قد تكون استراتيجية السكتين المزدوجتين التي تتبناها الإدارة الأميركية للتعاطي مع شتى القضايا من إيران الى أفغانستان حتى مع «طالبان» سياسة واضحة في ذهن الرئيس باراك أوباما وأذهان أقطاب إدارته لا سيما الأكاديميين منهم. هذا لا ينفي واقعاً لافتاً وهو ما خلّفته هذه الاستراتيجية من انحسار الثقة بالولاياتالمتحدة، وازدياد الحيرة إزاء ما في ذهن هذه الإدارة، وتصاعد الخوف من الرهان على هذه الدولة العظمى. هذه الدولة التي تتوجه الى الانعزالية في زمن العولمة وتتراجع هيمنتها كدولة عظمى فيما يملأ أمثال الصين الفراغ دولياً ويسعى أمثال إيران و «طالبان» الى فرض الأمر الواقع لملء الفراغ إقليمياً. إنها أزمة هيبة تثير القلق على الصعيد العالمي لما تنطوي عليه من رسائل مفادها أن أياً كان في وسعه تسلق الحائط الأميركي لأنه بات على تلك الدرجة من الانخفاض. والأمر لا يقتصر على قادة دول مثل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو او الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد اللذين حاولا، وسيحاولان مجدداً، الاستخفاف بمطالب إدارة أوباما لأنهما يستعيران من حملتها الانتخابية جملة تخدمهما هي «نعم نستطيع». ذلك إن الذين يستهينون بأميركا اليوم يشملون شاباً باكستانياً من نوع فيصل شاه زاد المتهم بمحاولة تفجير «تايمز سكوير» ابن الطيار الرفيع المستوى في القوات الجوية الباكستانية، الشاب الذي هاجر الى الولاياتالمتحدة وتزوج وعاش بين كنيكتيكت وباكتسان. يشملون، بحسب مراقبين للبورصة الأميركية، أولئك الذين يحركّون البورصة بمئات النقاط، بل بألف نقطة، برسالة إنذار تدمير للاقتصاد الأميركي والعالمي عنوانها «نعم نستطيع». هؤلاء لاعبون جدد وبالتالي يصعب التنبؤ بأوراقهم. الخوف الأكبر هو أن يكون أمثال مفجر «تايمز سكوير» مثل جيش نائم موزّع في مختلف الأمكنة جاهز للإيقاظ والتفعيل بصورة تلقائية أوتوماتيكية. الخوف أن يُساء فهم استراتيجية السكتين المزدوجتين لدرجة هضم الجزرة وكسر العصا معاً بناء على استنتاج مسبق بأن الولاياتالمتحدة الأميركية في عهد «الأوبامية» لن تحارب، ولن تضغط، ولن تجازف، ولن تفاجئ. وهنا تماماً ما يمكن أن يجعل الاستنتاج في غير محله، لأن «الأوبامية» تفتخر بقدرتها على سكتين مزدوجتين من نوع آخر، هما الصبر والمثابرة في سكة والقفز الى المفاجأة في السكة الموازية. إنما، وحتى اذا كان الرهان على إدارة باراك أوباما سيأتي بمفاجأة سارة هي نجاح السكتين المزدوجتين، يستحسن لو تبادر هذه الإدارة الى التدقيق في مخاطر الاسترخاء والثقة بالنفس فيما الثقة بها تتدهور. يُستحسن لو تكشف عن بعض سيناريوات «في حال» لم تنتج سياساتها الراهنة النتائج المرجوة. يُستحسن لو تتوقف عن التظاهر بسياسات مفادها أنها إدارة أكثر أخلاقية. فالواقعية السياسية في عهد «الأوبامية» تضعها في المرتبة ذاتها مع الإدارات السابقة التي مارست تلك الواقعية بالقدر نفسه من «الاستغناء» عن حلفاء الماضي أو شركاء المستقبل. فهي استغنت، عملياً، عن الإصلاحيين في إيران وعن تعهداتها نحو دارفور في السودان، وهي في صدد