طلال ناجي. في الخيمة الأخرى صفحات من الذاكرة. دار الرواد، بيروت. 2001. 464 صفحة. لم يكن الدكتور طلال ناجي، نائب الأمين العام للجبهة الشعبية - القيادة العامة أحمد جبريل، قد أهدى النسخة الأولى من مذكراته لأحد عندما حصلت على نسخة منها في سورية وقرأتها في وقت يعز على الآخرين متابعة الاصدارات الجديدة! والذي يدقق في عناوين المراحل التي توقفت عندها المذكرات يتبين أن رحلة الكتابة عنده تذهب بعيداً إلى طفولة الفلسطيني وسط نار الحقد الأسود واغتصاب الأرض، لتنتقل بعدها إلى المنعطفات الحاسمة: أحداث أيلول سبتمبر في الاردن، الحرب الأهلية اللبنانية، الاجتياح، حرب المخيمات، العلاقة مع الأنظمة العربية الحليفة وغير الحليفة، صخب الخلافات المريرة بين التنظيمات يمينها ويسارها. وفي هذه المذكرات تبرز الأسماء والأحداث والأمكنة وكأن شريطاً يمر أمام القارئ فيحاول التمعن في الكثير من المعطيات. فما الذي يريده طلال ناجي من توقيت إصدار المذكرات؟ وما الذي يريده من إثارة آلام الجروح الماضية؟ وهل ثمة حال صحية في ذلك؟! واقعياً، كل هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة، لكن بحثها أو الرد عليها منوط بأصحاب العلاقة أنفسهم الذين كانوا أبطال المذكرات! وإذا كانت ذاكرة الطفولة في حد ذاتها تثير أحزان المأساة من أولها في بلدة الناصرة التي عاش فيها طلال ناجي، فإن الخيمة الأخرى تجتذب الذاكرة باتجاه هموم أوسع في المنافي وبين جثث الشهداء وأنقاض الأبنية المدمرة وصراخ الأطفال الواهن عند أقدام الضحايا في دمشق وعمان وبيروت، وأمام فجائعية خلافات الصف الواحد. لقد فتح الدكتور طلال ناجي صفحات سيرته الذاتية من خلال حديث شيّق عن الوطن المغتصب والكفاح من أجل العودة إليه. وفي هذه الصفحات تتبدى السيرة شائكة مسوّرة بحقول كثيفة للألغام، يحاول فيها الراوي أن ينحاز مباشرة إلى الخندق أو الموقع الذي يتحدث منه الآن. فنحن القراء أمام مواجهة مباشرة مع "اليمين الفلسطيني" داخل الثورة الفلسطينية على رغم أن العمليات الفدائية لم تكن قد ألهبت خواصر المحتلين بالنيران بعد. فطلال ناجي يتحدث عن "سياسة توريط" الأنظمة التي لم تمارسها جماعته، وقد ظهرت هذه العبارة اثر قيام بعض العمليات العسكرية من بعض الجبهات العربية، وليس من داخل فلسطين: كان لدينا شكوك بأن العمليات التي تنفذها "فتح" على الحدود مباشرة بتوجيه ورعاية من اللواء أحمد سويداني رئيس الأركان السوري في تلك الفترة كانت الغاية منها توريط مصر ودفعها لخوض غمار حرب غير مدروسة، وتعرض سورية لردود فعل من جانب العدو الصهيوني رداً على عمليات القشرة هذه! ويدخل الدكتور طلال ناجي في تفاصيل وجزئيات تشكل الثورة الفلسطينية، لكنه يقف وقفة جريئة عندما يتحدث عن التقليد الأعمى للقادة، حيث يعترف بأنه حاول تقليد قائد الجبهة أحمد جبريل في طريقة رمي القنبلة فبترت يده في تموز يوليو 1967 "ولا أدري لماذا