من قال إن المرأة خُلقت لتلعب دورها في المنزل فقط، ومَن قال إنها ليست قادرة على أن تكون عاملة وامرأة بكل ما تعنيه الكلمة من أنوثة وقوة شخصية وقدرة استيعاب وطاقة إنتاج؟ صحيح أن الأمومة جعلتها تتميَّز عن الرجل بطبيعتها البيولوجية وحتى النفسية المعطاء في بعض الدول المتقدمة كالسويد مثلاً يأخذ الأب إجازة أبوة 30 يوماً ليقوم بواجباته مع المولود الجديد إلا أن ذلك لا يحرمها من أن تكون إنساناً ناجحاً وفاعلاً في المجتمع. أما توزيع الأدوار ضمن العائلة فاختلف بحسب الأزمنة والمجتمعات. إذ توكل الى المرأة في المجتمعات البدائية، على سبيل الاستعباد أعمال تتطلب مجهوداً جسدياً كالزراعة في الحقل والحصاد، بينما تسند الى الرجل مهمات الصيد. وحتى اليوم في بعض الدول الشرق - آسيوية أو في المجتمعات المتخلفة نسبياً يبرز دور المرأة كمعيل جيد في العائلة، تعمل خارج المنزل بينما يقبع الزوج بلا عمل يلهو بالشراب والمقامرة. واليوم أصبحنا نشاهد في بعض العائلات نساء يعملن وهنّ متفوقات في مهنهن فيما يبرز دور الرجل في مجال آخر كرعاية الأولاد وإدارة شؤونهم والشؤون المنزلية من دون أن يحقق ذلك أي انتقاص لأيٍ من الثنائي، بل يجعله يبدو توازناً للتكامل. وفي عائلة يونس اللبنانية نرى الأدوار معكوسة بين الدكتورة والأم نانسي وزوجها وليد لكنها ادوار متوازنة. نانسي طبيبة اختصاصية في الأمراض الجلدية تعمل منذ أكثر من تسع سنوات من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً. وبداعي العمل وبسبب شغفها بمهنتها وجدت نانسي أنها تكرس نفسها رويداً رويداً لعملها. وبالمقارنة مع نساء عاملات - أو غير عاملات - تمضي نانسي وقتاً أقل مع عائلتها. أما زوجها وليد وهو العقل المدبر والمخطط لمشاريعها المهنية، فتضاعف دوره ضمن العائلة بعدما انحسر مجال عمله خلال الحرب بيع عقارات. وهو أيضاً وجد نفسه مسؤولاً عن أمور ادارية ومنزلية في غياب الماما نانسي. وتروي نانسي بداياتها في العمل وفي حياتها الزوجية فتقول إن انسحابها من المنزل أتى من دون سابق تصور أو تصميم: "أذكر عندما كنت حاملاً في أحد أيام البرد والعواصف انني كنت مصممة على التوجه الى عيادتي لمعاينة المرضى إلا أن وليد حاول إقناعي بالعدول معللاً ذلك بأنني لست مضطرة، فلا حاجة مادية ملحة لذلك وعليّ أن أداري كوني امرأة حاملاً. ولكنني عاندت الظروف المناخية واستقليت سيارة أجرة ولم أتخلف عن مواعيدي المهنية". وتضيف نانسي ان بعد تلك الفترة ازدهر عملها وبدأ زوجها يساعدها في تربية الأولاد.: "أذكر ان ابنتي كارلا كان عمرها ثمانية أشهر عندما اضطررت للذهاب الى المستشفى، فتأخرت قليلاً في العمل وعندما عدت رأيت وليد في حال ارباك فظيعة وقد لفّ الطفلة بأوراق الصحف وصرخ عند رؤيتي قائلاً: هذه المرة الأخيرة تتركين لي الطفلة وحدي. ولكن سرعان ما بدأ يتفهم عملي فتبدلت وجهة نظره حيالي ورأى بأم العين كم أعمل وأتعب، ففكّر بايجابية وقرر تدبر أمور المنزل بكاملها، وتجسَّد ذلك عبر نصحي بضرورة تحقيق كيان مستقل بي فأقنعني بشراء عيادة خاصة بي، وهو حالياً من يتابع كل ما هو جديد في تكنولوجيا الطب لاطلاعي عليه". ولكن لنانسي وجهة نظر معينة حيال المرأة الشرقية العاملة: "أمضيت أربع سنوات أناقش وزوجي عملي وغيابي عن المنزل فناضلت بعناد لآخذ مكانتي حيث أنا اليوم. إذ ليس من السهل على المرأة العاملة في عالمنا العربي أن تكون مرتاحة فتقع على عاتقها مسؤوليتان، الأولى عملها والمثابرة للتقدم فيه، والثانية عائلتها حيث يصعب عليها أن تتذمر أو تطالب بالراحة بعد يوم عمل طويل. وذلك امر مكتسب للرجل أو للأب العامل. لذا عليها أن تلبي في الوقت عينه متطلبات عائلتها. ما يميزها على الأرجح عن المرأة الغربية