عندما انهار الاتحاد السوفياتي تبعثرت منظومته الاشتراكية، وحلّت مكانهما انظمة تلهث وراء الرأسمالية، وقد أدخلت مجتمعاتها في حال تدهور مريع اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً وثقافياً. فعالم بأسره انهار فجأة بعد ان كان الثقل العسكري والسياسي في مقابل الغرب. ونجم عن ذلك زلزال ضرب انحاء المعمورة مما ترك انظمة ونخباً كثيرة في حال من الضياع واللاتوازن بحثاً عن بديل وبأي سبيل. فالغرب وحده كان في حال عرس، الى جانب الشعوب التي ضمها الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، حيث شعرت ان صخرة كبيرة ازيحت من فوق صدورها. ويمكن ان يلحظ ان الاسلاميين وجدوا في ذلك الحدث هزيمة لإيديولوجية كانت تتحداهم، ولقوة كبيرة كانت تضغط عليهم وتعمل على اقصائهم. لو عاد المرء بذاكرته الى عشر سنوات خلت لتذكر تلك المقولات التي التقى عندها من اسودّت الدنيا في وجوههم، ومن راحوا يهللون للنظام العالمي الجديد الذي وعد جورج بوش الأب العالم بقيامه بعد انتهاء الحرب الباردة. وهي ان "الشعوب فقدت سندها ونصيرها"، او مَنْ كان يقف في وجه اميركا، وأن "حركات التحرير والثورات انتهى زمانها من بعد الاتحاد السوفياتي". فالعالم دخل نظام القطب الواحد، وأصبحت، بعد اليوم، شعارات التحرر والاستقلال والوحدة والتنمية المستقلة، وسيادة الدولة ومقاومة الامبريالية، ومحاربة الصهيونية، ناهيك عن شعارات الثورة والعدالة الاجتماعية، تعيش بين جدران "اللغة الخشبية"، وأصبح قائلها يجترّ الشعارات المستهلكة البائدة. فإذا كان لتلك الشعارات من مسوّغ ودعم زمن الحرب البادرة والاتحاد السوفياتي فقد فقدت اليوم كل ذلك. ولكن هل تلك النظرة الى دور الاتحاد السوفياتي في مرحلة الحرب البادرة صحيحة اصلاً، او على الاقل، بكل هذه المبالغة؟ او بسؤال آخر أفلا تحمل مقولة "حصن الشعوب وحامي ثوراتها وحركات تحريرها وراعيها" كثيراً من المبالغة والبعد من الواقع، وإذا صحّت جزئياً في بعض الحالات واللحظات أفلم تكن عكس ذلك في عدد مقابل، او يزيد، من الحالات واللحظات الحاسمة؟ او بعبارة اخرى هل كان الدور السوفياتي على مستوى حركات الشعوب وثوراتها، وفي العلاقة بدولها المستقلة، في اطار الايجاب دائماً ام في الاطار الضاغط والسالب في كثير من الحالات ان لم يكن اغلبها كذلك؟ وهل صحيح ان ذهاب الاتحاد السوفياتي افقد الشعوب والدول المقدرة على مقاومة الهيمنة وانتزاع حقوقها ومراعاة مصالحها، او اختيار النظم وأنماط تحصيل المعاش؟ لعل من اهم ما يمكن ان يسجله اشد المتحمسين للاتحاد السوفياتي وقوفه القوي ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، علماً ان ذلك الموقف، على اهميته، في حينه، لم يكن متصادماً مع اميركا وإنما مع بريطانيا وفرنسا والدولة العبرية. ويمكن ان يسجل له خرقه لحاجز الحظر الغربي على التسلح العربي، وإقدامه على المساعدة في بناء السد العالي يوم كانت مصر عبدالناصر في أمسّ الحاجة الى ذلك معنوياً وسياسياً، وليس مشروعاً حيوياً فقط. ولكن ماذا إذا وضع كل ذلك وغيره في