يقف اليمن اليوم على مشارف مرحلة جديدة يمكن وصفها بأنها تبشر بتجاوز الأزمة العميقة المتعددة الأبعاد التي شهدها هذا القطر، بدءاً من أحداث ثورة 2011م مروراً بعملية "استعادة الأمل"، ووصولاً إلى تداعيات تحالف "الحوثي - صالح"، و"عاصفة الحزم". وتتمثل أهم سمات هذه المرحلة الجديدة في "إعادة ترتيب البيت اليمني". وبالتأكيد لن يتم هذا بالاستفادة من المرحلة الماضية القريبة فحسب، بل سيتم كذلك بالاستفادة من تاريخ اليمن الحديث والمعاصر منذ قيام الجمهورية سنة 1962م. كانت أهم فترة منذ هذا التاريخ حقبة حكم "علي عبدالله صالح"، الذي أعاد صياغة نظام الحكم بشكل تامّ، واعتمد فيه على تحالفات عدّة تشابكت فيها ركائز النظام الثلاث التي تتداعى اليوم، وهي: "القبيلة، والحزب، والجيش"، إلا أن هذا البناء صمد أمام كل رياح التغيير التي مرت باليمن طوال حكم "صالح"، لكن ذلك لم يمنعْه من الدخول في مرحلة الانهيار التي بدأت على وجه التحديد من ثورة 2011م. وكل ما يحدث في اليمن الآن يأتي في سياق الارتدادات لهذا السقوط. ولذلك فإن المرحلة المقبلة قد تشهد إعادة تشكيل النظام اليمني، ليس فقط على أساس مخرجات الحوار الوطني؛ بل على أساس التسوية التي ستتم في ضوء الأزمة الحالية واستعادة الشرعية، مع ما يعنيه ذلك من مرحلة انتقالية تنتهي بانتخابات وتوازنات سياسية جديدة تفرزها إرادة شعبية حرّة؛ وبذلك قد نكون على أعتاب مرحلة عملية "تصحيح" حقيقية للنظام الجمهوري في اليمن، أو قُلْ: على مشارف مشهد يتمثل في "تجديد الطبقة السياسية اليمنية". وستطال عملية "إعادة ترتيب البيت اليمني" - في غياب صالح - الركائز الثلاث التي أقام عليها نظامه، ما يعني: التخلص من عقليته في الحكم، والتي أفسدت مؤسسات الدولة والمجتمع، والطبقة السياسية برمتها، ذلك لأنه جعل الفساد والمحسوبية والاستزلام أدوات حكم وإدارة واستتباع للموالين، كما أوغل في تقسيم المجتمع وضرب بعضه ببعض، سواء مناطقياً، أو طبقياً، أم قبلياً، وحتى مذهبياً. ولعل الحزب الحاكم أول مؤسسة بدأ العمل على إصلاحها منذ مدّة. يعد المؤتمر الشعبي العام- منذ تأسيسه في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، حزباً ليبرالياً ومحافظاً، وله مؤسسات قارة ومؤتمرات دورية، جمع في داخله توجهات سياسية وفكرية متنوعة، وكذلك على مستوى التمثيل الاجتماعي، كما شمل نخباً وإطارات إنسلخت من أحزابها غير القانونية وفضَّلت أن تعمل في أُطُر وهياكل الحزب الحاكم والوحيد المرخص له إلى حد تاريخ إعتماد التعددية الحزبية بعد تحقيق الوحدة سنة 1990م. وعلى هذا الأساس برز "المؤتمر الشعبي العام" بصفته حزباً غيرَ عقائدي، وبذلك يكون قد جمع - تقريباً - كلَّ العائلات السياسية في الشطر الشمالي من اليمن، مع استقطاب بعض الجنوبيين المعارضين للحكم الشمولي الاشتراكي، مما أَشْعَرَ كافة العائلات السياسية اليمنية بأنها في السلطة بصورة أو بأخرى، وبأنها غير مقصيّة. وهذا جعلها تتنافس فيما بينها داخل مؤسسات الحزب وأطره. وعلى الرغم من أن الحزب يبدو تشكيلاً سياسياً مؤسساتياً حديثاً مختلفاً بعضَ الشيء عن الأحزاب العقائدية