أطفأت انتفاضة الاقصى شمعتها الأولى في اجواء اقليمية ودولية عاصفة، اجواء مفعمة بأسباب الحيرة وعدم اليقين، بحيث إنها لا تدع احداً يتوقع بقدر من الصدقية، ما الذي يمكن أن تحمله لفلسطين المنتفضة من فرص ومخاطر، بل ولا تكاد تسمح لمعظم العاطفين على قضية التحرر والانعتاق الفلسطيني، بعرض نصيحة مسببة في شكل معقول ومعمق، حول أي طريق يتعين سلوكه من جانب المنتفضين: الاستمرارية الرتيبة أم التصعيد أم البيات والسكينة الموقتة وعلى أية أسس ووفقاً لأي شروط؟ إمعان الفكر فلسطينياً وعربياً في شأن تداعيات البيئة المحيطة على مسار الانتفاضة، وسبل التعاطي أو التعامل المأمون معها، له ما يبرره تماماً، فهناك براهين لا يمكن دحضها، على أن الجانب الأكبر والأكثر تعقيداً من مادة القضية الفلسطينية تم صوغه أو تصنيعه خارج ارادة الفلسطينيين الذاتية، وفي أحيان فارقة على غير إرادة محيطهم الاقليمي العربي. لقد كان الفلسطينيون وقضيتهم الوطنية بكلمة جامعة، موضوعاً للنظام الدولي بمختلف أطواره على مدار القرن الماضي، وهذا لا ينفي انهم حاولوا التأثير ذات مراحل على هذا النظام، نازعين في ذلك إما الى تحقيق مكتسبات منه وإما الى درء مخاطره على قضيتهم. لعل وضعية الفلسطينيين من هذه الزاوية، لا تختلف عن حال عالمهم العربي، غير أن خسارتهم من جراء الترتيبات أو التفاعلات الدولية كانت الأفدح. فهم فقدوا الشرط الأعظم من هويتهم الجغرافية واقتلعوا منها أو كادوا، وجرى تغييب وجودهم التاريخي ومحتواهم السياسي بقسوة بالغة، ولذا، فإنهم غالباً ما استشعروا حساسية مفرطة ازاء المتغيرات الدولية، لأنها اضاعت منهم في مراحل كثيرة القدرة على رد الفعل وضيّقت خياراتهم أو أحبطتها، وانتكست في بعض الأحايين بما كانوا أنجزوه بشق الأنفس. وفي الوقت ذاته، وهذا هو موضع المفارقة والأسى، غالباً ما جاءت رياح هذه المتغيرات مواتية لإقلاع القوى المعادية وايجاد مشاريعها ازاء فلسطين بسهولة ويسر. المتيقن منه في الوقت الراهن، هو الحذر الشديد الذي يلتزم به الفلسطينيون بمستوياتهم المسؤولة، إزاء ما يعتمل من حولهم وقضيتهم وانتفاضتهم. وهذا، بنظر البعض، هو عين الحكمة إن كان للسوابق من عبرة في عقلهم الجمعي. وليس بلا مغزى أن تكون التداعيات الفلسطينية لتجربة حرب الخليج الثانية، قبل عقد من السنين، هي الأكثر حضوراً والحاحاً الآن على هذا العقل، هذا أمر لا تخطئ العين ملاحظته في معرض تعليل أو تفسير مقاربة السياسة الفلسطينية للتفاعلات الدولية المحمومة، منذ يوم الثلثاء الدامي في الولاياتالمتحدة. للوهلة الأولى، قد يبدو هذا الموقف الفلسطيني الحذر صائباً هذه المرة، لا سيما وأن المبادأة في التجربة المذكورة باءت بالخسران. بيد أن ثمة ما يستدعي في الحالة الراهنة التخلص من عقدة حرب الخليج، والتحرك فلسطينياً بشيء محسوب من المبادرة، ذلك أن المشابهة الخطية بين معطيات التجربتين، ناهيك عن طبيعتهما ومضامينهما والأطراف المعنية بهما، مختلفة إلى حد بالغ. لنا أن نشير مثلاً إلى موقف التحفظ العربي العام من الانجرار خلف الخطاب الاميركي المتعلق بتوصيف الأزمة الدولية الحالية. وداخل هذا الموقف تتميز سياسات كبريات دول النظام العربي وعلى رأسها مصر، بما ينطوي عليه ذلك من دلالات توافقية لم يعرفها هذا النظام إبان أزمة الخليج إياها. وأدعى من ذلك وأجدى بالإشارة أن السياسة الفلسطينية معنية بالموقف الدولي الراهن ونتائج تدافعاته من جوانب عدة مثل التعريف بالقوى الارهابية المقصودة بالحملة الاميركية التي يراد تدويلها وعولمتها، وهذا يتضمن ما اذا كانت حركة المقاومة الفلسطينية ستفلت مطولاً من براثن هذا التعريف، ومثل حدود دور إسرائيل في هذه الحملة والثمن المحتمل أن تتقاضاه مستقبلاً من لحم القضية الفلسطينية وأيلولتها، إن هي شاركت في شكل مباشر أو قبلت بعدم المشاركة الصريحة، لعدم تعويق تكتيكات الحليف الأميركي، ومثل امكان توظيف الحرص الأميركي على وجود مخالفين عرب ومسلمين في المساومة، بما يخدم قضية فلسطين التي تحض هؤلاء المحالفين. هذه الجوانب ونحوها ومعطيات أخرى كثيرة، كالإنشداد العربي والإسلامي نحو فلسطين في غمرة عام من الانتفاض، لم تكن متوافرة بين يدي السياسة الفلسطينية إبان مجريات حرب الخليج. ثم ان هذه السياسة لا تعاني وضعية الحصار التي جعلتها سابقاً في خانة الأشرار حتى أن واشنطن لم تتجاوب مع، ولا هي استمرأت، المحاولة الإسرائيلية العاجلة أخيراً لإعادة تصنيف "جملة القوى الفلسطينية" في هذه الخانة. اذا تدبرت السياسة الفلسطينية في هذه المعطيات، فقد تتمكن من التمييز بين الحذر المتربص الذي يترقب صاحبه اللحظة المواتية لغشيان مصالحه في المعمعة الدولية، وبين الحذر المفضي الى العجز والشعور بقلة الحيلة واستصغار الذات في سياق ما قد يعتبره البعض لعبة كبار فقط. يقال إن انتفاضة الثمانينات ذهبت ضحية انقلاب النظام الدولي من حولها، وفي منظور آخر، أن تلك الانتفاضة تمكنت من إعادة السياسة الفلسطينية الى قلب المعادلات الإقليمية والدولية، رغماً عن التحولات العالمية الكبرى من حولها. ويبدو أن هذين المنظورين مرشحان الآن للإطلال والإلحاح بالنسبة لمستقبل انتفاضة الأقصى، التي تتلمس طريقها الى العام الثاني في سياق نظام دولي قابل للتحول. وربما كان افضل ما يجود به العاطفون على صيانة تضحيات هذه الانتفاضة وأهدافها، هو الاجتهاد في توصيف كيفية تأمينها، واعانتها على المرور بسلام في هذا السياق المفتوح على احتمالات يصعب الإلمام بأبعادها واستشرافها بدقة. * كاتب فلسطيني.