كفة الميزان، ووضع في الكفة الأخرى وقوفه الى جانب قرار التقسيم في 1947 ودعم اقامة الدولة العبرية وإمدادها بالسلاح في احرج اللحظات في حرب 1948 - 1949، وتأكيده الدائم على وجود الدولة العبرية وعدم المساس به وذلك فضلاً عن دعمه لانفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة وضغطه على مصر بعدم التدخل لانقاذ الوحدة، وجعله التسلح العربي الآتي من قبله تحت سقف لا يصل الى حد التوازن الاستراتيجي مع الجيش الاسرائيلي، ناهيك عن التأهيل لحرب انتصار. ويمكن ان يذكر الكثير غير ذلك على المستوى العربي كما على مستوى العالم الثالث أكان من جهة محاولات الهيمنة ام تشجيع انقلابات ضد قوى محايدة او صديقة لتصبح اكثر موالاة كما حدث في اليمن الجنوبي والصومال وأفغانستان وأثيوبيا؟ ولم تحل معادلة القطبين والحرب الباردة دون انزال ضربات قاسية في عدد من الدول التي لعبت دوراً طليعياً في حركة دول عدم الانحياز مثل اندونيسيا سوكارنو، وغانا نكروما، وحرب العدوان في حزيران يونيو 1967، أو تشيلي اليندي، بينما يمكن ان يُذكر للاتحاد السوفياتي وقوفه الى جانب كوبا، وفي حرب كوريا، وفي الثورة الفيتنامية، وإن لم يمنع العدوان الصارخ على سيادة دولة اشتراكية عند قصف فيتنام الشمالية، لا سيما العاصمة هانوي. وكان اشد مما تعرضت له بلغراد في المرحلة التالية. هذا وليس من السهل ان يوضع في مصلحة دوره حتى الثورات الناجحة التي قادتها احزاب شيوعية، وفي مقدمها الثورة الصينية، او الثورة الفيتنامية ومن قبلهما الثورة الكوبية. فهذه الثورات انطلقت ونجحت إما بدرجة عالية من الاستقلالية عنه، وإما بمستوى مقدر من الخلافية معه حيث كان من الممكن، لو قبلت بوجهة نظره، او ضغوطه وتدخلاته، ألاّ تكون اصلاً، أو لَطَوَت اعلامها كما حدث لعدد من الثورات التي باركتها ودعمتها في اثناء الغزو النازي للاتحاد السوفياتي. ثم عاد وعمل على اخمادها بعد اتفاق يالطا، او وفقاً لمساوماته، وأبرزها الثورة اليونانية التي كانت تدق أبواب أثينا العاصمة. ومن هنا، ان الصورة التي كان يقدّم بها الاتحاد السوفياتي نفسه وأنصاره من زاوية تشجيع الثورات وحركات التحرير وحماية الاستقلال وسيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، او اعتباره السند الذي اذا ذهب ذهبت ريح الشعوب، ليست دقيقة مطلقاً. ويجب ان يعاد النظر فيها بمنهجية تحدد بالضبط اين لعب دوراً ايجابياً، وفي أي ظرف، والى أي حد، وأين كان دوره سلبياً وربما اكثر من سلبي. فتلك الصورة مهزوزة جداً ومتداخلة وأشد تعقيداً. وهذا ليس قبل تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار نظامه فحسب وإنما أيضاً ينطبق على المقولة التي اعتبرت الشعوب والدول بلا حول ولا طول بعده، إذ لم يعد بالامكان غير الانحناء امام العاصفة والرقص على إيقاع الطبل الأميركي. فهذه المقولة، كما هو المشهد اليوم، مهزوزة جداً، ومتداخلة وأشد تعقيداً كذلك، وربما اثبت قادم السنين ان العكس أقوى احتمالاً. فالذي يتابع وضعية العالم بعد عشر سنوات من غياب الاتحاد السوفياتي