في حمأة هذا الذي يجري منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر الماضي، نسينا أن نقول للأميركان مرحباً بكم في كوكب الأرض! فسكان الولاياتالمتحدة عاشوا طويلاً في مأمن من العالم ومن شروره، أو هكذا كان يخيل إليهم، طوال الفترة الممتدة من نهاية الحرب الباردة وزوال هاجس الدمار النووي الشامل، حتى الكارثة الإرهابية الأخيرة التي أصابت نيويوركوواشنطن، وتلك فترة وإن كانت وجيزة بمقياس الزمن، إلا أنها كانت مديدة إذا ما قيست بمعايير ملكة النسيان التي جُبل الإنسان عليها والتي تزين له تأييد لحظات سعادته، أو بمعايير سرعة اكتساب عادات التفكير والسلوك واستقرارها، كأنها كانت دوماً هناك. لقد بدا الأميركيون، في تلك الفترة، كأنهم اهتدوا إلى اكسير العولمة ووصفتها السحرية، لا ينالون منها إلا أفضل ما فيها: امتداداً إلى جميع بقاع الأرض، اقتصادياً وتكنولوجياً وثقافياً، وانزواء داخل بلدهم - القارة يقيهم غائلات العالم الخارجي وازعاجاته ومنغصاته. فالعولمة كانت بالنسبة إليهم، أو إلى قطاع منهم واسع، عيشاً في عالم افتراضي، الشاشة هي واسطة التعاطي معه، اقتصاد هذا البلد من البلدان أو ذاك لا يعدو أن يكون جداول وخطوطاً بيانية يجري التحكم فيها أو توجيهها، انخراطاً استثمارياً أو انسحاباً، من خلال شاشة الكومبيوتر، أما الحروب، إذا ما دعت إليها الحاجة، فهي تخاض وفق نظرية "الصفر قتيل" من بعيد، لا تأتي صورها إلا أشبه بألعاب الفيديو، على ما هو معلوم كُتب حوله الكثير. وإن أردنا أن نستعيد مقولة لاكتها الألسن كثيراً خلال السنوات الماضية هي تلك التي زعمت نهاية التاريخ، فإنه يمكن القول إنها كانت على قدر من صحة إذا ما تعلق الأمر بالولاياتالمتحدة ذاتها، تلك التي بدا وكأنها ألغت التاريخ في داخلها، فلم يعد لها من تاريخ إلا على الصعيد الخارجي، أي أن تاريخها بات في الخليج، كما حصل ابان حرب تحرير الكويت، أو في البلقان، حيث كانت واشنطن القوة الفاعلة في إعادة رسم الخرائط والكيانات وزوال الأنظمة والانتقال من طور إلى طور... كانت أميركا تعيش ما بعد التاريخ في داخلها، والتاريخ في العالم، ولا واسطة بين السياقين ذينك سوى ما تتيحه شاشات التلفزيون والكومبيوتر. الحادي عشر من أيلول ربما أنهى كل ذلك، وأخرج الولاياتالمتحدة من ضرب من عولمة افتراضية إلى أخرى واقعية. كان للأمر مفعول الصدمة لا شك، لكنه كان له مفعول ايلاج العالم في أميركا على نحو ما أن أميركا ضالعة في العالم، بل أكثر قوى العالم ضلوعاً فيه. كان الأمر عبارة عن بيداغوجية مكثفة في ذلك الصدد "أنجزت" في خلال ساعة أو بعض ساعة، ما لم تحققه حركات مناهضة العولمة الكثيرة والناشطة في الولاياتالمتحدة طوال سنوات عدة أو أنها لم تنل في شأنه بعض النتائج إلا ببطء ومشقة. بطبيعة الحال، كان من الأفضل لو استمر جهد الاستفاقة على العالم الخارجي يجري وفق وسائل الاعتراض السلمي والديموقراطي، متمثلاً في حركات مناهضة العولمة، تلك التي تمتلك خطاباً وحججاً، وتسعى إلى اجتراح بدائل جدية وذات افق إنساني لا ريب فيه. غير أنه حدث أن جدّت تلك الاستفاقة على ذلك النحو الاجرامي المعلوم، وان هذا قد بات معطى لا بد من الانطلاق منه. فقد اكتشف الأميركيون حقيقة بسيطة، قد تبدو لسواهم بديهية، هي ان العالم ينطوي على مخاطر، وان المخاطر تلك يمكنها أن تنال منهم. وما هو أهم من