يلفت الكاتب المصري فهمي هويدي نظر القارئ "الاهرام" 7/8 إلى "السكون المدهش المخيم على الشارع العربي" إزاء ما يجري من فظائع في فلسطينالمحتلة، ويتساءل: "إن كان لنا أن نعلن موت الشارع العربي أم لا، إذ الشاهد أنه غائب أو مغيب". من ناحية أخرى يلفت جورج مونبيو "الغارديان" 14/8 النظر الى نشطاء السلام الأجانب التابعين ل"حركة التضامن الدولية" الذين وصلوا الى الأراضي المحتلة خلال الاسابيع الماضية للانضمام الى التظاهرات المناهضة للاحتلال والعيش في منازل الفلسيطينيين، في المناطق المعرضة للقصف الإسرائيلي، كدروع بشرية تحول بين الجيش الإسرائيلي وأهدافه. وخصَّ مونبيو بالذكر جماعة "نساء في الأسود" WOMEN IN BLACK البريطانية وهي مجموعة من النساء المتوسطات والمتقدمات العمر، والتي "توجهت فور وصولها منذ أيام الى خط الجبهة للتأكد من أن الوحشية الإسرائيلية لن تمر من دون عواقب دولية، ولمراقبة وتحدي انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني وبرنامج التطهير العرقي الذي تطبقه". هؤلاء النسوة يسكنّ في بيت جالا ويراقبن ما يجري من تجاوزات عند نقاط التفتيش ويشاركن في التظاهر أمام بيت الشرق ويتعرضن للضرب والاعتقال ويشهدن ما يجري في السجن من تعذيب للفلسطينيين. لا شك أن الانطباع الأول للقارئ سيكون الشعور بالخجل عند مقارنة "عجز" رجال الشارع العربي بما تقوم به نساء انكلترا لمساندة الشعب الفلسطيني في محنته. غير أن المسألة كما سيأتي بيانه ليست بهذه البساطة. لقد نقل فهمي هويدي عن باحث اميركي ملاحظته أن عواصم الغرب تتعامل مع العرب باعتبارهم "عالماً تسكنه حكومات وأنظمة.. أما الشعوب فليست سوى جزء من الجغرافيا كالجبال والغابات والأنهار"، وهي ملحوظة تستفز المشاعر بقدر ما تثير مجموعة تساؤلات: هل منحت الشعوب العربية حكوماتها توكيلاً على بياض لتتعامل مع قضية فلسطين كيفما بدا لها؟ وهل معاملة الحاكم العربي للشعب ككيان قاصر لا يدري أين تكمن مصلحته، مدفوعة بوهم وجود هذا التوكيل؟ وهل لأميركا أن تتصرف على أساس أن أي حدث مهما بلغت فظاعته يمكن أن يمر ويُبتلع على خلفية ما يبدو وكأنه موات الشارع العربي؟ الاجابة عن هذه التساؤلات تتطلب أولا تحديد ما المقصود بالشعوب لأن أي مجموعة من البشر لا يمكن أن تتحرك ككتلة واحدة للتعبير عن موقف معين إلا بتوجيه وإرشاد من قيادات عقلانية تتمتع بحب واحترام تلك الكتلة البشرية. والمشكلة في الشارع العربي مرتبطة بانعدام التوجيه. فشعوب العرب، عكس ما يجري في انكلترا أو أي دولة أخرى يتمتع فيها المواطن بحريته وكرامته - غائبة لأن قياداتها مغيبة إما بالقتل أو وراء الأسوار أو بالحجب إعلاماً والحظر اتصالاً تحت سطوة القوانين الاستثنائية. والقيادات الوحيدة حزبية وبرلمانية المسموح لها غالباً بالحضور في الساحة هي تلك المستأنسة التي تختلف عن النظام شكلاً كضرورة لتجميل صورته ديموقراطيا، بينما هي في الواقع لا تختلف عنه ضمناً من حيث عجزها عن التعبير عما يعتمل في وجدان الشارع العربي وتجسيد طموحاته وتطلعاته، وهو ما تدلل عليه الأمثلة التالية: في البيات الختامي لمؤتمر "نداء القدس" الذي عقد منذ خمس سنوات في مقر حزب "الوفد" المصري في اعقاب انتفاضة النفق الذي افتتحه بنيامين نتانياهو أسفل الحرم الشريف، وحضره ممثلو الأحزاب المصرية، كانت التوصية الوحيدة المهمة هي تلك الداعية الى "انشاء لجان القدس في المدن والقرى لتوعية الجماهير بالقضية وحثها على مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والاميركية"، ومنذ انتهاء هذا المؤتمر وحتى اليوم لم تتشكل "لجنة قدس" واحدة في أي مدينة أو قرية مصرية. وفي عدد 20 نيسان ابريل الماضي نشرت جريدة "الحياة" خبراً عن تدشين المعارضة المصرية "حملة شعبية لدعم الانتفاضة ومقاطعة البضائع الإسرائيلية"، إذ عُقد "مؤتمر شعبي" آخر، هذه المرة في مقر "حزب التجمع" على أساس أن يكون "بداية سلسلة من المؤتمرات الشعبية الجبهوية في المحافظات المختلفة طوال الاسابيع المقبلة"، وعلى رغم مرور ثلاثة شهور، لم يعقد مؤتمر واحد في أي محافظة. وعن البرلمانات العربية، التي تدعي تمثيل شعوبها رغم ندرة الانتخابات الحرة في بلادنا، يقول علي ربيعة عضو المجلس الوطني في البحرين "القدس" 19/7 إنه منذ تأسيس الاتحاد البرلماني العربي من سبعة