ترددت سابقة بيرل هاربر كثيراً، في الأيام الأخيرة، على ألسنة عدد من السياسيين والمعلقين، في سعيهم الى إدراك أو إلى تعقّل الكارثة الارهابية التي ألمت بمركز التجارة العالمية في نيويورك وبمقر البنتاغون في واشنطن. فالكارثة تلك كانت في عداد ما يستحيل توقعه، بذلك الحجم وبذلك المدى، ثم من قبيل ما يكاد يتعذر استيعابه حتى بعد حدوثه. لكن العمل الارهابي ذاك جدّ فعلاً، على مرأى ومسمع من العالم بأسره. وفي ذلك ما يقدم أجلى الأدلة وأشنعها على مدى تمكن ثقافة الموت، في بعض الأوساط، وعلى مدى استفحالها. فإذا كان من فظاعة يتجمد لها الدم في العروق، فهي لا تتمثل فقط في عدد ضحايا تلك الكارثة، ممن يعدون على ما يبدو بالآلاف، ولا فقط في الدمار الذي نجم عنها، بل ربما أساساً في ذلك الإقدام المرعب في برودته، في لا إنسانيته، بل في طابعه الآلي، على الموت، والذي أبدته مجموعة من بني البشر، انتحاراً وتقتيلاً. ذلك هو الجديد في تلك العمليات الارهابية التي هزت أميركا وضمير العالم، وذلك جوهر اختلافها عن كل ما عداها او سبقها في مضمارها، إن كان لها مضمار. فالعمل الانتحاري غالباً وعادة ما يكون عملاً فردياً في تنفيذه، وإن خططته جماعة و"أُنجز" باسم المجموعة، أمة كانت أو ما ماثل، وفداءً لها. حتى اليابان عندما لجأت في أواخر الحرب العالمية الثانية الى الكاميكاز يلقون بطائراتهم وبأنفسهم ضد أهداف العدو وينفجرون بها، إنما كانت ترسل أفراداً. فالاستعدادات للموت انتحاراً، وإن لغاية يراها صاحبها سامية، قرار فردي، تغذيه عوامل نفسية خاصة، يمثل عزل الفرد عن المجموعة بعض أمضاها وأكثرها فعلاً. بل ان المقدم على عملية انتحارية يبدأ خروجه من المجموعة، أي من عالم الأحياء، منذ لحظة انطلاقه في مهمته، وقبل ان يبادر الى تفجير نفسه. وهكذا، ربما لم توجد من حالات انتحار جماعي، الا في اطار بعض النحل الدينية، او المدعية تلك الصفة، من المهووسين بأنواعهم. وذلك ما يستثير بعض التساؤلات في ما يتعلق بكارثة نيويوركوواشنطن، وبمقترفيها. فإذا لم يكن أولئك من المنتمين الى بعض النحل "الدينية" المهووسة، على ما لا يبدو مرجحاً، أقله في حدود ما توحي به التقديرات الأولية للمحققين الأميركان، فإن في عملهم ما يؤشر الى مدى استفحال ثقافة الموت، على ما سبق القول، في زمننا هذا وفي بعض أوساطه مهما اختلفت مشاربها، تطرفاً وغلواً وكرهاً للذات وللآخرين. وخصم، أو عدو، كهذا ربما لا يجابه، أو لا سبيل الى مجابهته. فهو يقلب منطق النزاع، أي نزاع، منذ ان وجد الجنس البشري، رأساً على عقب. فإذا كان صراع البشر محوره البقاء، وحب البقاء، فهذا ضرب من صراع، محوره الموت، وحب الموت، للذات وللآخر. يصعب تفسير ما حدث بغير ذلك. وأن تنطلق مجموعة من الارهابيين، تعد 12 أو 24 فرداً على ما ذهبت التحقيقات الأولية، وأن تقدم على انتحار جماعي، وأن تأخذ معها في رحلتها تلك ركاب طائرات سفر مدنية، وأن ترمي بكل ذلك وقوداً لدمار هدفه البشر والمنشآت، وأن لا يعقب ذلك أي شرح للهدف المنشود، وأي تبنٍ للمسؤولية، فذلك ما يكون من صلب ثقافة الموت تلك ومن آياتها، تكتفي بذاتها، وتستقي منطقها من ذاتها، لا حاجة لها حتى بالإدلاء به. غير ان كل ذلك، على ما قد تكون له من أهمية، ليس على الأرجح ما يعني الدول، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، القوة المستهدفة وأكبر دول العالم، في المقام الأول. فالدول لا تمثل "ميتافيزيقا العنف" شاغلها الأساسي، بل ان همها هو تحديد الأعداء، واستبطان سبل المواجهة. هكذا إذاً، وعلى