ذلك، أن تذليلها والتغلب عليها ليسا بالأمر السهل، وانها من فعل عدو أو أعداء ليسوا من قبيل ما خبروه حتى الآن، منذ نهاية الحرب الباردة، أي من قبيل صدام حسين أو سلوبودان ميلوشيفيتش، يجمعون بين خصلتين أساسيتين: انهم من نمط تقليدي، أي يخوضون في نهاية المطاف صراعاً من قبيل جيوبوليتيكي تقليدي، قوامه الدولة وحدودها وكيانها ومجالها، وانهم ممن يمكن، ربما بسبب تلك المواصفات تحديداً، مواجهتهم بالوسائل التكنولوجية المتقدمة التي برهنت على فاعليتها، وإن رافقتها أخطاء مميتة ضد القوات العراقية في حرب الخليج الثانية أو ضد صربيا في حرب كوسوفو. الحرب الدائرة حالياً ضد الإرهاب لا يحصرها إطار جيوبوليتيكي معلوم، إذ ليس لها من مكان تجري فيه. حتى أفغانستان قد لا تكون مكانها، بالمعنى السياسي والكياني المتعارف عليه. فواشنطن تواجه في حركة "طالبان" قوة ليست بالدولة ولا بحركة التحرر، بل تجمع، بالنسبة إلى الولاياتالمتحدة بين مساوئ الدولة المعادية ومساوئ حركة التحرر. قد لا يجدي معها القصف، لأنها لا تنحصر في مكان وفي منشآت وفي بنية تحتية يمكن ايذاؤها من خلال النيل منها، وقد يعسر التدخل الأرضي ضدها، لأنها حاضرة على الأرض حضور الدولة أو ما قد يكون من قبيله. ثم أن الحرب تلك لا يحصرها مكان، لأنها تجري كذلك داخل تراب الولاياتالمتحدة ذاتها، وأحياناً في قدس أقداس دولتها، من خلال ذلك الرعب المقيم من حصول عملية إرهابية جديدة، على ما تردد السلطات الأميركية محذرة، أو من خلال جرثومة الجمرة الخبيثة أو سواها من الأسلحة البيولوجية سواء صحت نسبة ذلك إلى بن لادن وتنظيمه "القاعدة" أم ، تلك التي تسللت حتى إلى المواقع العليا للسلطة الأميركية، ممثلة في الكونغرس أو سواه. لم يحدث في تاريخ الولاياتالمتحدة أن تمكنت قوة معادية من أن تنقل المواجهة إلى داخلها، أو أن تفتح في أعماقها جبهة داخلية على ما فعلت هذه المجموعات الإرهابية، حقيقة أم افتراضاً. لا المانيا أفلحت في ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، ولا الاتحاد السوفياتي نجح في ذلك طوال نصف القرن الذي استغرقته الحرب الباردة. وهذا ما قد يكون الفحوى الحقيقي للسجال الدائر هذه الأيام في الولاياتالمتحدة وربما في سائر الغرب على نحو أعم، والمتعلق بالتساؤلات وبالانتقادات لمجرى المعارك ولطريقة الإدارة الأميركية لها، عسكرياً وسياسياً، وما يقال عن فتور بدأ يتبدى لدى الرأي العام حيال تلك الحرب، جرى تأويله على أنه تراجع في الحماس أو في مساندة الجمهور لتلك الحرب، على ما أوحت استقراءات للرأي عدة، ان في الولاياتالمتحدة أو في عدد من بلدان أوروبا. لا شك في أن المزاج لم يعد كما كان عليه في 11 أيلول وفي الأيام التي تلته مباشرة، لكن الفتور ذاك، أو ما اعتبر كذلك، قد لا يمثل يأساً من الحرب ومن مآلاتها المحتملة، بقدر ما يمثل استدخالاً لمبدأ الواقع، ودليلاً على أن "بيداغوجية" الكارثة الإرهابية الأخيرة فعلت فعلها، وان الرأي العام الأميركي ربما بات على بيّنة من أمر أساسي: انه يتعين عليه، من هنا فصاعداً، أن يعايش الخطر وأن يستوعبه بنداً من بنود حياته، وأن زمن المناعة المطلقة، حقيقة كانت أم توهماً، ولى إلى غير رجعة، وان الأميركان باتوا جزءاً من العالم، كما هو، وانهم باتوا يعون ذلك. فهل نقول لهم، اعتباراً لهول ما ينتظرهم، أهلاً بكم على كوكب الأرض؟