لم يكن شارون ليجد في البيت الأبيض حليفاً أفضل من الرئيس جورج بوش، يسدي له الخدمات واحدة تلو الأخرى، حتى من دون أن ينبس. ومن ينصت إلى العبارات الأخيرة للرئيس الأميركي، من دون أن يعرف المتحدث، يظن أنه شارون نفسه، في أقصى تطرفه. وهكذا، في يوم واحد أفلح بوش في توجيه ضربات متتالية، ربما لم يكن يحلم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي أو بقطف ثمارها بهذه السرعة: الرئيس الأميركي الذي يشاطره حبه المغامرة والتطرف والتحدي، إلى حد التهور، جدد "شروط" احياء التفاوض مع الرئيس ياسر عرفات لينسف احتمالات لقائه بيريز، بعدما بدا الأخير كأنه يمارس عصياناً على أوامر رئيس الوزراء. وأطاح بوش جهود الوساطة الألمانية لتعزيز احتمالات الحوار واللقاء، وكذلك آمال الفلسطينيين بقرار متواضع لمجلس الأمن يساهم في وقف المذبحة التي ترتكبها إسرائيل منذ نحو سنة. وفيما كان المندوب الفلسطيني لدى الأممالمتحدة ناصر القدوة يلملم أوراقه في المجلس، بعدما لجأت الإدارة الأميركية إلى حملة تضليل ديبلوماسية من خلال تحريك المشروع البريطاني البديل من مشروع آلية الرقابة الدولية، وجه بوش ضربة أخرى لاجهاض مؤتمر ديربن لمناهضة العنصرية... ولم ينقصه سوى وصف الضمانات التي طالب بها لمنع تعرض المؤتمر للصهيونية، بأنها عربية! أليست تلك صورة سوداء للمفارقات المرّة، بعد نحو سنة على انطلاق الانتفاضة الفلسطينية، وسقوط حوالى ستمئة شهيد؟ بالغ الرئيس الأميركي كثيراً في الضغط على عرفات، إلى حد يعتبره كثيرون من الفلسطينيين ابتزازاً وقحاً، لأن جوهر "فلسفة" بوش هو تأمين أقصى الغطاء السياسي لكل ما يرتكبه شارون من قصف وتدمير وقتل وتنكيل في أراضي السلطة. ومثل زعيم ليكود، لا يقدم البيت الأبيض أي ثمن لإنهاء الانتفاضة، باستثناء وعود بالتفاوض، بل لعله يعتبر المواجهة معركة الولاياتالمتحدة، كما تجلى في اجهاض التحرك في مجلس الأمن بسيف "الفيتو"، والتهديد بتكرار تجربته الأولى قبل خمسة شهور. إذاً، هل يبقى أمل بموقف أميركي منصف، فيما الرئيس ذاته الذي تستفزه العمليات الفلسطينية "الارهابية" كما يقول، لا يرى في قتل الأطفال في الضفة وغزة، واغتيال القياديين بالصواريخ، موجباً لكلمة إدانة واحدة؟ الجواب يبدو بديهياً، لكنه لا يلقى ما يوازيه، خصوصاً لدى العرب الذين اختاروا في الاجتماع الوزاري الاستثنائي قرارات "سرية"، لا تخفى على أحد. والسؤال هو هل أدرك الجميع مغزى الرسائل التي وجهها بوش الجمعة، وأبسطها استهتار بأي تحرك عربي، وبجديته طالما لم توخز بيانات التنديد "مشاعر" الولاياتالمتحدة ومصالحها. الاستخفاف الأميركي والعجز العربي والبطش الإسرائيلي، تكفي لاستمرار مجازر شارون، الذي تبرر له واشنطن تصميمه على "الانتصار"، فيمعن في خططه لقهر الفلسطينيين. وهذه يتعايش معها الجميع كأنها باتت واقعاً روتينياً. نجحت الإدارة في جعل مؤتمر مناهضة العنصرية، مناسبة أخرى للقهر، حتى بأيدي العرب، لتطالبهم بدور في إعادة الاعتبار إلى الصهيونية، فيما تصر على مساواة الانتفاضة بالارهاب. وإذا كانوا بعد سنة من الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، أكثر عجزاً عن اكتشاف أداة واحدة لتخفيف التطرف الأميركي، لن يراهن أهالي الضفة وغزة على "معجزة" انقاذ من الجوار، ولا على مهمة وفد جديد إلى الولاياتالمتحدة، بعدما نجحت في "تنفيس" التحرك المصري، وتضليله. أصبح واضحاً أن بوش يسعى إلى حشر عرفات بين خيارين: إما قتل الانتفاضة، وإما تدمير السلطة، ولا زعيم فلسطينياً يستطيع بيع دماء مئات الشهداء في مقابل تثبيت "انتصارات" شارون. وحشر الفلسطينيين في سجن مجازر لن يؤدي سوى إلى تصعيد المواجهات واخلاء الساحة لصوت الرصاص.