كان يمكن ان يكون عنوان مقالي "قلنا لكم" انتم يا من سمّيتم العمليات الانتحارية ضد المدنيين اليهود جهاداً، غير مبالين بشجب الديبلوماسية الدولية والرأي العام العالمي لها وانتم تعلمون انهما اليوم الصانعان الاساسيان للقرار الدولي. قلنا لكم ان تحويل المراهقين الفلسطينيين، بعد غسل أدمغتهم، الى قنابل بشرية لنحر المراهقين اليهود الأبرياء جريمة اخلاقية لا يقرّها عقل ولا نقل، فضلاً عن مردودها السياسي العقيم لأنها تنحر في ما تنحر صورة الفلسطيني والعربي والمسلم والاسلام نفسه في الاعلام العالمي في عصر غدت فيه الحرب تُكسب في ساحات الاعلام أولاً. رداً على فتوى شيخ الأزهر ومفتي مكة بتحريم عمليات حماس والجهاد الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين شن عليهما قادة الحركات الاسلامية حرباً اعلامية، ومنذ اسابيع قليلة وقعوا بالاجماع على فتوى - مضادة تشجع العمليات الانتحارية ضد المدنيين التي حرمها أبو بكر على أول جيش أرسله فاتحاً. وأخيراً تبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض بعد العمليات الانتحارية المماثلة التي استهدفت الأبرياء الاميركيين في نيويوركوواشنطن والتي حولت صانعيها في نظر الرأي العام العالمي الى مرتكبي "جرائم ضد الانسانية" كما قال الرئيس الفلسطيني. قطعاً لن يكون العالم بعد 11 ايلول سبتمبر 2001 كما كان قبله. فلنحاول منذ الآن التعلم من هذا الحدث وأخذ الدروس منه. لقد كان ابن لادن أداة التاريخ اللاواعية لدفع استراتيجيا العمليات الانتحارية الى سدرة المنتهى والنهاية معاً. قد لا يختلف مصير الارهاب الاسلامي في نهاية الحرب العالمية الثالثة التي يتأهب العالم لشنها عليه عن مآل النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية. من مساخر التاريخ ان صدام بالأمس حرر بغزوه الكويت أميركا من عقدة فيتنام، أي عدم شن أي حرب خارج حدودها. واليوم يحررها بن لادن "بغزوه" نيويوركوواشنطن من عقدة الصومال، أي الإمساك عن إرسال جنودها للقتال خارج حدودها. هكذا حصلت على توقيع على بياض من الرأي العام الاميركي والعالمي لتصول وتجول في العالم. فها هي تستعد لضرب مجموعات ارهابية في 60 بلداً، بينها الولاياتالمتحدة وتدمير قواعد ارهابية عسكرية واقتصادية في 30 بلداً بينها بلدان عربية واسلامية عدة وقيادة تحالف من 100 دولة لمنازلة الارهاب. والحال ان التحالف ضد العراق لم يضم سوى 38 دولة. أوروبا كلها تقف وراءها بما فيها روسيا التي أوعزت لكل من طاجيكستان واوزبكستان بالسماح لها باستخدام قواعدهما العسكرية ضد طالبان، والصين تعتبر الحرب على الارهاب مشروعة، وايران وضعت منذ يوم الجمعة في 14 ايلول حداً للشعار الذي ظل صداه يتردد في المساجد والشوارع طوال 22 عاماً: "الموت لأميركا". وعرفات يطلب قبوله بين محاربي الارهاب، وسورية تتطلع الى لعب دور ما تحت قيادة واشنطن. أما اسرائيل فتعتبر نفسها رائدة الحرب على الارهاب وسيكون لمخابراتها الدور الرائد فيها. هل يتعظ صناع قرار العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين من تقليدهم جنرالات الموساد والشاباك هذا الوسام العالمي السياسي والعسكري؟ الأمل ضئيل في ان يتعلم من جعلت منهم غريزة الموت قتلة وقتلى بالفعل وبالقوة الدرس من ذلك. لكن هل يتعلم قادة العالم ونخبه بدورهم من اخطائهم وخطاياهم الطويلة كليل بلا آخر؟ إذاً أصروا على ان تجفيف ينابيع الارهاب بالاقتصار على القضاء على ملاذاته الآمنة ومصادر تمويله وتجنيده ودعمه المخابراتي فسنقول لهم عندئذ: "أبشر بطول سلامة يا مربع" لأن تجفيف ينابيع الارهاب يتجاوز بكثير قواعده العملياتية والمالية... لأنها في الواقع اساساً سياسية، اجتماعية وتربوية. السياسة الخارجية الاميركية مسؤولة عن الارهاب، قادة اميركا يتصرفون مع سكان العالم كما تصرف أسلافهم مع الهنود الحمر، أي يعتبرون الشعوب الأخرى كمّاً مهملاً لا يقرأون حساباً لا لمصالحها ولا لمشاعرها. مثلاً لا حصراً، في الشرق الأوسط انحازوا في تسع على عشر من الحالات على الأقل الى السياسة