خطر لي أن أقوم بإلقاء هذه القنبلة بذات الطريقة التي يتبعها الرفيق جبريل... فانفجرت في يدي!". وفي سياق السيرة الذاتية للرجل، تتداخل سيرة القوى الفلسطينية المنظمات مع سيرة القوى القومية والوطنية القوميون العرب، ونتعرف إلى تشابكات المسار الصعب في الثورة الفلسطينية من خلال مواقف الأشخاص وتغيراتها السياسية في البدايات: ياسر عبد ربه، أحمد زعرور، عدنان قاسم، حمد الفرحان، أحمد جبريل، جورج حبش، وديع حداد، أبو ماهر اليماني، علي بوشناق، أبو العباس، طلعت يعقوب، وكلها أسماء مهمة في سياق التسجيل اليومي لحركة القوميين العرب وحركة المقاومة الفلسطينية، وكلها تأثرت بأفكار جاءت من مختلف اتجاهات الريح! كما نستعيد شيئاً من مواقع الأحداث المريرة التي مرت بالمقاومة الفلسطينية كأحداث أيلول 1970 في الأردن والحرب الأهلية اللبناينة 1975-1976 وتداعياتها وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي الغزو للبنان في العام 1982، ومن ثم خروج المقاومة من لبنان. ومن الطبيعي أن تبرز شخصية ياسر عرفات في المفاصل التاريخية المهمة لكل صاحب سيرة ذاتية فلسطيني ينتمي إلى أحد الجبهات الفلسطينية، خصوصاً أن طلال ناجي رافقه في اللجنة المركزية من موقع المعارض له في السياق الوطني الفلسطيني. فبعد أحداث أيلول "بدأنا نرفع الصوت عالياً ضد ياسر عرفات وسياسته واتفاقاته التي أبرمها مع الملك حسين... كما اننا رفضنا الصفقات التي أخذ يعرضها عرفات بصيغة اتفاقات مع الملك حسين". وبعد حرب تشرين اكتوبر ودعوة الجبهة الديموقراطية لتبني قرار مجلس الأمن 242 "شعرنا أن ياسر عرفات يريد اطلاق بالون اختبار... واتضح تماماً أن من يقود اللعبة هو ياسر عرفات...". وبعد محاولة تصفية أحمد جبريل "كنت على اتصال مع رفاقي بواسطة اللاسلكي، واستطعت أن أتبين أن هناك مؤامرة كبيرة، وأن العديد من الأطراف متورط فيها، فعرفات آنذاك هو المسؤول الأول في بيروت، يعرف كل شيء، ويتدخل في كل شيء، وكان بإمكانه وقف ما يجري...". ويتسعيد الدكتور ناجي موقفاً مهماً لعرفات يتعلق بمشاريع التسوية، فيقول: "عرفات كان يقول لنا في اجتماعات اللجنة التنفيذية للمنظمة إنه لن يكرر تجربة أحمد الشقيري أو الحاج أمين الحسيني، وأنه يريد دولة ولو على شبر، ولو على الجفتلك في غور الأردن"! ويكشف طلال ناجي شيئاً من التفاصيل الصغيرة عن حياة عرفات وبعض القادة الفلسطينيين، ثم يحاول من خلال هذا الكشف تسويق الموقف السياسي الذي يريده، أو خدمة وجهة نظره السياسية، وهذه المسألة تعطي للمذكرات طابعاً جذاباً طالما أن من يتحدث عنهم ما زالوا أحياء: "قصة الدفاتر الصغيرة لياسر عرفات التي يضعها في جيبه على أساس أنه يدوّن عليها وقائع الحوارات الصعبة أو المفاصل المهمة، إضافة إلى حادثة ضرب نفسه في قمة فاس، ثم الاحتجاج بالتعب والنوم: "نزع ثيابه وقال: اخرجوا اريد أن أنام، وقبل أن نستقر في جلستنا سمعنا أصوات