يجد ان اميركا تواجه من الصعوبات والمآزق ومن المعارضة والمقاومة والعزلة ما يزيد على الحال التي كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة. فروسيا تنخرط الآن في سباق تسلح جديد، وإن كان الفضل للسلاح الذي ورثته من الاتحاد السوفياتي، والصين في مواجهة مع اميركا تكاد تعلن حرباً باردة جديدة، ولعل أوروبا في وضع اكثر قدرة على تعزيز وحدتها واستقلاليتها بعد زوال ما كان يسمى بالخطر السوفياتي والتهديد الشيوعي حتى من داخلها، وفي عقر دارها. ولم تعد الرأسمالية باهرة في أعين شعوب "المنظومة الاشتراكية" كما كانت من قبل حين كان الاتحاد السوفياتي خير مروّج للرأسمالية والديموقراطية عندها. والذي يتابع الموضوع في انحاء العالم الثالث لا سيما في منطقتنا العربية سيجد ان الشعور بفقدان "السند" أو ب"السطوة المطلقة او شبه المطلقة" التي اصبحت لأميركا والدولة العبرية بعد ذهابه سرعان ما أخذ يتلاشى لتحل محله صورة الفشل في فرض تسوية وفقاً للشروط الاسرائيلية أو اقامة "نظام شرق أوسطي جديد". وسيجد عَدْواً، ولو متثاقلاً، الى التضامن العربي، وإحياء لدور منظمة "أوبك"، ومنظمة المؤتمر الاسلامي والجامعة العربية. والأهم ما تحقق من انتصار في دحر الاحتلال من جنوبلبنان، وبلا قيد أو شرط. وهو ما كان من الممكن ان يتحقق في معادلة الحرب الباردة وسقوفها ومساوماتها. ثم اندلاعة الانتفاضة الفلسطينية الراهنة وانتقال المقاومة المسلحة الى مستويات لم تبلغها في المرحلة السابقة. والأمر كذلك بالنسبة الى الاجماع الشعبي العربي والاسلامي من حولها، معطوفاً، على اتساع الصحوة الاسلامية، وقيام جبهات عريضة من قوى اسلامية وقومية ووطنية ويسارية. وهو لم يكن ممكناً من قبل بسبب الدور السوفياتي. بكلمة أصبح العالم بعد غياب الاتحاد السوفياتي أكثر عرضة للفوضى بين الدول، ولتعاظم ادوار الشعوب، مما كان عليه في مرحلة الحرب الباردة حيث كان بامكان الجبارين الدوليين ومعسكريهما ان يضبطا الدول والشعوب ويحددا سقوف الصراعات بينهما، بدرجة أعلى من قدرة اميركا وحدها على فعل ذلك. وها نحن اولاً نشهد اتساع الآفاق اكثر فأكثر امام حركة الشعوب وانتفاضاتها، وحركة الاحتجاجات الشبابية في الغرب نفسه. ثمة ملحوظة يجب الانتباه اليها، وهي ان جزءاً مهماً من الطاقات الفكرية والابداعية والسياسية التي اجتذبتها الحركة الشيوعية، او اثرت فيها، ووضعتها تحت انضباط صارم، وحددت لها مساراتها، كما لو انها قاطرات تسير على سكة حديد لا حيدة عنها، مرشحة لتتولد من داخلها، في ظل الاستقلالية وحرية التفكير والبحث عن الخيارات والبدائل السياسية والاقتصادية، ابداعات كانت مكبوتة ومجهضة. وقد ينطبق هذا، بعد زوال سطوة "المركز" على الماركسية نفسها وتجديدها او اعادة صوغها، وعلى حركة اليسار نفسه في الغرب وهو ما اخذت تبدو بوادره في عدد من التوجهات الجديدة والكتابات الجديدة المتحررة من الجمود والنصيّة الماركسية. وأخيراً، لعل ما اعتبره الكثيرون شراً نزل بساحتهم كان خيراً لهم ولشعوبهم ودولهم ستظهر أُكُلُه بعد حين.