العاملة، فالشرقية تحرص أن تحافظ على دورها كزوجة وكأم من دون أن تقصر في واجباتها المهنية". وتضيف نانسي أن دور المرأة لا يتضاءل عندما تعمل خارج المنزل، فهي تعاني مزيداً من الضغط والمسؤولية، لكنها تخصص وقتاً مفيداً لأولادها الذين يشعرون في المقابل بالمسؤولية فيعتادون على أن يكونوا مستقلين في شخصيتهم ويقومون بأمور كثيرة وحدهم. وتتابع نانسي قائلة: "صدقيني إن التوازن الذي ترينه اليوم والذي ننعم به في المنزل استغرق جهداً طويلاً بعدما تغيّرنا وأراد واحدنا الاقتراب من الآخر خطوة إثر خطوة حتى تحقق اللقاء في الوسط وسارت الأمور جيداً". إلا أن نانسي لا تخفي أيضاً الصعوبات التي قد تعترض اثنين أراد كل منهما أن يحقق ذاته. وتعترف بعفوية "كثيراً ما تهب الأنانية الشخصية لدي ولدى وليد ولكن في النهاية تكون الأولوية للعائلة الرابح الوحيد في المعركة لأنها تأتي قبل مصلحة "الأنا" أو العمل". في المقابل تقدر نانسي تفهّم وليد لمهنتها وتقول: "إن حضوره مهم جداً بالنسبة الى الأولاد. وخلال غيابي فهو من يدرّسهم ويتابع حسن سير دراستهم وهو من يمثل الأهل في الاجتماعات والحفلات المدرسية وفي لجان الأهل، كما ان وليد لا ينسى أن يتابع سلوكهم ويراقب بحزم كيف يمضون أوقاتهم ومن هم أصدقاؤهم وهو من يسهر على مراقبة أمور المنزل وادارته من شراء الأغراض الى القيام بالمعاملات التجارية والمصرفية"... وفي وقفة نقد ذاتية تقول نانسي: "أحياناً أشعر انني أهملت زوجي ونفسي وصحتي في سبيل العمل والعائلة. فمثلاً ليس لدي الوقت للانتباه الى كيفية لباسه وغذائه كما تفعل بقية النساء ولكنه يعود ليطمئنني باستمرار أن المسؤولة عن الأمور المنزلية لدينا يمكنها أن تقوم بذلك". ماذا يقول وليد عن نانسي؟ وإذا سألت وليد ما رأيه في عمل نانسي يجيب: "صحيح انني نصحتها في البداية بالتخلي عن عملها خشية التقصير في واجباتها المنزلية وكنت أستاء مثلاً عندما كانوا ينادونها باسم عائلتها أو حتى الأولاد لدى توزيع الهدايا في المدرسة، ولكن سرعان ما أصبحت أهزأ من هذه الأمور لأنني أدركت أن زوجتي تعبت طويلاً لتحصّل شهادتها في الطب وهي مهنة شريفة ونانسي طبيبة ناجحة في عملها فلماذا أحرمها منها بخاصة انني من المؤمنين بضرورة انتاجية الانسان رجلاً أم امرأة، وأنا اليوم فخور بها لا سيما انها امرأة نشيطة وذكية تجد دوماً كل الوقت للاهتمام بكل شيء. ولديها طاقة جسدية وعقلية كبيرة لتحدي التعب والمرض وعدم الاستسلام للكسل. وما اعترف به اليوم ان نظرتي الى المرأة العاملة تبدلت وبتّّ أحترمها وأقدرها لأنها انسان مسؤول يقدر قيمة الأشياء والتعب فلا يكون مبذراً، فالمرأة العاملة تريح زوجها وتستخدم وقتها لأمور مفيدة". وإذا سألت وليد ونانسي كل على حدة عن نظرة المجتمع حيال هذا التوازن أو عكس الأدوار، يجيب وليد: "أنا لا أشعر بعقدة النقص فكلانا ناجح وعلى رغم ما أسمعه من الناس فأنا لا أكترث لما يقولونه لأن زوجتي ناجحة ومن الظلم أن أقف في طريقها". أما نانسي فتجيب: "البعض ينتقدوننا ولكن عندما يتعرفون الينا يعترفون بأن الأدوار ليست بالحقيقة مقلوبة بقدر ما هي متكاملة ومتوازنة، فأنا ما زلت المرأة في المنزل وهو ما زال الرجل فيه أيضاً". وعن نانسي والمطبخ، يقول وليد ضاحكاً: "لقد حاولت نانسي مراراً وفشلت وتأكدت عندئذ انها لن تبرع إلا في مجال الطب فلماذا الاصرار في توظيف طاقاتها في مكان آخر؟". وتضيف نانسي مبتسمة: "ان العمل المنزلي مخصص لأشخاص دون سواهم، وهو لا يجعل الانسان يتطور فكرياً مع انه ضروري للمرأة، والمثالي أن تكون المرأة متقنة للاثنين معاً الا أن الكمال ليس هذا العالم وأنا لست كاملة. وذلك كان خياري منذ الصِغَر، كما انني ترعرعت في عائلة تشجع العلم والثقافة".