Mare Weitzmann .Livre de guerre كتاب الحرب Stock, Paris 2001. 152 Pages. هذا كتاب مكتوب من داخل المعمعة، ولكن على طريقة المراسل الحربي الذي يريد ان ينقل تفاصيل المعارك من دون ان يتخذ موقفاً لا مع ولا ضد. ولكن بما ان هذا المراسل الحربي لم يغطِّ الأحداث إلا من جانب واحد من الجبهة، هو الجانب الاسرائيلي، فقد جاءت مراسلته تعكس لا تحيُّزاً واضحاً، بل تعاطفاً ملتبساً مع الطرف الذي يغطي الأحداث من موقعه. أضف الى ذلك، ان هذا المراسل لديه استعداد لمثل ذلك التعاطف، وهذا باعترافه: فهو لا يكتم قارئه انه حامل لهوية مزدوجة، فهو فرنسي وهو يهودي في آن، وهو لم يقصد اسرائيل لتغطية وقائع الانتفاضة الفلسطينية الثانية إلا في محاولة منه باعترافه أيضاً لحسم سؤال الهوية المزدوجة ذاك. ومع ذلك كله فإن هذا الكتاب يتسم بميزة أساسية: فهو ينقل الى قارئه الخارجي صورة من الداخل للداخل الاسرائيلي. وانما من هذا المنظور تحديداً استطيع القول انني لم أقرأ كتاباً قط يعرض بصدق الكيفية التي يفكر فيها الاسرائيليون كما هذا الكتاب المكتوب في تل أبيب والقدس الغربية في الفترة ما بين تشرين الأول اكتوبر 2000 وشباط فبراير 2001، وهي الفترة التي شهدت، في ظل انتفاضة الأقصى، سقوط باراك وصعود شارون، وبالتالي "عودة الحرب" و"صور الحرب" كما يقول مؤلف هذا الكتاب الذي تقصّد ان يجعل عنوانه "كتاب الحرب". كيف يفكر الاسرائيليون؟ ولكن الاسرائيليين ليسوا كتلة صماء ولا هم مقدودون من قدة واحدة. فاسرائيل هي المجتمع الأكثر كوسموبوليتية من نوعه في العالم المعاصر. وعدا الانقسامات الانتروبولوجية والثقافية واللاهوتية التي لا تقع تحت حصر والموروثة من عهد الاحتلال الروماني بالنسبة الى اليهود الاصليين ومن الفضاءات العقلية للقرون الوسطى بالنسبة الى يهود الشتات، أضافت الحداثة السياسية ثلاثة انقسامات جذرية أخرى: يمينيين ويساريين، علمانيين ودينيين، صهيونيين ولا صهيونيين، فضلاً عن أن قيام اسرائيل نفسها منذ 1948 خلق نوعاً من الفصام في الهوية بين "الاسرائيليين" و"اليهود". وفي ما يتعلق بمعسكر اليسار تحديداً وهو المعسكر الذي يتعاطف معه جهاراً مؤلف "كتاب الحرب" فإنه يرزح، على ما يبدو، تحت وطأة خيبة أمل مريرة، وهو ينزع في الوقت نفسها، وبصورة شبه جماعية، الى تحميل القيادة الفلسطينية مسؤولية المأزق المسدود الذي انتهت اليه عملية أوسلو السلمية. عموس أوز، كبير الروائيين الاسرائيليين المعاصرين، لا يخفي مرارته ولا يتحرز في إلقاء تبعة الفشل على عرفات شخصياً. ففي رأيه ان المقترحات التي قدمها ايهود باراك في مفاوضات كمب ديفيد في تموز يوليو 2000 كانت "معقولة" للغاية لأنها كانت ستؤدي الى انشاء دولة فلسطينية على مساحة 90 أو 95 في المئة من أراضي الضفة الغربية، مع الاستقلال الذاتي للأحياء العربية من القدس، في ظل رعاية مالية أميركية كان من شأنها ان تحول "فلسطين الجديدة" الى قطب للتكنولوجيا العالية في منطقة الشرق الأدنى. لكن ياسر عرفات يقول عموس أوز "صفق باب كمب ديفيد في نهاية تموز، وعاد الى غزة وهو يطلق صيحات الحرب". ويضيف الروائي الاسرائيلي غاضباً: "لقد قدم ايهود باراك للفلسطينيين تنازلات أهم من أي تنازلات أخرى قدمها رئيس للوزراء منذ انشاء اسرائيل، وذلك هو الوجه الذي سيحتفظ له به التاريخ. لكن هذا التاريخ عينه سيسجل ان تلك المقترحات لم تحظ برضى السيد عرفات الذي آثر ان يقفل راجعاً الى غزة متقمصاً شخصية صلاح الدين، تلك الاسطورة الحربية العربية الناجزة. لست أدري ان كان السيد عرفات يعتقد ان ذلك أكثر رجولية، او اكثر اسلامية، او اكثر بطولة، ولكن الواقع انه بحاجة الى دم ودموع ليروي دولته المستقلة بقدر من المصداقية. اننا جميعاً نعلم ان هذه الدولة لا بد ان تقوم ... أما كم من الوقت ستستغرق وكم من الأبرياء سيلقون مصرعهم بعد من اجل مصداقية السيد عرفات، فهذا ما لا نعرفه". وهذا ما تذهب اليه أيضاً الروائية باطية غور. صحيح انها واحدة من اكثر الاسرائيليين معارضة لحركة الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة، وصحيح انها ترى في المستوطنات العائق الأكبر في تقدم مفاوضات السلام، لأن "كل مستوطنة جديدة هي بمثابة ضربة خنجر في جسد السلام"، مع ذلك فإنها لا تتردد في القول: "إن عرفات هو المسؤول الأول