سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قال سائق الباص : هذه المطربة هربت الى اسلام آباد كي تغني هذا صوت الصمت . أفغانستان : سهول أفيون خضر تفضي الى "اوتيل طالبان"... وهنا رجل يعرف اسامة بن لادن !
} اواخر فصل الربيع عام 2000، سافر فريق تلفزيوني لبناني الى باكستانوافغانستان ، وصوّر هناك برنامجاً وثائقياً في حلقتين. من بيروت الى بيشاور، ثم عبر بوابة طورخم الى افغانستان. بلاد الجبال الشاهقة ، والاودية العميقة، والصحاري القاحلة، والسهول المحاطة بالهضاب. هنا وصف الرحلة بقلم معدة البرنامج التلفزيوني المذكور ومقدمته: كاد أن يغلبني اليأس من امكان الحصول على إذن رسمي للدخول الى أفغانستان. فعلى مدى أشهر واظبت على الاتصال بالسفارة الافغانية في إسلام آباد من دون جواب واضح. الاتصال الهاتفي من بيروت كان دائماً متقطعاً وعندما وصلنا الى إسلام آباد لم تكن زيارة السفارة الأفغانية مشجعة. لم يجد موظفو السفارة أياً من الأوراق الثبوتية التي أرسلتها من بيروت، أو هكذا قالوا لي، فكان علي تقديم الطلب مجدداً. الأسئلة المتعلقة بي شخصياً حول ما إذا كنت متزوجة أو هل يرافقني محرم لم تكن مفاجئة، وتردادها بات عادياً حتى من جانب طارحيها في السفارة، فقد بدا عليهم من تكرارهم الرتيب للأسئلة انها ليست بمعضلة حقاً. لكن هناك حقائق أهم تنبغي معرفتها قبل نيل الموافقة. كادت رحلتي الى باكستان أن تنتهي والشعور بالتوتر يغلبني من طول انتظار التصريح الذي لم يتم حتى ان بعض الأفغان الذين كانوا يعانون معي نصحوني بارتداء البرقع وعبور الحدود سيراً على الأقدام فلن يوقفني أحد. بدت الفكرة مثيرة لكنها غير مضمونة. مرت بخاطري أفكار لمحاولات أخرى وكدت أسلم وأحزم أمري عائدة الى بيروت. ثم زرت مدينة بيشاور الواقعة على الحدود مع أفغانستان. فيها التقيت علماء دين في "المدرسة الحقانية" المدرسة الدينية الأبرز والتي تخرج فيها مجاهدون سابقون وحاليون وحيث درس قادة طالبان اصول الدين. هناك التقينا بالمولى "شيرلي شاه" وهو رجل خمسيني يحرص على ارتداء الزي الباكستاني في شكل لافت ويضع على رأسه العمامة الأفغانية. عيناه كاحلتان دائماً ويصبغ شعره وذقنه بالحنة. هو مرجع اسلامي باكستاني ويتحدث العربية بطلاقة، استقبلنا في شكل حسن، فهو يحب العرب والمسلمين كما قال. تحدث بإسهاب عن طيبة الأفغان وحسن سريرتهم وولعهم بالتدين وأبدى رغبة بمساعدتنا على الذهاب الى كابول ودعاني بحماسة لارتداء البرقع الأفغاني والاختلاط بالأفغانيات لألمس بنفسي كيف ان حركة طالبان صانت نساءها وكرمتهن بإبقائهن في المنازل. عبر اتصال هاتفي أجراه شيرلي شاه ذو الكلمة النافذة لدى قيادات طالبان حُسم أمر السماح لنا باجتياز الحدود. فعلنا من دون تردد... بوابة طورخم العبور من بوابة "طورخم" على الحدود الى داخل الأراضي الأفغانية كان إيذاناً بأننا عبرنا من دنيا الى أخرى ومن حياة نعتقد أنها سائرة في كل بقاع الأرض الى حياة أخرى هي أقرب الى العدم. آلاف من الأفغان كانوا وبعد أن يسمح لهم حرس الحدود يعبرون