زمامير، فقالوا ذهب عرفات إلى الجلسة المغلقة وسيوافق على مشروع السلام!...". وعن العلاقة بين القيادة العامة والأنظمة العربية، يروي ناجي بايجاز إشارات عن حقيقة الدعم الذي تلقوه. فقبل أحداث أيلول 1970 "لم نكن بحاجة إلى نفقات كبيرة ولجأنا إلى اسلوب جمع التبرعات، وقد جاءت التبرعات من الكويت والعراق... أما ليبيا فقد نظرت إلينا كتنظيم مناضل فقدموا إلينا مبلغ مليون دولار لشراء الأسلحة، وأعدنا المبلغ لأننا لم نستطع شراء السلاح ولعبت هذه الواقعة دوراً مهماً بل وحاسماً في تثبيت مصداقيتنا عند اشقائنا في ليبيا". وظلت ليبيا الداعم الأساسي للقيادة العامة منذ ذلك الوقت ودفعت لها ملايين الدولارات... ويمكن لقارئ مذكرات طلال ناجي التوقف طويلاً عند فصلين مهمين هما الفصل المتعلق بالغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982 والفصل المتعلق بحرب المخيمات. ففي هذين الفصلين ينصت القارئ إلى تفاصيل شهادة مهمة من قيادي فلسطيني عايش الأحداث من داخلها، وبالتالي يمكن للتاريخ أن يقف عند وجهة نظر طرف من الأطراف المهمة. يعترف طلال ناجي بموضوعية بأخطاء جرت أثناء الغزو الإسرائيلي، خصوصاً أنه كان الشخصية الأولى في القيادة العامة الموجودة في بيروت قبل مجيء أحمد جبريل على رغم كسور في عموده الفقري ليعيش وقائع الحصار. إلا أنه يشكك بمواقف عرفات ليس من الناحية الوطنية، وإنما من الناحية السياسية، أو ربما البراغماتية. فعرفات فتح قنوات اتصال عدة وأجرى اتصالات في كل اتجاه من وراء ظهر الإطار الرسمي للمنظمة. يقول ناجي عن عرفات: "كان مرتبكاً وقلقاً للغاية، كان في وضع لم أشهده من قبل... كان قلقاً، ويجري اتصالات مع معظم قادة العالم باستثناء سورية"، ثم: "لم يكن عرفات يجاهر بما يجري أمام القيادات، لم يتحدث عن أنه يريد وقف النار والخروج من بيروت... ومع قدوم فيليب حبيب بدأ يمارس السياسة التي يتقنها، سياسة حافة الهاوية..."! ويتوقف ناجي عند اجتماع البكاء الذي طلب فيه اللبنانيون من الفلسطينيين الخروج من بيروت... "قالوا لنا: لقد دمرت بيروت، ولم يعد الناس قادرين على الاحتمال! وقال لي عرفات: يا طلال، نريد أن نحكم عقلنا... ان ننقذ ما يمكن انقاذه!". وعن موقف حواتمة، يقول جبريل: "حدثنا حواتمة عن الخروج من دون سلاح وضرب لنا أمثلة عن تصرف السوفيات في حالات معينة! ثم أن حواتمة بموقفه هذا كان يريد تسويق موقف عرفات. ولا استطيع أن أنسى موقف حواتمة وأبو صالح من موسكو والهجوم على موقف الاتحاد السوفياتي!". إن الوقائع التي توردها المذكرات كثيفة وشيقة ومركزة، إلا أنها تفتح الجراح مرة ثانية على أوجاع لم يعد الفلسطينيون بحاجة اليها في هذه الأيام. لكن وقائع المذكرات نوع من الشهادات المهمة في تاريخ المنطقة والمقاومة الفلسطينية. ولذلك ثمة دعوة لآخرين وأهمهم السيد ياسر عرفات إلى تدوين مذكراته أو املائها ليصار إلى استكمال المشهد التاريخي.