عما يجري اليوم". ويظهر رون بونداك موقفاً اكثر اعتدالاً. ورون هذا هو احد الاسرائيليين الاثنين اللذين تعود اليهما المبادرة في اطلاق عملية مفاوضات أوسلو. فقد كان، مع زميله يائير هرشفلد، مدرس تاريخ الشرق الأدنى، قد دخلا منذ مطلع 1990 في سلسلة لقاءات سرية مع القياديين الفلسطينيين المقربين من عرفات، في زمن كان فيه القانون الاسرائيلي يعاقب بالسجن كل اسرائيلي يتصل بعضو في منظمة التحرير الفلسطينية. فرون بونداك يبدي اقتناعه بأن عرفات ليس هو من أشعل فتيل الانتفاضة الثانية بأمر مباشر منه، لكنه كان دوماً يحتفظ ببطاقة العنف على سبيل الاحتياط، وما كان ليتوانى في استخدامها حتى لو نجحت المفاوضات: "فتلك هي طريقته ليُظهر لشعبه أنه فعل أقصى المستطاع للحصول على أقصى المستطاع، أياً ما يكن حجم التنازلات التي سيكون قد اضطر الى تقديمها". يوسي بيلين، وزير الخارجية الأسبق الذي رعى في حينه المباحثات السرية، يربط هو الآخر بين اندلاع الانتفاضة الثانية وبين استرداد ياسر عرفات لمصداقيته ومشروعية زعامته. فعرفات كان دخل عام 1993 في عملية مفاوضات أوسلو من موقع الضعف وتآكل المشروعية. فهو كان خرج خاسراً من حرب الخليج الثانية من جراء تأييده صدام حسين. وعلاوة على انه كان أسير منفاه التونسي، وجد نفسه تحت ضغط اقتصادي مباشر من جراء وقف الكويت ودول خليجية اخرى مساعداتها المالية لمنظمة التحرير. وقد جاءت مفاوضات أوسلو لتعيد اليه شرعيته. ولكن بعد سبع سنوات من أوسلو كانت قد نمت قوى فلسطينية جديدة، على يسار عرفات هذه المرة. ومن جديد عادت مصداقية عرفات مطروحة على بساط البحث. ومن هذا المنظور فإن الانتفاضة الثانية لم تكن قراراً عرفاتياً، بل كانت على العكس تعبيراً عن عدم قدرة القيادة العرفاتية عن احتواء كلية الشارع الفلسطيني. وبدلاً من ان تكون بيده أداة للضغط، ضيّقت مجال مناورته. فهو اليوم أسيرها اكثر منه محركها. آنا كاهن، الحاملة للجنسية الفرنسية والتي اختارت بصفتها يهودية الديانة ان تقيم في القدس الغربية وتعمل مراسلة لمجلة ألمانية، ترفض، في المقابل، منطق الكتلة العظمى من اليساريين الاسرائيليين في تحميل مسؤولية الفشل لتكتكة عرفات والسلطة الفلسطينية. ففي نظرها ان المسؤول الأول عن اندلاع "انتفاضة الأقصى" هو ايهود باراك بشخصه، وليس حتى آرييل شارون الذي لم تكن زيارته لجبل الهيكل الا بمثابة نقطة الماء أو النتروغليسيرين بالأحرى التي جعلت الإناء يطفح وينفجر. فإيهود باراك، مثله مثل كل رؤساء وزارات اسرائيل من قبله، "لم يقدم ما فيه الكفاية للفلسطينيين". فبعد أوسلو غدت حياة الفلسطينيين أسوأ مما كانت قبل أوسلو، وصارت تصدق فيهم قولة ماركس: "إنه لم يعد لديهم ما يخسرونه بالانتفاضة سوى بؤسهم". وطبقاً لآنا كاهن دوماً، فإنه لم يتغير في وضع الفلسطينيين شيء منذ ان كانت غولدا مائير تنكر وجود الشعب الفلسطيني. ولهذا هم اليوم ينتفضون، "في الوقت الذي يكتفي فيه قادة اسرائيل بالتفاوض مع سلطة أوليغارشية لم تعد تمثل في الواقع شيئاً". ولكن اذا كانت مروحة التأويلات اليسارية الاسرائيلية تتسع على هذا النحو لتعدد من النظريات والآراء المتضاربة، فإن تأويلات معسكر اليمين الاسرائيلي تجنح على العكس الى ان تكون واحدة وإجماعية. فعملية السلام لم تفشل الا لأن ايهود باراك جاوز الخط الأحمر في التنازلات التي قدمها للفلسطينيين، متجاهلاً ان فلسطين بأسرها أرض وهبها الله "لشعبه"، وان استيطانها ليس من حق اليهود فحسب، بل من واجبهم المقدس ايضاً. وانه إن يكن من لاجئين في العالم اليوم فإنهم يهود الشتات الذين يعود اليهم هم، لا الى الفلسطينيين، "الحق في العودة". ومن دون ان يماري هذا اليمين الاسرائيلي في وجود مشكلة لاجئين فلسطينيين، فإنه يعتقد ان هذه المشكلة قابلة للتسوية اما سلمياً عن طريق اعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المجاورة التي عندها فائض من الأرض، وإما بالحرب عن طريق الإبادة. وهذا هو اجمالاً موقف المستوطنين من جماعة غوش إيمونيم ومن أتباع الحاخام العنصري مائير كاهانا الذين لا يفتأون يطوفون شوارع القدس وهم يهتفون: "الموت للعرب"، والذين بلسانهم قال قائلهم لمؤلف "كتاب الحرب": "لقد صوّتنا لآرييل شارون كي يقتل العرب كلهم، فإن لم يفعل فلن يكون مصيره أحسن من اسحق رابين!".