سيراً على الأقدام أو راكضين لاهثين للتعلق بأي حافلة أو أي عربة تسير تخفف عنهم عبء السير لمسافات طويلة قبل أن يصلوا الى قراهم. كانت المنطقة جرداء وعرة محاطة بجبال شاهقة توحي باتساع البلاد التي ندخل اليها. حكاية مطربة عبرنا في باص صغير مع مرافقين من العامة الأفغان، وكان مرافقانا من الذين اعتادوا الأنماط المختلفة للحياة على جانبي الحدود، فبدا ما يجري حولنا اعتيادياً بالنسبة اليهما. حاول سائقنا أن يخفف عنا عناء الطريق من خلال شريط كاسيت لمطربة أفغانية. كان الشريط قديماً والصوت يتهدج من رداءة تسجيله . لم يحل ذلك دون الاستمتاع بصوت المطربة التي علمنا من السائق انها هربت من أفغانستان الى اسلام آباد لتعيش وتغني فيها. صوتها أضفى إلفة خففت من رهبة الجبال الوعرة التي كنا نجتازها. وكان السائق وبحركة رشيقة يبدل الشريط بأناشيد دينية حين نقترب من حواجز طالبان كي لا يناله عقاب من جراء سماع موسيقى "فاسدة ومحرمة" لكنه لا يلبث ان يعيد على مسامعنا شريط الأغاني بعد اجتياز الحاجز. مزارع الأفيون استغرقت الرحلة ساعات طويلة قبل الوصول الى كابول. فالطريق لم تكن كما الطرقات التي نعرفها. فهي لم تعبّد منذ عهد الاجتياح السوفياتي للبلاد، فبدت مغطاة بالحفر التي كان العبور فوقها يعرضنا لخضّات ورضّات قوية. وزاد من ازعاج الرحلة الشاحنات والعربات التي كانت تمر وتثير زوابع من الرمل تتسرب الى وجوهنا ورئاتنا وأفواهنا فكنا نبتلع الرمل ويغلبنا السعال حتى تدمع أعيننا. المساحات الخضر الوحيدة التي كنا نراها في طريقنا هي مزارع الأفيون، وبدت هذه المساحات الخضر منسجمة مع الطبيعة المحيطة بها. كابول ليلاً بالنسبة إلي، لطالما كان السفر السريع بالطائرات يفقدني لذة اكتشاف معنى المسافات التي نعبرها، إذ بالكاد كنت أشعر انني تجاوزت المحيطات مثلاً في غفلة عين، لكن الطريق الى كابول جعلت الشعور بالابتعاد طاغياً وموحشاً. فالطريق البرية التي كنا نجتازها في جبال أفغانستان كرست لديّ احساساً عميقاً بأنني مغرقة في الرحيل والسفر الطويل البعيد، والظلام الذي كان بدأ يتسلل زاد من طغيان الشعور هذا، وكان السائق يحاول أن يسرع القيادة أكثر تفادياً لحلول الظلام في شكل كامل إذ عندها تخلو الطرقات لقطاع الطرق، وكان علينا أيضاً أن نصل قبل أن يبدأ حظر التجول الليلي اليومي الذي تفرضه طالبان لأسباب أمنية. في غفلة منا دخلنا الى كابول. فأضواء المدينة بالكاد تمكن ملاحظتها. لذا كان صعباً أن ندرك أن رحلة الوصول قد انتهت. الأحاديث التي تبادلناها في بداية الرحلة ماتت مع حلول الليل وبدا اننا جميعاً قد أصابنا هذا السكون ونالت منا هذه الوحشية التي أطبقت على جوانب المدينة. شوارع العاصمة الأفغانية كانت مقفرة ولا أحد في الطرقات سوى بعض عناصر طالبان الذين أضفت الظلمة والظلال على قبعاتهم الأفغانية المزيد من الرهبة. في ظلمة كابول كان أشد الأضواء بريقاً هو ضوء المصابيح المعلقة في نوافذ المنازل وأشد الأصوات ضجيجاً كان نباح كلب. في أوتيل طالبان وصلنا الى فندق كابول وهو الوحيد المؤهل