في بقية الجمهوريات العربية، وعلى الرغم من اعتماد أداة الانتخاب في داخل مؤسساته، إلا أن تدخّل رئيس الحزب - الذي هو رئيس الدولة - لتعديل التوازنات داخل أطر ودوائر الحزب عبر التعيين، شوَّه الممارسة الديمقراطية داخله، بل أفرغها من مضامينها، ومنع بالتالي بروز شخصيات ذات استقلالية وصاحبة قرار فعلي، كما جعل من نفسه الجهةَ الوحيدة التي بيدها القرار الحاسم داخل الحزب، ومن ثَمَّ داخل الدولة، وتحول الحزب تدريجياً إلى أداة حكم فردي ذات واجهة ديمقراطية. إلا أن نتائج هذا التدخل لم تتوقف عند هذا الحد، بل وصلت إلى نشوء طبقة سياسية لا ترى نفسها في مرآة قدراتها الذاتية، بل تراها في مدى تقربها وطاعتها وخدمتها للقائد، ومن ثَمَّ اكتفت يما يسمح به لها هذا الأخير من منافع وسلطة وهمية تسند إليها دون أن تتحكم في مصادرها حقيقة. وظلت تعمل دائما تحت عباءة "القائد"، وكان قد شهد الحزب سنة 2007م محاولة لدعم الممارسة الديمقراطية بداخله انتهت بإصابة صاحب المبادرة بجلطة أخرجته عن دائرة الضوء. واليوم: كيف يمكن إعادة تشكيل الحزب خارج وجود رئيسه ومؤسِّسه "علي عبدالله صالح"؟ وهذا ما يبدو أن النية تتجه صوبه لدى عدد كبير من رجال الحزب الذين يَعُون مقتضيات اللحظة التاريخية التي تتطلب ان يتصرفوا الآن بصفتهم شخصيات سياسية صاحبة قرار مستقل وتتحمل كامل مسؤولياتها التاريخية تجاه الوطن، وتحويل الحزب من "مؤسسة في خدمة سلطة فرد" إلى "هيئة ديمقراطية في خدمة مشروع وطني وديمقراطي جامع". ثمة خيارات واسعة أمام حركة تصحيحية يتم التحضير لها داخل أروقة مؤسسات الحزب. فهل يلجأ "صالح" إلى الاستقالة في إطار حلٍّ يضمن له خروجاً آمناً؟ وهذه إمكانية واردة، لكن قد يتم عزله من قبل مؤتمر استثنائي، وبطريقة فوقية؛ أي أن القيادات المؤيدة للشرعية تتَّخذ مثل هذا القرار، ثم يتم تسويقه لدى الأنصار والأتباع في المحافظات. لكن هذا قد يؤدي إلى اضطهاد كل من ظلَّ في الداخل ويعلن تأييده لمثل هذا القرار. كما أن اللجوء إلى تصعيد موقفٍ لعزل صالح من رئاسة الحزب، بدءاً من داخل المحافظات إلى قيادة جديدة للحزب؛ سيؤدي حتماً إلى نفس النتيجة؛ وهي الدفع بكثيرٍ من كوادر وإطارات الحزب إلى المعتقلات، مثلما حدث مع نشطاء وقيادات التجمع اليمني للإصلاح وبعض الوجاهات القبلية التي أيدت "عاصفة الحزم". ويمكن القول: إن مثل هذا الإجراء الأخير أقدم عليه الحوثيون في كلٍّ من: عمران، وأرحب، وغيرها، حيث طالت الاعتقالات بعض الوجاهات المؤتمرية في عمران، وهي من أهم معاقل المؤتمر الشعبي العام، لذلك: طالما لم تتغير موازين القوى على الأرض فقد لا يكون مجدياً الدخولُ في عملية عزل رئيس الحزب. إلا أن هذه العملية - إنْ حدثت - فستجد لها أنصاراً كثيرين في المناطق التي خرجت من دائرة سلطة الحوثي وصالح في المحافظات الجنوبية والشرقية والوسطى. ومهما يكن من امر، عملية التصحيح داخل الحزب الحاكم سابقا تجري على قدم وساق، لكن يظل السؤال حول مدى عمق موجة التغيير هذه، وعن الآلية المعتمدة. أما "المؤسسة الثانية" التي تبدو في حالة تفكك وبالتالي تستعد لإعادة البناء والتشكل من