وعشرين عاما، "فشلت هذه المؤسسة في تحقيق الحد الادنى من الاهداف النبيلة والسامية التي نذرت نفسها لتحقيقها، وتحولت الى مجرد منتدى للحوار والنقاش وإصدار القرارات الخاوية التي لا تملك صفة الإلزام". إن افتقار الأحزاب والبرلمانات العربية لصفة التمثيل الشعبي أدى بها في النهاية إلى مصير الأنظمة الحاكمة نفسه: عجز عن الحركة والتفكير يتجلى في مؤتمرات الاتحاد البرلماني ومؤتمرات زعماء الأحزاب ومؤتمرات القمة العربية التي لا يتمخض عن كل منها سوى بيانات انفعالية وقرارات تنتهي صلاحيتها فور انفضاض الجمع. إن غالبية القيادات الحزبية التي تشارك في "المؤتمرات الشعبية" الاستعراضية لا تمثل الشعب لأن أحزابها نشأت بقرار فوقي ولا وجود لها في الشارع المصري، وهم متجمدون في مواقعهم مدى الحياة مثل أقرانهم في الحكم. فماذا يُتوقع من جسد توقفت الدماء عن الدوران في شرايينه، ومن نبتة فشلت في مد جذورها الى عمق الأرض التي تزعم الانتماء إليها، إلا العجز والموات. لا غرابة إذاً أن يبدي الفلسطينيون امتعاضهم من عدم ارتقاء العرب الى مستوى الانتفاضة وتضحياتها. إن الشعب الإسرائيلي عندما اقتنع بفشل عملية أوسلو في تحقيق الاستسلام الفلسطيني لسلامه، انقلب عليها وجاء بخصوم اوسلو. في المقابل هل تمكنت شعوب العرب أمام اقتناعها بفشل اوسلو من اجراء أي تغيير؟ إن القيادات التي راهنت على اوسلو وخسرت، وتنازلت عن الكثير من أجلها، باقية في مواقعها وعلى أفكارها. لقد كتب البرفيسور الاميركي من أصل عربي شبلي تلحمي مقالاً نشرته ال "واشنطن بوست" وال "هيرالد تريبيون" ناقش فيه نتائج استطلاع اجرته تحت اشرافه "مؤسسة زغبي الدولية" في خمس دول عربية، وجاء فيه أن 60 في المئة من كل من السعودية والكويت والامارات ولبنان يعتبرون فلسطين "أهم قضية على الاطلاق". أما في مصر، فالنتيجة 79 في المئة. هذه المكانة العالية التي تحتلها الانتفاضة الفلسطينية في وجدان الشعب العربي عموما والمصري بخاصة، تدل على أن تجمد القيادات العربية على منطق اوسلو وفي مواقعها، هو وضع غير طبيعي أمام شعوب تؤمن بأن منطق الانتفاضة يحتم كسر الجمود. ولأن فكر القيادات محصن ضد أي تغيير، فإنها مستمرة في حرق أهم الأوراق لديها، وهي ورقة الرأي العام، أقوى سند لأي حاكم في مواجهة ضغوط الخارج عليه. فأي رأي عام يمكن أن يزلزل الولاياتالمتحدة ويحبط ضغوطها في ظل قوانين الطوارئ، والمحاكمات الصورية؟ يقول جميل مطر "الحياة" 10/8 "يخطئ من يظن أن الشعوب لا تصدر تحذيرات ولا تلمح بتهديدات. وليس خافياً أن مسؤولين في دول عربية عدة ينقلون هذه التحذيرات التي تحملها اليهم اجهزة الأمن الى واشنطن أملاً في أن ترفع قبضتها وتقلل من ضغوطها". غير أن المسؤولين الاميركيين، رغم إدراكهم ان الشارع العربي ليس جزءًا من الجغرافيا، وأن سكونه ليس سكون قبور وإنما سكون تربص تحت سيطرة المسؤول العربي، يدركون ايضا ان المسؤول انما ينقل اليهم هذه التحذيرات والتهديدات لأنه هو الذي يحتاج الى مساعدتهم لتنفيس غليان الشارع وإحكام السيطرة عليه لا العكس. وطالما أن الاميركيين مطمئنون للسيطرة على شارعنا، فليس أمامهم سوى الانصياع لضغوط اللوبي اليهودي حتى لا يعيق اجندتهم المزدحمة بالقضايا الداخلية. إن مأساة النظام العربي هي الهلع الذي يصيبه كلما رأى نبتة طيبة تمتد جذورها في التربة تحت سطح الأرض. والفرق بين نظام وآخر هو الفرق بين من يقتلع النبتة بجذورها فور بروزها على سطح الأرض، وبين من يترك الجذور مكتفياً بقطف الثمرة كلما ظهرت بشائرها فوق الأرض. باستئصال الطيب واستثناء الجاد وإطلاق الفساد، تعمد الأنظمة الى تغييب الشارع العربي عن وعيه وتصرفه عن فلسطين بشتى وسائل الإلهاء، خوفاً من أن تصيبه عدوى الانتفاضة، تماما كما تغلق المساجد وأجهزة الإعلام أمام أي داعية يدعو الى الاخلاق والفضيلة فور أن تستشعر إقبال شعبي عليه خوفاً من انتشار عدوى التدني. الفرق إذاً بين نساء انكلترا ورجال العرب ان حالياً ظرف المكان والوقت اكثر ملاءمة للنساء، إذ يساهم وجودهن في تخفيف وطأة الوحشية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني الأعزل ويفضح عنصرية إسرائيل امام العالم. أما رجال العرب فإنهم باقون في أسر أنظمتهم متربصين الى أن يقضي الله بسواعدهم وأرواحهم أمراً كان مفعولا. * كاتب مصري.