نسبياً لاستقبال الوافدين، كان هذا الفندق سابقاً وخلال المرحلة الشيوعية واحداً من سلسلة فنادق "الأنتركونتيننتال". نال الفندق نصيبه من القصف خلال المعارك التي تعاقبت على المدينة وقد أعادت حركة طالبان ترميم بعض طوابقه لاستقبال الزائرين الأجانب. الظلام كان دامساً مع ندرة الأضواء في المدينة، لذا لم يتضح تماماً أين يقع الفندق لكن بدا أنه على تلة مشرفة على كابول وهو بالكاد يشبه الفنادق. الظلام في الخارج تبدد بخجل في القاعات الداخلية الخفيفة الاضاءة إذ انبعثت الأنوار في المداخل فقط فيما غرقت قاعات الفندق الأخرى في الظلام. في الفنادق العادية يشعر الداخل بنوع من الالفة من دون أن يدرك ربما سببها. فهي قد تكون بسبب الموسيقى الخفيفة التي قد لا نلقي اذناً لها أو بسبب حركة بعض الداخلين والخارجين أو ترحيب عاملي الفندق وابتساماتهم، كل هذا غاب عن فندق كابول على رغم محاولات يائسة للموظفين فيه ان يظهروا محترفين مستعيدين ما تعلموه سابقاً حول طرق التعامل في الفنادق. لكن محاولاتهم بدت خجولة ولا بد ان يغلبك الشعور بالشفقة عليهم وهم يتعثرون في حمل الحقائب وشرح الخدمات البسيطة التي يقدمها فندقهم الذي بدا مقفراً وغارقاً في الصمت. شرحوا لنا مرافق الفندق وكيف رممت طالبان بعض أقسامه وأشاروا الى جزء مدمر في الطابق الأخير ما زالت فيه آثار التكسير والزجاج على الأرض. كان هذا النادي الليلي في الفندق قبل أن يجري تحطيمه خلال حملة طالبان للقضاء على الفساد. كان شعوري بالعزلة يتضاعف ونحن نصعد الى الطابق الثالث حيث كانت غرفنا، فالمصعد كان يعمل في شكل يشعرك انه يمكن ان يتعطل في أي لحظة. وما إن وصلنا الى الطابق المقصود شعرت ببعض الخوف حين رأيت رفاقي الثلاثة أيمن وعمر وعبدالحفيظ والمترجم الأفغاني كفاية الله يتوجهون الى غرفهم فيما كانت غرفتي في جناح آخر بعيد. ضجيج السكون مشيت في ردهة الفندق وأنا أسمع صوت خطواتي وأزيز الضوء وحين وصلت الى الغرفة غلبني الشعور بالوحدة وحسدت رفاقي أنهم سوية. كانت الغرفة مرتبة لكنها هادئة الى حد مزعج فحاولت افتعال أي صوت قرقعة كي لا ينال مني صوت السكون. الطاولة المخصصة للتلفزيون كانت خالية وموضع الراديو التقليدي في أسرَّة الغرف خلع من محله. ماذا أفعل لأهرب من ضجيج السكون هذا الذي شعرت به في أعماقي؟ بحذر فتحت نافذة الشرفة لكن لم يطالعني سوى الظلام وظلال الشجر وأصوات حشرات الليل. فكرت بسكان هذه المدينة وكيف هي حياتهم التي تسير بمعزل عن حياتنا في الجزء الآخر من العالم. عدت الى الداخل وحاولت أن أجبر نفسي على قراءة كتاب عن أفغانستان من دون أن تفارقني صور متخيلة لأهالي المدينة الذين مرت عليهم سنوات وربما ستمر أخرى قبل أن يتغير شيء. انقضى وقت طويل قبل أن أخلد الى نوم قلق ممزوج بمنامات مزعجة. وما ان انبثقت أول خيوط الضوء حتى عاودت فتح الشرفة علني أرى وجهاً آخر لكابول غير ذلك الظلام الذي طالعتني به أول عهدي بها. شعرت ببعض الراحة لمناظر الطبيعة الجميلة وأضفت الشمس ألفة أعادت إلي بعضاً من الاطمئنان الذي افتقدته. لم