جديد؛ فهي: "الجيش اليمني". لقد تم بناء الجيش اليمني على مرحلتين الأولى: في سياق مواجهة الحرب الأهلية التي اندلعت إثر ثورة 26 سبتمبر 1962م، وأطاحت بالنظام الإمامي، وبالتالي كانت وظيفة الجيش الجديد تتمثل في تثبيت النظام الجمهوري. أما المرحلة الثانية: فهي التي كانت لمواجهة دولة الشطر الجنوبي سابقاً، وذلك في سياق الاصطفاف الإقليمي والدولي في عهد الحرب الباردة. ثم تطور وضع الجيش اليمني متجهاً نحو ضمان بقاء صالح والتحالف الذي أنشأه في الشمال في السلطة، إذ تعرض حينها لمحاولات انقلاب من بعض رفاق "إبراهيم الحمدي" في الجيش، ثم بعد تحقيق الوحدة والتخلص من دولة الجنوب وإضعاف مرتكزاتها الاجتماعية والسياسية، والقضاء على قوتها العسكرية في حرب صيف 1994م، بدأ الجيش يتجه نحو التحوّل إلى "مؤسسة تقع تحت قيادة عائلية"، كما انزلق تدريجياً في سياق مشروع "التوريث"، حيث اختلف الوضع تماماً لينتقل إلى وظيفة تَأْييد النظام القائم، ومن هنا بدأت كل المشكلات السياسية الأساسية في اليمن، وكشفت الجمهورية عن وجهها المشوّه بفعل مثل هذه المشاريع. ومهما يكن من أمر، فقد ظل الجيش اليمني في أغلب مكوناته تركيبةً شمالية، وظلَّ مفتوحاً لأبناء المناطق الشمالية بصفته مشروعَ ارتقاءٍ اجتماعي واستتباع لضمان ولائه لقيادته السياسية والعسكرية. كما يلاحظ أن الجيش اليمني لم يُسْتَخْدَم إلا في حروب "يمنية - يمنية"، سواء بين الشطر الشمالي والشطر الجنوبي قبل الوحدة سنة 1990م، أم في حرب صيف 1994م لتثبيت الوحدة ضد النزعة الانفصالية للحزب الاشتراكي في الجنوب، وكذلك في ست حروب ضد الحوثيين، إلى جانب حروبه ضد الجماعات المسلحة، وضد القبائل المتمردة على السلطة. وفي النهاية: هاهو اليوم يسقط تحت قيادة وتوجيه وسيطرة ميليشيات طائفية فاقدة لحس التوافق الوطني. ولعلَّ المتابعَ لتاريخ الجيش اليمني في ظل الجمهورية يلاحظ أن بنْيته كانت في الأساس بريّةً، وأنه تم إهمال الجانبين البحري والجوي فيه؛ شعوراً من قيادته بأن الخطر يأتي من جهة البر فقط. لكن مع تثبيت وحدة القطر اليمني، وتوقيع اتفاقيات حدود مع دول الجوار، ومع إمكانية اندماج اليمن بصورة أو بأخرى في مجلس دول التعاون الخليجية؛ تكون قد زالت كل الهواجس الكبيرة التي كانت لدى قيادة الجيش. على ضوء ذلك كله: يبدو أن الجيش اليمني اليوم في حاجة إلى إعادة بناء وتشكيل- سواء على مستوى وحداته أم على مستوى عقيدته القتالية ووظائفه اليومية - وأنْ يتحول إلى مؤسسة وطنية مفتوحة لكل أبناء الشعب اليمني، على اختلاف انتماءاتهم المناطقية. هكذا يبدو أن المرحلة المقبلة سوف تشهد تجديداً في الطبقة السياسية، ليس فقط في بعض رجالها؛ بل - كذلك - في وعيها ومشاريعها ومزاجها السياسي الذي سيبتعد عن التسلطية والسلطوية، في اتجاه التوافق الوطني والتشاركية. فهل تعي الطبقة السياسية اليمنية أنها كلها مسؤولة عما وصل إليه البلد اليوم من احتراب وخراب، وبالتالي تتحمل مسؤولية البحث عن المخارج الآمنة للجميع، والتي قد تؤمن مستقبل اليمن لعقود قادمة؟ * باحث بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية