عادة ما يشار إلى الكهوف باعتبارها أول المساكن الطبيعية التي عرفها الإنسان ، وفي تاريخ الفنون إشارة إلى أن أول مظاهر الفنون التي أبدعها الإنسان الأول عاشت على مدى آلاف السنوات لأنها ظلت نقوشاً ورموزاً محفورة ومرسومة على جدران الكهوف . أما في أفغانستان فإن الكهوف تمثل جزءاً من الحياة المعاصرة للبشر .. ليس باعتبارها مخابئ آمنة للمطاردين والفارين والهاربين ، فقط ، وإنما لكونها الملاذ الوحيد المتاح لقطاع كبير من السكان ، خاصة في بعض المناطق الجبلية ، وهو ما استعرضناه في الحلقة السابقة من عرض كتاب «منزل أسامة بن لادن» الذي تضمن صوراً ونصوصاً للفنانين البريطانيين نيكي بيل وبن لانغلاندز . وكانا قد شاهدا بعض العائلات الأفغانية التي تعيش في الكهوف قريباً من منطقة «باميان» التي عاصرت الحضارة البوذية في أفغانستان والتي تعرضت آثارها للهدم والتخريب على يد طالبان ؟ في صباح اليوم التالي استيقظا مبكراً ، وقررا الذهاب إلى الكهوف لاستكشافها قبل أن يبدءا رحلتهما إلى كابول مرة أخرى . كانت بعض هذه الكهوف دافئة رغم البرودة الشديدة في الخارج ؛ حيث تحتفظ الصخور بالحرارة التي استقبلتها من أشعة الشمس خلال اليوم السابق . ولأن هذه الكهوف كانت بالفعل مأوى سكان المدينة في الزمن القديم ؛ فقد انتشرت فيها الكثير من فنون الزخرفة والأعمال المنقوشة على الجبس والرسوم التي تعود للبوذية ، لكنها جميعاً ، كما لاحظ المؤلفان ، قد تعرضت للتخريب والتشويه إما لأسباب طبيعية أو بواسطة المخربين . كما شاهدا وجود الكثير من الذخائر الحية والفارغة متناثرة في أرضيات الكهوف .كانت الصور الملتقطة من داخل الكهوف تشير إلى وجود حياة ممتدة في كل منها تدلل عليها آثار مختلفة بعضها قديم يشير إلى حضارة قديمة وعريقة أخرى حديثة . وفي تمام العاشرة صباحاً كان عليهما أن يبدءا رحلة العودة إلى كابول قبل حلول الظلام حيث يبدأ حظر التجول ، وهو ما قد يعرضهما للخطر . اتخذ السائق طريقاً ترابياً ، لم يفلح معه إغلاق النوافذ من قرب الغبار الكثيف داخل السيارة ، ولم يسلم من هذا الغبار حتى آلات التصوير التي حفظت داخل حقائبها وفي الطريق مروا على عدة قرى متجاورة كانت البيوت فيها بدائية وأعلاها وضع الفلاحون أكوام الروث لتجف ، وفي قرى أخرى تخصصت في زراعة البصل ، كانت الأجولة الحمراء المكدسة بالبصل تحتل مساحات واسعة بجوار البيوت. وفي منتصف الطريق بين قرية وأخرى شاهدا دبابة روسية قديمة تقف ساكنة على الطريق ، وكانت قد أحيطت بالأكواخ التي شيدت حولها وكأنها صخرة أو أي جزء آخر من الطبيعة ، وكان هيكل الدبابة قد انتزع عنه كل ما كان بالإمكان نزعه منها . ولم تكن رحلة العودة تحتمل التوقف الطويل ، لأنهم تحركوا متأخرين ، ولأنهم ملتزمون بالوصول قبل بدء حظر التجوال . لذلك توقفوا بسرعة لشراء كمية من التوت المجفف واللوز . وبعد أربع ساعات أخرى بدأ نيكي يشعر بآلام شديدة في بطنه ، ولكن لم يكن بالإمكان عمل أي شئ ، فقد كان على السائق «أكبر» أن يصل إلى المنطقة الجبلية قبل أن يختفي ضوء النهار وهو ما أصابه ، وأصابهما أيضاً بالتوتر . ومع حلول الظلام ارتفعت حدة توتر السائق والمترجم وهو ما انتقل إلى المصورين لأنهما شعرا أنهما تسببا في ذلك لعدم التخطيط للتحرك في الوقت المناسب . وأخيراً وصلوا جميعاً إلى نقطة التفتيش التي تبدأ بعدها حدود مدينة كابول .