على رغم العيش المشترك الطويل، يجهل قارئ العربية حتى اليوم صورة الادب الكردي بابداعاته المختلفة، فهذا الادب لم يشهد سوى ترجمات قليلة، متقطعة ومتباعدة، قدمتها - غالباً - أحزاب سياسية كردية، في هذه المناسبة او تلك، ثم ابتعدت في انتظار مناسبة جديدة. قارئ العربية المتابع يعرف قليلاً من قصائد شيركو بيك س، الشاعر الأميز في ثقافة الاكراد المعاصرة، في حين تحتاج التجارب الادبية الشابة الى مزيد من الضوء، خصوصاً انها تتكون وتنضج في ظل ظروف سياسية واجتماعية تكاد تكون مطابقة لظروف الثقافة والابداعات العربية... كيف لا ونحن نعرف ان الثقافتين تعيشان مناخات قهر سياسي - اجتماعي، وتستشرفان معاً - وان من مواقع منفردة - آفاق الحداثة وروح العصر بما فيهما من ضرورات التجاوز، وقبل ذلك وبعده من اهمية التجذر في تجربتها المحلية. الشاعرة كولاله نوري صوت شعري كردي - عراقي، ولدت وتقيم في الموصل، اصدرت هذه السنة مجموعتها الشعرية الاولى "لحظة ينام الدولفين". دار الشموس للدراسات والنشر - دمشق، وفيها يمكن الوقوف على مساحة شعرية مسكونة بهمّ انساني، فيه الكثير من رغبة في تقصي الحياة حتى درجاتها النهائية من خلال البحث عن صيغ تجمع الفكرة الى طلاقة المخيلة وحيويتها: "تعاهدنا" لو مات احدنا سيزور الآخر في الأحلام حيّ أنت إذاً وأنا كومة أحلام محتضرة مجموعة كولاله نوري "لحظة ينام الدولفين"، قصائد تتجول في ردهات حالات اليأس والأمل في تضادهما، حيث شموس صغيرة، متعبة وخجولة، تطارد طاغوت الظلمة وتحاول ان تفتح فيه كوة ولو صغيرة. في قصيدة "سمفونيات شرقية مع فصول اربعة"، تقدم الشاعرة رؤية للعالم والحياة من خلال شواهد متباعدة، بل وحتى متناقضة، يشير كل واحد منها الى حال ما، ولكنها في اجتماعها وصراعها تفتح المخيلة على عالم يطفح بالمرارة ويزحمه الحزن: "الفراشات منبع الآلام، مفزعة ألوانها المتناسقة الأرض، تخدعنا بشموخ جبال لتبتلعنا ببراكينها". قارئ قصائد هذه المجموعة سيتوقف طويلاً عند بداهة الافكار، وحتى بداهة الصور الشعرية التي تأتي غالباً منسوجة من الدهشة البسيطة، فيما يشبه اقتراباً حميماً من كل ما هو طبيعي، قريب الى المشاعر الانسانية الصافية. الشعر في حال كهذه اقرب ما يكون الى استحضار للحياة الانسانية في تجلياتها الاولى، حيث تتعمد الشاعرة صوغ مشهدها الشعري من شواهد الطبيعة وحالاتها المألوفة، ولكن برؤية مغايرة، ترى الاشياء في حركة توازي حركة القلب، فتقرأ ذلك كله، بانتباه آخر: "في الصيف... لا فوانيس لا حكايات من الجدّات قرب المدافئ المدينة تزداد قدماً بذكرياتها المتبخرة". في هذه المجموعة قصائد تعود خلالها كولاله نوري، الى كردستان، فنراها تستحضر من هناك شكل عيش آخر، بما فيه من نبض خاص. في مثل هذه القصائد ثمة خصوصية لا يفرضها المكان بصورته المحفوظة في الذاكرة، ولكن بصورته التي تشكلت من الذاكرة والمخيلة على حد سواء، والتي اصطبغت بما في المنفى من حرمان واغتراب. في قصيدة "أمي والساتر ودفتر نفوسي 1995"، ثمة رجوع شعري الى المناخات الاولى، مناخات كردستان، حيث القصيدة اكثر "عفوية" وأقل "معرفة"، اذ هي تتنازل عن "ثقافة" الفكرة والصورة، وتلتصق اكثر بحميمية الذاكرة وحيوية نبضها: "لا قماط القصائد لا أكفان العشاق تعوّضني دفء الثلوج على الجبال حين تسيل الدموع من رؤوس السنين" كولاله نوري، الكردية التي تكتب بالعربية، تستفيد كثيراً من منجز "قصيدة النثر" العربية، في العقد الاخير، فتبتعد من عيوبها التي صارت تقليدية، وخصوصاً مأزق السقوط في النثرية، وهي تنجح في تحقيق ذلك اعتماداً على رشاقة الجمل الشعرية وعلى الانتقال السريع بين مناخ شعري وآخر، ما يجعل القصيدة ثابتة القدمين باستمرار، قادرة على الحركة والمسير، والشاعرة تكتب ذلك في مزيج من العام والخاص، اذ هي تعيد تقديم الاحداث العامة الكبرى، من خلال حياتها الخاصة، وما يعتري هذه الحياة من آلام: "أمي خلال عام قايضت حضنكِ بمحطة القطار وادعيتك بأحلام الرصيف فقط، كي أسرق وقفة العبّاد أمام الشمس وأضحك ملء شعري لكني مثل العباد نكّست رأسي". تجربة كولاله نوري الشعرية الاولى، تنتمي بكليتها الى ذلك اللون من الشعر، الذي يظل أميناً الى الروح الفردية وما فيها من لواعج وأحزان. شعر ينطلق الى رؤية العالم والحياة من عدسة الذات، ولكنه لا يفقد مع ذلك صلته الدموية بكل ما يحيط به من عذابات نراها تنعكس في مرآة الروح، فتتراقص في حروف القصائد.