سود وملونون وفقراء وفلسطينيون في جنوب افريقيا، يتعاطفون مع بعضهم بعضاً، أما فاتورة قرون من الذل والاضطهاد، فالأقوياء يأنفون دفعها، تفادياً للاعتراف بما ارتكبوه. يجوز وصف مؤتمر مناهضة العنصرية بأنه مؤتمر الفقراء ضحايا الاستعمار والعبودية التي ما زالت تُمارس بأشكال شتى. لذلك ليس مفاجئاً أن يتغيب عن هذا المنتدى جميع زعماء الدول الغنية، ليتركوا الأممالمتحدة وحدها في مواجهة "الضعفاء". مع الأغنياء أيضاً، اصطف أمثال الاسرائيليين الذين يطلبون صك براءة جديداً من العنصرية، فيما يسوقون الفلسطينيين يومياً الى المقصلة. يذكّرون العالم بتلك "المحرقة" وسيلة ابتزاز للسكوت على المذبحة التي تتوالى فصولها منذ سنة في الأراضي الفلسطينية، مع كل أنواع الاستعباد والذل والقهر. حتى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان، الذي تحدث عن مأساة المدنيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدا كمن يطلب صك براءة للمنظمة الدولية التي انضمت الى المتفرجين على المقصلة، بعدما أوصدت واشنطن أبوابها ومجلس الأمن أمام أي محاولة انقاذ لوقف آلة شارون العسكرية. صحيح أن انان انتقد ما يفعله الأخير من تشريد للمدنيين و"احتلال وحصار وقتل من دون محاكمات"، مذكّراً اليهود بأن ما تعرضوا له على أيدي النازية لا يبرر ما يفعلونه بحق شعب آخر، لكن الصحيح أيضاً أنه اختصر الجرائم الأربع بمجرد "أذى" يلحق بالفلسطينيين، وساوى بينهم وبين الاسرائيليين، من دون اعتبار لأسباب حرب تفرّغ فيها الدولة اليهودية حقداً عنصرياً... بسلاح أميركا "حامية" الحريات وحقوق الانسان، في قاموس مصالحها. المفارقة ان مؤتمر ديربان الذي ينعقد قبل أيام من اكتمال سنة على الانتفاضة وحرب شارون، كان مناسبة لاحراج الوفد الفلسطيني بصيغة "وسط" تبرئ شيئاً من تاريخ اسرائيل، من سجل مقيت لم يعد بحاجة الى مزيد من التزوير، إلا في ديبلوماسية الحليف الأميركي. وإذا كان هناك من يتساءل عن "سر" قدرة جيسي جاكسون على استدراج عرفات الى التنازل عن ادانة الصهيونية، على أمل تفادي فشل المنتدى، وتسهيل عقد اللقاء المرتقب بين الرئيس الفلسطيني ووزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز، فالواضح أن توقيت موقف كهذا لا يخدم هدف كسر عزلة السلطة الفلسطينية بمقدار ما يزعج قادة الفصائل المشاركة في الانتفاضة. وفي كل الأحوال لن يحتاج شارون الى فرصة "نادرة" لنسف اللقاء، ومواصلة خطط الحصار والاغتيالات والتدمير، مثلما تجاهلت الغالبية الساحقة من اليهود كل ما أظهرته السلطة من رغبة في تعايش آمن بين دولتين، حين انقلبوا على اتفاقات أوسلو، وانتخبوا زعيم ليكود لاحياء مشاريع الصهيونية ودفن المفاوضات. لا أحد واهماً في أمل ب"اعلان ديربان"، إذا كان الهدف وقف حمام الدم الذي يتلذذ شارون بفصوله، لكن الأكيد ان ادارة بوش التي خدعت العالم بمقولة مراجعة السياسة الأميركية، وتواطأت مع اسرائيل منذ اليوم الأول للعهد الجديد، مارست ابتزازاً آخر مع الفلسطينيين في جنوب افريقيا، على أمل ضرب التفافهم حول الانتفاضة، بنصب فخ بين السلطة والفصائل... وإلا ما معنى تبرئة الصهيونية بلسان فلسطيني، فيما يواصل يهود "ليكود" و"العمل" حرب الابادة في الضفة وغزة، واعطاء دروس في الحقد ربما لن تمحوها مئة سنة؟ "المثير للذهول أن بعضهم يطبق مع الفلسطينيين السياسة التي وقع ضحيتها في الثلاثينات" من القرن الماضي. هذا الكلام ليس لزعيم عربي يتذكر "محرقة" النازية، بل لوزير الخارجية الفنلندي الذي صُدِم لصمت العالم إزاء النكبة الجديدة لفلسطين.