وفي صباح اليوم التالي 19 أكتوبر كان الأمريكي «ستيف» المقيم معهما في الفندق اقترح عليهما أن يصطحبهما معه في رحلة إلى «جبل سيراج» حيث توجد قاعدة باجرام العسكرية الجوية ، لرؤية الجنرال فرانك الذي حضر لزيارة القاعدة وتفقد القوات . وكان ستيف يرغب في كتابة مقالة أخرى لصحيفة «يو إس توداي» ،USA Today حول صيد البط في أفغانستان ، حيث اكتشف وجود تجارة رائجة للنجارين الذين يقومون بصناعة البط المزيف بالخشب ، وبحيث توضع في المياه لاستقطاب أسراب البط الطائر مما يسهل اصطياده من قبل الصيادين . وعند الوصول إلى «جبل سيراج» توقفوا عند أحد الأسوار وتبعا ستيف إلى منفذ كان يطل على بركة واسعة وجدوا فيها نحو 80 قطعة من البط المزيف وبعد قليل حضر أحد النجارين ليتحدث مع ستيف حول صناعة البط المزيف ، وقرر أن يهديه واحدة ، لكنه أوضح لهم أنه سيصنعها خصيصاً من أجلهم، وأحضر جذع شجرة وبدأ يقصها بمنشاره ثم أنجز عمله في وقت لم يستغرق أكثر من عشر دقائق . وعندما حضر مالك المشروع ، وقرر هو أيضاً ان يهديهم قطعة خشبية أخرى من البط المزيف ، وبلا تردد ألقى بنفسه إلى المياه الباردة وعاد بعد دقائق وهو يحمل في يده إحدى وحدات البط . أوضح لهم مالك المشروع أن ثمن البطتين هو 12 دولاراً ، وهو ما يعني أنه مشروع يدر دخلاً جيداً لصاحبه على اعتبار ان متوسط دخل الطبيب أو المعلم في أفغانستان لا يزيد عن 30 دولاراً في الشهر . بينما يزيد دخل السائق التابع لإحدى المنظمات الإنسانية الدولية بشكل ملحوظ عن هذا المعدل . وعندما وصلوا إلى قاعدة باجرام الجوية كان أفراد القوات الجوية الأمريكية يقفون في صفوف منظمة استعداداً لتحية الجنرال تومي فرانكس قائد القيادة المركزية ، وهي واحدة من خمسة قطاعات عسكرية في أنحاء العالم وفقاً لتقسيم «البنتاجون». وفور وصول طائرة فرانكس إلى أرض القاعدة استعد الجنود وبدأوا تحيته أما هو فعند تفقده لهم كان حريصاً على أن يربت على كتف كل جندي منهم ويصافحه ويلتقط معه صورة تذكارية . ثم صعد أخيراً إلى المنصة ليلقي خطبته . كان اليوم الأخير من الرحلة مخصصاً لزيارة «جلال آباد» والذي من بين تفاصيله مشاهدة آخر المنازل التي استقر بها أسامة بن لادن قبل أن تبدأ الأحداث الدامية الخاصة بأحداث سبتمبر وما بعدها . ولهذا فقد خصص كل من لانغلاندز وبيل اليوم قبل الأخير لجولات حرة في كابول في انتظار بعض الأشخاص لكي يجريا معهم بعض الحوارات أو لتصوير بعض مشاهد الحياة اليومية في كابول .. كما ذهبا إلى مقر سفارة باكستان لتصويرها بعد احتراقها . وفي صباح اليوم التالي قررا التحرك مبكراً لتفادي مأزق العودة من «باميان» ، فقد كان عليهما الذهاب إلى جلال آباد والعودة في نفس اليوم .. ولهذا انطلقا في الفجر تمام الساعة الرابعة . فقد كانت الرحلة تستغرق نحو خمس ساعات ونصف . لكن الأمور لم تكن بهذه السهولة ، فقد رفض مدير الفندق خروجهما في هذا الوقت المبكر بدعوى أن الظلام الحالك