الصعيد العملي، سيكون للكارثة الأميركية الأخيرة، أثر بعيد الغور على سلوك الولاياتالمتحدة في العالم وعلى موقعها منه، وبالتالي على الحياة الدولية برمتها. فالكارثة تلك، ستعيد إدراج الولاياتالمتحدة في العالم، او ستعيد صوغ اندراجها فيه، وذلك ما قد يجد فيه مستحضرو سابقة بيرل هاربر بعض أوجه الشبه. فكما كان لذلك الهجوم الذي شنّته اليابان في أثناء الحرب العالمية الثانية على تلك القاعدة الأميركية أن زج بها في أتون تلك الحرب، حتى هزيمة طوكيو وضرب هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية، في ما كان أقرب الى الفعل الانتقامي الذي لا يكاد يجد له من مبرر عسكري، فإن كارثة نيويوركوواشنطن الارهابية ستمثل من دون شك تحولاً في صوغ النصاب الدولي لما بعد الحرب الباردة، وموقع الولاياتالمتحدة منه وفيه. وفي ذلك الصدد، يمكن القول إن الكارثة الارهابية المذكورة أنهت مفارقة أو وضعت حداً لوضع غريب، ما أنفك منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وحلول العولمة، لصيقاً بالولاياتالمتحدة، وازداد رسوخاً مع انتخاب جورج بوش ومع النوازع الانعزالية التي يتسم بها او يعبر عنها. ذلك الوضع المفارق هو المتمثل في ان القوة العظمى هي حاملة عولمة في الخارج، داعية انكفاء في الداخل، هي الامبراطورية الكونية على الصعيد العالمي، والقوة "الترابية" او القارية، ضمن حدودها، هي الكيان "الفضائي" على صعيد حضوره الاقتصادي والمالي والمعلوماتي والعسكري في ارجاء المعمورة، يوازيه انغلاق يكاد ان يكون من طبيعة زراعية، على ما كانه المجتمع الاميركي خلال فترة غالبة من تاريخه الوجيز. الكارثة الارهابية الأخيرة ربما حسمت تلك المراوحة على نحو مبرم نهائي. لم تعد اميركا الوحيدة التي تلج العالم، من جانب واحد، بل إن العالم، ومشكلاته وخطوبه وجرائمه وتوتراته وتشنجاته قد ولجها بدوره، على نحو صاخب ومدمر، وانتقل بها من حال الى حال، فحقق بذلك تحولاً لا رجعة فيه، ولا سبيل الى تداركه وإلى اعادة الأمور الى نصابها الذي كانت عليه قبل يوم الثلثاء الماضي. والتحول ذلك يوازيه بدوره انقلاب على الصعيد الدولي. فلأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة، يبدو ان الغرب بصدد استعادة هويته كمعسكر قائم الذات، بالمعنى العسكري والأمني والاستراتيجي، على ما كان شأنه أيام مقارعة الاتحاد السوفياتي. فالدول الغربية تكتلت حول الولاياتالمتحدة في غضون الأيام القليلة الماضية كما لم يسبق لها ان فعلت منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، وكان حلف شمال الاطلسي أمضى تعبيرات تضامنها مع الحليف الأميركي الكبير. فقد أعاد قادة الحلف العمل ببند من بنود اتفاقيتهم، هو ذلك الذي يعتبر ان اي عدوان ينال من احد اعضائه إنما يستهدف أولئك الأعضاء جميعاً، كما تردد حديث عن امكان قيام حلف الناتو، بصفته الجماعية تلك، بالاقتصاص من أفغانستان في صورة ثبوت ضلوعها في الكارثة الأخيرة، إن مباشرة، أو من خلال نزيلها أسامة بن لادن. وهكذا، ومهما كان حجم الدمار البشري والمادي الذي لحق بالولاياتالمتحدة، الا انها بدأت تجني أولى الثمار السياسية، هي تلك المتمثلة في تجنيد العالم، أو الحلفاء، حولها في محاربة الارهاب، وهو ما سبق لها ان بذلت بالغ الجهد من اجل تحقيقه ولم تفلح. غير انه، على رغم تلك المؤشرات القليلة، فإن صورة العالم، بعد كارثة مركز التجارة الدولية، لم تتحدد معالمها بعد... الا ان ما يمكن الجزم فيه انه لا يوجد ما يبشر بأنها ستكون لصالحنا ولصالح قضايانا.