرائيل، بشكل خاطيء لا ريب، على انها تثبت ان الفلسطينيين لا يميزون بين الاراضي المحتلة واسرائيل. بمعنى آخر، يُدفع الاسرائيليون الى الاعتقاد بان الفلسطينيين - من السلطة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات الى "حماس" و "الجهاد الاسلامي" - لا يسعون الى انهاء الاحتلال فحسب بل يريدون ان يدمروا دولة اسرائيل بالذات! ويبدو اسرائيليون كثيرون - والكثير من اصدقائهم في الخارج - مقتنعين حالياً بان وجود اسرائيل مهدد. وفي الصراع من اجل البقاء، يصبح كل سلاح، كل عمل وحشي، وكل رد مهما كان عنيفاً، شيئاً مبرراً. واذا كان الفلسطينيون اعلنوا الحرب على اسرائيل - ويُنظر الى التفجيرات الانتحارية على انها احد اشكال الحرب - فان اسرائيليين كثيرين سيجادلون على نحو قصير النظر بان اغتيال زعماء فلسطينيين من قبل اسرائيل، وتدميرها للبنية التحتية المدنية للفلسطينيين مثل محطة الطاقة في جنين، هو رد مبرر. وعلى نحو مماثل الى حد كبير، تعتبر الولاياتالمتحدة نفسها حالياً في حالة حرب مع الارهابيين الذين يعملون في الخفاء والذين تمكنوا من شل البلد الأقوى في العالم. وفي الحرب يعتبر كل سلاح، وكل رد عنيف، شيئاً مقبولاً ويصبح كل مشتبه به هدفاً مشروعاً. لكن لنأمل ان يسود منطق مختلف وان تراجع الولاياتالمتحدة بدقة سياساتها، والاّ تعميها الحاجة الى توجيه ضربات الى اعداء غير منظورين. فالترتيبات الامنية، مهما كانت محكمة، لا يمكن ان تحمي مجتمعات صناعية حديثة، كما اظهرت بوضوح الصور التي شاهدناها في 11 ايلول سبتمبر. الدرس الواضح من الاحداث الفظيعة التي شهدناها هو التالي: الضمان الوحيد لأمن الولاياتالمتحدة وحليفتها اسرائيل على السواء يكمن في تسوية عادلة وشاملة في الشرق الاوسط تلبي حقوق ومصالح كل الاطراف. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.