والخروج في هذا الوقت يعرضهما للخطر وبعد انصرافه تفاوضا مع حارس الفندق ليسمح لهما بالخروج ، وبالفعل استطاعا أن يبدءا الرحلة في الوقت المناسب ، لكن عند نقطة التفتيش لم تكن الأمور تسير بشكل جيد، فقد رفض الجنود السماح لهما بالعبور في ذلك الوقت . أخذوا منهما جوازات السفر، ولفترة طويلة ، حتى ظنا أنهما لن يستطيعا ان يسترداها. لكن أخيراً عاد أحد الجنود بالجوازات بعد اقتناعه بأنهما أجنبيان في مهمة . عندما انطلقا أخيراً في الطريق المؤدي إلى جلال آباد كان الظلام مازال جاثماً ، لكنهما كانا يستطيعان إدراك مدى كثرة وحدة الانحناءات التي تكون هذا الطريق من خلال الأضواء الخلفية لسيارات النقل التي كانت تتحرك ببطء في صف طويل لتنتظر الوقت المحدد لدخولها إلى العاصمة . ومع أولى بشائر ضوء الصباح يقول لانغلاندز انهما وجدا نفسيهما في إحدى أكثر مساحات الأرض الجرداء التي شاهداها في أرجاء العالم . وهذا لا يتعارض مع كون هذا الطريق هو أحد أهم الطرق في أفغانستان ، وهو المعبر الأساسي لإمداد مدينة كابول بكل احتياجاتها . وبعد عبور أحد الوديان وصلا إلى أول مدينة على الطريق وهي «ساروبي» ويقول لانغلاندز ان اسم هذه المدينة كفيل بأن يثير الفزع والرعب لدى أي أجنبي في أفغانستان .ففي نوفمبر عام 2001 كان هناك أربعة من الصحفيين الغربيين الذين مروا بالمدينة في طريقهم إلى جلال آباد ايضاً ، فتم إيقافهم من قبل الأفغان وإخراجهم من السيارة وإطلاق النار عليهم بلا تردد ، فلاقوا حتفهم. فقد كانت مساحة كبيرة محيطة بالمدينة تخضع لسيطرة قائد عسكري له سمعة في أرجاء أفغانستان هو «حزارات علي» والذي كان حليفاً لقلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي ، وأحد أقوى القادة الأفغان في الحرب الأهلية . ويوضح الكتاب أن حكمتيار كان أحد أكثر المنتفعين من الإمدادات والمساعدات التي كانت تنتقل إلى أفغانستان عبر باكستان خلال فترة الغزو السوفييتي ثم في مرحلة الحرب الأهلية بعدها . ولكنه ، مثل أغلب القادة الأفغان ، فقد الكثير من سلطاته خلال حكم طالبان ، أما بعد التطورات الأخيرة ومطاردتهم من قبل الأمريكيين ، فقد استعاد حكمتيار سيطرته خاصة بعد أن تسلم 70 مليون دولار من جهاز المخابرات المركزية الأمريكية التي دعمته لتكسب ولاءه ، فأعاد نشر نفوذه في المنطقة مرة أخرى . ويشير لانغلاندز أنه بواسطة جيش خاص مكون من عدة آلاف من الرجال المسلحين (أغلبهم يغيرون ولاءهم أكثر من مرة ليتضامنوا مع من يمتلك القوة والنفوذ) استطاع أن يدير إمبراطورية مالية بالتداخل مع كل وأي مصدر مميز للدخل في أرجاء المنطقة . لكنهما مرا من المدينة بسلام ، على أي حال ، وعبرا بعدها عدة قرى متجاورة ، وبعض البيوت المسماة بالقلاع لتحصينها من قبل أصحابها . ثم مخيمات قبائل كوشي والنوهاد الذين يتميزون بملابسهم المزركشة ، بينما تتناثر حولهم قطعان الجمال والغنم والماعز التي تتحلى بعضها أيضاً بشرائط وجدائل ملونة تلتف حول أعناقها. ثم وصلوا إلى قرية «دارونتاه» .. حيث توقفا أمام نقطة تفتيش يقوم عليها جنود تابعون للحزب الإسلامي وكان أغلبهم صغار السن يضعون البنادق الآلية على أكتافهم