الاسرائيلية العدوانية. منذ حرب 1967، لم تشن اسرائيل قط حرباً إلا بضوء أخضر منها. وكلما حاولت الشرعية الدولية فرض قرار على اسرائيل وجدت الفيتو الاميركي منتصباً أمامها. هذه السياسة المتحيزة أعطت العرب الانطباع بأن القرار الاميركي الشرق أوسطي يُصنع في اسرائيل. في المقابل كانت وما زالت سياسة واشنطنالعراقية استفزازية ولا أخلاقية ولا سياسية بامتياز. رفضت المضي في الحرب حتى نهايتها المنطقية: اسقاط صدام ثم فرضت حظراً اقتصادياً قاتلاً على الشعب العراقي. والحال ان المنطق السياسي كان يتطلب، كما في سابقتي اليابان والمانيا غداة الحرب العالمية الثانية، عدم المس بالسكان وفرض حصار عسكري على النظام وتقليص قواته العسكرية وتجريدها من الأسلحة الهجومية. ومثلما ساندت اميركا اسرائيل، رعت ايضاً الارهاب الاسلامي. حتى بعد هزيمة السوفيات في افغانستان شجعت الجيش الباكستاني على تنصيب طالبان في افغانستان. وحتى 1995 على الأقل شجعت وصول الجبهة الاسلامية للانقاذ لحكم الجزائر دونما اعتبار لممارساتها الارهابية وعواقب ذلك الوخيمة على أوروبا. قبل أسبوع واحد من مذبحة ايلول، صرح أحد مستشاري كلينتون سابقاً بأن اميركا مصممة على مساعدة "المجاهدين" المسلمين في الصين كما ساعدت المجاهدين الافغان! إذا لم تُعِدْ الولاياتالمتحدة تعريف هذه السياسة الكارثية فإن الحرب العالمية الثالثة على الارهاب لن تعطي ثمارها المرجوة. مؤشرات هذا النقد الذاتي لن تقل عن رفع الحظر على العراق وتشديده على النظام، وفرض سلام الشجعان على حكام كل من اسرائيل وفلسطين وسورية ليشاركوا جنباً الى جنب في الحرب العالمية الثالثة على الارهاب التي تعدُ بأن تكون طويلة وعسيرة. لأول مرة تعي جميع بلدان العالم بما في ذلك البلاد العربية والاسلامية انها فريسة سائغة للارهاب. أليس هذا كافياً لعقد سلسلة مؤتمرات دولية تحت مظلة الاممالمتحدة لتجفيف ينابيع الارهاب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية كيما يتم استئصاله دونما إراقة قطرة دم واحدة؟ كيف؟ ينابيع الإرهاب يغذيها نبع واحد هو عجز المجتمعات الاسلامية عن تبني الحداثة الكفيلة وحدها بقطع الطريق على نمو الارهاب الديني بنزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني وعواقبها من فقر وأمية وبطالة وتهميش وانهيار البنى التحتية وتدمير البيئة والجنوح والارهاب وتقليدية التعليم. في العمق الارهابيون جلادون وضحايا في آن. جلادون لأنهم ينتزعون حياة الأبرياء. ضحايا لأنهم هم أنفسهم منتوج اخطاء وخطايا صانعي القرار القومي والدولي المصابين بقصر نظر مخيف في شتى الميادين. لنأخذ التعليم مثلاً لا حصراً، الارهابيون تشربوا منذ نعومة أظفارهم تعليماً قروسطياً يشوّه وعيهم ومفهومهم للعالم وللآخر ولمعنى وقيمة الحياة. إذا كان اسلاميو السودان استرقوا أطفال الاحيائيين والمسيحيين فلأنهم ما زالوا يدسون أحكام الرق بعد إلغائه بقرنين، واذا كان الطالبان ينكلون بشعبهم وشعوب العالم فلأنهم تعلموا في مدارس باكستان التي يشرف عليها الاسلاميون ان العالم ينقسم الى دار الاسلام ودار الحرب المستباحة. اذا كان اسلاميو باكستان قادرين على تعبئة الألوف للتظاهر دفاعاً عن ابن لادن وطالبان فلأنهم درسوا ان الجهاد ضد الكفار فرض عين اذا هوجمت دار الاسلام سواء أكانت ظالمة أو مظلومة. الجماعات الاسلامية الارهابية هي التي تشرف على المدارس في الصومال المتروك للفوضى، وكان المفروض ان تشرف عليها الاممالمتحدة. هذا التعليم الذي يعلم النشء التكفير بدل التفكير هو الذي يزرع في الصغار الرغبة في ان يكونوا قتلة وقتلى بتجفيف ضميرهم الاخلاقي وغسل أدمغتهم وتلقينهم ان الانسان مجرد وسيلة لتحقيق غايات دينية ودنيوية تتجاوز فهمه. لماذا لا تعقد الأممالمتحدة مؤتمراً لتوحيد برامج التعليم في العالم بتطهيرها من بقايا العصور الوسطى وتطعيمها بقيم حقوق الانسان وفي مقدمتها احترام الذات والآخر وتقديس الحق في الحياة وتشرُّب ثقافة الحوار!؟ وهي جميعاً قيم لا مكان لها في رؤوس قادة ومنفذي العمليات الانتحارية.