إبرام الصفقات مع النظام في طهران الراغب في تصدير ثورة الجمهورية الإسلامية، كما هي في خضم دفع المعنيين في أفغانستان وباكستان الى صفقات مع «طالبان» شرطها الوحيد ليس وقف قمع النساء بالتأكيد، بل هو فك الارتباط مع «القاعدة». وكأن لفك الارتباط هذا معايير واضحة. في البدء، إيران التي لها ذراع الاخطبوط الممتد في عمق موضع ضعف إدارة باراك أوباما، بالذات في العراق وأفغانستان، حيث تريد هذه الإدارة ازدواجية «المكوث والخروج»، في استراتيجية جعلتها تشعر أنها في حاجة ماسة الى طهران لتسهيل بقائها وخروجها من العراق، وربما كذلك من أفغانستان. الاستنتاج بضرورة هذه الحاجة خاطئ لأنه تقويم يتجاهل أن إيران هي التي تحتاج الى الشراكة في استراتيجية البقاء والخروج الأميركي من العراق. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية متوترة بشق «الحرس الثوري» منها كما بشق آية الله علي خامنئي ومَن بينهما من أمثال محمود أحمدي نجاد. متوترة بسبب فهمها الأعمق من القراءة الأميركية السطحية لصبر الإصلاحيين داخل إيران ومعنى الانتفاضة الشعبية في إيران. متوترة لدرجة أنها تخشى أي انسحاب أميركي من العراق يترك جارها المهم في حال فوضى واندلاع اللاإستقرار. هناك أحاديث سرية وراء الكواليس بين الأميركيين والإيرانيين حول موضوع العراق وربما مواضيع إقليمية أخرى الى جانب موضوع احتواء «التطرف الإسلامي العنيف» في مختلف البقع وعلى رأسها أفغانستان. هناك أحاديث موازية لطروحات الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا مع أقطاب الحكومة الإيرانية في الشأن النووي، وآخرها على طاولة عشاء بدعوة من وزير الخارجية منوشهر متقي في مقر سكن السفير الإيراني في نيويورك. ما ليس واضحاً هو هامش المقايضة أميركياً وهامش المناورة إيرانياً. هذا الهامش سيبقى عائماً ما دام السؤال الأساسي الذي يجب أن تكون الإجابة عليه مفهومة هو: ماذا تريد إيران؟ فإذا كانت تريد أن تكون قوة نووية، عندئذ يطرح السؤال نفسه: لأية غاية؟ فإذا كانت الغاية العسكرية مجرد «الردع» كما تزعم إسرائيل أن تلك هي غايتها حتى وهي تتجنب الاعتراف بامتلاكها الترسانة النووية، فالجواب عندئذ يوصل الى غاية الهيمنة الإقليمية، أو أقله التموضع في موازين القوى الإقليمية الإيرانية – الإسرائيلية – التركية. فإذا كانت إدارة جورج دبليو بوش قد قدمت العراق على طبق من فضة الى إيران عندما شنت حرب الإرهاب عبره وعليه ونسفته عسكرياً من معادلة موازين القوى الإقليمية، فإن إدارة باراك أوباما تغامر بتوطيد الهيمنة الإيرانية على منطقة الخليج وما بعد إذا سارت في خطى التراخي مع إيران في ملف العراق كما في الملف النووي. العراق يجب ألا يكون في الدرجة الثانية في مرتبة الأولويات الأميركية لمجرد أن الإدارة منهمكة اليوم في أفغانستان وموضوع إيران. توجد أحاديث سعودية – أميركية – إيرانية – سورية – خليجية حول الشأن العراقي، وربما هناك تفاهمات على اختيار رئيس وزراء لا يكون من بين كبار الرابحين في الانتخابات الأخيرة. المهم ألاّ تفقد إدارة باراك أوباما خيوط الثقة بها في