بينما جلس بعضهم أعلى سطح أنقاض أحد البيوت . كان المصوران يظنان أن هذا هو البيت الذي يبحثان عنه .. «منزل أسامة بن لادن» . وسأل «ماليك» الجنود عن إمكانية قيام لانغلاندز وبل بزيارة البيت ، فأخبروه بأن بإمكانهما زيارته وممكن مقابل «رسوم أمن» ، وعلى ان يصحبهما جندي أو أكثر تلافياً لأن يقوم أي جندي آخر لا يعرفهما بإطلاق النار ، وكان المبلغ المطلوب ما يعادل دولاراَ واحدا. وعلى الفور التقط أحد الشباب بندقيته الآلية الكلاشينكوف وقفز أعلى مقدمة السيارة .. فبدأ « أكبر» يقود باتجاه المنزل .. ثم توقفوا قريباً منه وهبطوا من السيارة . ثم عبروا عبر معبر ضيق وملتوي أسفل جهاز لإطلاق النار آلياً على قاعدة متحركة .. وعندما أخبر المصوران جماعة المسلمين الأفغان عن رغبتهما في تصوير المكان وما حوله .. تساءل الأفغان عن السبب بتشكك ولكن عندما عرفوا هدف المصورين فقد رحبوا بالتصوير بدون أي اعتراض أو ملاحظات . كان المنزل يحتل موقعاً درامياً . فهو يقع أعلى بروز جبلي ينتهي ببحيرة محاطة بجبال عالية . وهو ما يتيح له أن يطل على مشهد بانورامي على كل ما يحيط به من جميع الاتجاهات . ويحتوي المجمع السكني المحيط عدة خرائب وأطلال لمبان مهدمة ، وبعض المباني الأخرى الصغيرة المقامة في مساحة من الأرض التي تناثرت فيها القذائف الفارغة ، وبعض السيارات العسكرية المخربة . وكانت هناك قذيفة صاروخية جديدة من تلك التي تستخدم في جهاز إطلاق الصواريخ القريب من مدخل المكان ، ما زالت مغطاة بغطائها البلاستيكي الذي خرجت به من المصنع . أما المنزل الرئيسي في المكان فيضم ثلاث غرف وهو مصمم وفقاً للطراز المحلي السائد مع شرفة صغيرة ومطبخ. وكان من الواضح أن هذا المنزل هو أقدم المباني في المكان ، ويبدو من الخارج وكأنه كان في الأساس بيتا للزراعة . كما يوجد مسجد صغير خلف المبنى . وهو مبني من الطوب المحلي والأسمنت أما الجدران فمصنوعة من ألواح خشبية أشبه بصناديق وضعت بعض الحجارة المكسرة والصخور داخلها . أي أن الجدار عبارة عن صناديق خشبية متقابلة وبها حجارة لتكون آمنة في حالة تعرضها للهجوم. أما السقف فهو عبارة عن هياكل سيارات نقل تعلوها أيضاً طبقة من الصخور . كان هذا هو البيت الذي أقام به أسامة بن لادن عند وصوله إلى أفغانستان قادماً من السودان عام 1996، واستمر به حتى عام 1997 حين شعر بتزايد نشاط العملاء الأمريكيين المتمركزين في بيشاور ، وتحركاتهم بسبب معسكرات التدريب التي كان يشرف عليها فقرر الانتقال إلى قندهار . وفي عام 1998 عندما قام تنظيم القاعدة بضرب السفارة الأمريكية في كينيا .. وتنزانيا ، تم ضرب الموقع الذي يوجد به منزل أسامة بن لادن بواسطة القوات الجوية الأمريكية .. كما تم ضربه مرة أخرى في 9 أكتوبر 2001 بعد رفض طالبان تسليم ابن لادن للولايات المتحدة . وعند هذه النقطة انتهت آخر مهام المصورين لانغلاندز وبيل في رحلتها المثيرة التي أسفرت عن هذا الكتاب التوثيقي المهم والذي يضيف للجانب التاريخي والتوثيقي جانباً بصرياً مهماً في عالم تصنع الصورة فيه الآن دورا خطيرا .. حتى أصبحنا ندرك أننا جميعاً نعيش في عصر الصورة . «وكالة الأهرام للصحافة »