يستغرق الأمر سوى ساعات قليلة حتى بدأت أتآلف مع المدينة وأهلها ولكن بحذر. بين الرجال هيأت نفسي للقاء رسمي في وزارة الاعلام قبل الإذن لنا ببدء العمل لكنه كان ألطف مما توقعت. التقيت أكثر من موظف في مكاتب متواضعة وبكامل ردائهم الأفغاني. كانوا غاية في الود وحاولوا إظهار تمرد خجول على واقعهم. أحدهم مازحني بالسلام مصافحة وهو يتلفت حوله مفتعلاً حركات الخوف من أن يراه أحد. رجل آخر في الستينات من عمره بادر بالسلام وقدم نفسه على أنه استاذ جامعي قديم يعمل مترجماً في وزارة الاعلام ليكفي عائلته. لم يستغرق وقتاً كثيراً قبل أن يشرح لي أن بناته في المنزل يعشن حالاً صعبة بسبب منعهن من إكمال تعليمهن. لم تتغير ملامحه الودودة إلا حين طلبت منه إجراء مقابلات مع بناته فبدا رفضه صارماً وتحاشى الحديث معي بعدها. استغرقت الرحلة أياماً عدة في هذه المدينة التي بدا من شدة الدمار وبدائية الحياة فيها أنها تحولت تدريجاً الى مظهر القرى والأرياف. كان تنقلنا كفريق عمل واحد يضم بين أفراده فتاة يثير ارتباك بعض الأفغان في المرافق العامة والأسواق، وذلك ليس لموقف ذاتي ولكنه حذر تلقائي من أفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ذات مرة وفي أحد المطاعم الصغيرة في أسواق المدينة اضطر صاحب المطعم أن يدخلنا الى مكتبه الخاص كي لا نسبب له إحراجاً لوجودي مع زملاء ذكور في قاعة المطعم. أسراب نساء ببراقع زرق أقصى ما كان يثير لدي مشاعر الإحباط هو محاولة الاحتكاك المباشر ببعض الفتيات. فتجولنا كان دائماً بصحبة مرافق من وزارة الاعلام، ما كان يثير خشية البعض من الحديث معنا. من يزور كابول لا يمكنه أن ينسى أسراب النساء المتشحات بالبراقع الزرق وهن يجبن شوارع المدينة للتسول في معظم الأحيان. لمتُ نفسي على ما قد بدا أنه بعض القسوة حين انشغلت بمراقبة سيدة لاحقتني في الطريق للتسول، فقد أنستني حشرية النظر اليها وتأمل صورتها البائسة من التخفيف عنها مغبة السير طويلاً وذلّ مدّ يدها المتشققة والمتسخة للحصول على بعض المال. حاولت النفاذ الى عينيها عبر البرقع فلم أقدر وتمنيت لو انني أجيد الأفغانية لأتحدث معها بعيداً من أعين المرافقين. أسامة بن لادن أمضينا ما بقي من أيام في إجراء ما سمح لنا من مقابلات قبل أن نغادر براً وعلى الطريق نفسها التي أتينا منها. طريق العودة بدت أقصر وأقل ازعاجاً وكان السائق ومن قبيل المصادفة أحد الذين قاتلوا مع الشخصية الأشهر اليوم في الكوكب، أسامة بن لادن، خلال الجهاد الأفغاني ضد السوفيات. أخذ يتحدث بإعجاب عنه وعن فترة جهاده معه وأخبرنا أن بن لادن له أصدقاء في لبنان يحادثهم اسبوعياً، وبعد ان استفاض في الحديث بادرنا بالسؤال عن رأينا بهذا "المجاهد". حين أتاه جواب لم يعجبه غلبه التوتر وتمتم كلاماً كثيراً بالأفغانية لم ينقل لي المترجم سوى بعضه. ومما قاله: إننا جميعاً يجب أن نحب بن لادن وعليّ أن أضع الحجاب دائماً وليس فقط لأنني في أفغانستان. تحدث كثيراً وكاد الأمر أن ينقلب الى توتر حقيقي لكن كنا قد وصلنا الى الحدود الباكستانية.