العراق، لأن العراق فائق الأهمية بحد ذاته ولأنه مؤشر مهم على محاولات الطمأنة الإقليمية التي باسمها تتم التضحية بأقطاب ولاعبين ومعادلات وتوجهات في أماكن أخرى مهمة من ضمنها لبنان حيث التفاهمات واللاعبون تحت الاختبار. عنصر إيران ليس وحده، على أهميته، نقطة الاختبار للإدارة الأميركية في المنطقة. عنصر التعامل مع الملف الفلسطيني – الإسرائيلي محط امتحان لإدارة أوباما. كذلك كيفية ونوعية العلاقة الأميركية – السورية التي بدورها تمتد من العراق الى ملف الإرهاب، الى المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية وعلى رأسها اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، الى الإمدادات العسكرية ل «حزب الله» والميليشيات الفلسطينية العاملة في لبنان. إحدى أهم العقد أمام تطوير العلاقة الأميركية – السورية هي إصرار دمشق على عدم الاستغناء عن «ورقة» الفصائل الفلسطينية التي تتحدى ليس فقط السيادة اللبنانية وإنما أيضاً السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس ورئيس الحكومة سلام فياض. دمشق تتعاون في العراق، ولقد سلّمت أكثر من «دفعة» هناك من خلال «لجم» مجموعات متطرفة عن «التسلل» الى العراق للقيام بأعمال إرهابية. واشنطن ليست راضية عن أسلوب دمشق في التعامل معها دفعة بدفعة وهي تصر على القيادة السورية أن تكف عن محاولات تحجيم السلطة الفلسطينية. وقد لا يكون تقويض الميليشيات الفلسطينية للسيادة اللبنانية في طليعة الأولويات الأميركية، إنما استمرار عبور السلاح النوعي الى «حزب الله» هو الذي أثار حفيظة واشنطن، وهو ما كشف خللاً كبيراً داخل الإدارة الأميركية، وأثار المزيد من الشكوك والريبة والثقة بها وهي تضع قدماً هنا وقدماً هناك «وقدماً آخر في فمها» – بحسب التعبير الأميركي. ماذا حدث لذلك الرجل الذي اقتحم الساحة الدولية رئيساً أميركياً مذهلاً «واثق الخطوة يمشي ملكاً»، عندما تحدث عن العدالة كبوصلة أخلاقية في كل مكان، من السودان الى لبنان؟ ماذا حدث لذلك الرجل الأسمر الوسيم الذي ألقى خطاباً في القاهرة اثار اعجاب الكثيرين المؤمنين حول العالم، وها هو اليوم محط غضب وخيبة؟ حدثت الواقعية السياسية، ربما. أو ربما أن العالم ليس صبوراً كما باراك أوباما. قد يكون مبكراً الحكم القاطع على «الأوبامية»، إنما من الضروري التنبه الى إفرازات انحسار الثقة بها بصورة تؤدي الى تآكل لن تنقذها منه المفاجأة، مهما كانت ضخامتها. التذمر من قِبَل الذين رفعوا باراك أوباما راية و «علماً» لهم في العالم سابقاً قد يكون فيه إفراط كبير لكنه يعكس بدوره هشاشة «الأوبامية» وهي تبدو لهم ضعيفة وخائفة تقفز السكتين المزدوجتين بازدواجية وبتخلٍّ عن الوعود. هذا فيما يرى المعارضون ل «الأوبامية» أساساً أن استراتيجية السكتين المزدوجتين ليست سوى إذعان لجميع الذين يلتقطون تلك الجزرة ويقضمونها فيما يحطمون العصا ويلغونها. وهؤلاء ليسوا فقط القيادة في إيران ولا هم «طالبان» في أفغانستان وباكستان فحسب، وإنما هم اليوم أيضاً يمتدون الى «تايمز سكوير» في هجرة خطيرة الى الشمال تطعن بدورها في عصب «الأوبامية».